أخنوش يؤكد أن حكومته تدشن عهدا جديدا في مجال التشغيل    حزب الرئيس السابق لجنوب إفريقيا يدعم المقترح المغربي للحكم الذاتي    السعدي : قطاع الصناعة التقليدية باقليم تزنيت سيعرف تطورا ملموسا بفضل برنامج شامل ومندمج    إشادة فلسطينية بدور جلالة الملك في الدفاع عن القضية الفلسطينية    المهاجرون المغاربة في مرمى العنف العنصري بإسبانيا    ابن جرير: توقيف 3 أشخاص أضرموا النار وقطعوا الطريق العام وعرضوا سلامة الأشخاص والممتلكات للخطر    "أكسيوس": أمريكا طلبت من إسرائيل التوقف عن مهاجمة القوات السورية    رصيف الصحافة: الموسيقى الصاخبة تكشف تحول مقهى الى مرقص ليلي    عيد العرش: رؤية ملكية رائدة من أجل مغرب متقدم ومزدهر    وسط إشادة المؤسسات المالية الدولية.. أخنوش يعبر عن فخره بوضعية الاقتصاد الوطني وتدبير المالية العمومية    إطلاق تجربة نموذجية لصيد الأخطبوط بالغراف الطيني دعما للصيد البحري المستدام والمسؤول    وزارة: برنامج "GO سياحة" يذلل العقبات أمام المقاولين في القطاع السياحي    الأمم المتحدة…الضفة الغربية تشهد أكبر نزوح منذ 1967    مجلس النواب يصادق على مشروع القانون المتعلق بإحداث "مؤسسة المغرب 2030"    ميناء طنجة المتوسط يعلن عن استثمار ضخم بقيمة 5 مليارات درهم لتوسعة محطة الشاحنات        الاتحاد صوت الدولة الاجتماعية    صحيفة كندية: الداخلة، «ملتقى طرق» يربط بين فضاء البحر المتوسط ومنطقة جنوب الصحراء    "طقوس الحظ" إصدار جديد للكاتب رشيد الصويلحي"    "الشرفة الأطلسية: ذاكرة مدينة تُباد باسم التنمية": فقدان شبه تام لهوية المكان وروحه الجمالية    أخنوش يستعرض بالبرلمان خطة الإنعاش الاقتصادي والإصلاح في ظل "الإرث الصعب"    مورسيا تحقق في "جرائم الكراهية"    "دراسة": الإفراط في النظر لشاشة الهاتف المحمول يؤثر على مهارات التعلم لدى الأطفال    وفاة معتصم "شاطو" أولاد يوسف بعد قفزه من خزان مياه واحتجازه عنصرًا من الوقاية المدنية    تنظيم حفل بمناسبة انتهاء مدة الخدمة العسكرية للفوج ال39 من المجندات والمجندين بالقاعدة الأولى للبحرية الملكية بالدار البيضاء    إحداث "مؤسسة المغرب 2030" يوحد الأغلبية والمعارضة في مجلس النواب    نشرة إنذارية: موجة حر وزخات رعدية مصحوبة بتساقط البرد وبهبات رياح من الثلاثاء إلى الجمعة بعدد من مناطق المملكة    وزارة الفلاحة تدافع عن جمعية مربي الأغنام والماعز وتؤكد أن حساباتها تُدقَّق سنويا    تضامن واسع مع الإخوة الشبلي بعد حبسهما بسبب مطالبتهما بكشف ملابسات وفاة أخيهما    لامين جمال يثير تفاعلاً واسعاً بسبب استعانته ب"فنانين قصار القامة" في حفل عيد ميلاده    وفاة أكبر عداء ماراثون في العالم عن عمر يناهز 114 عاما    حكيمي يختتم الموسم بتدوينة مؤثرة    موجة حرّ شديدة وأجواء غير مستقرة بعدد من مناطق المملكة    تقارير أرجنتينية.. المغرب وقطر والبرازيل في سباق محتدم لتنظيم كأس العالم للأندية 2029    المنتخب المغربي يواجه مالي في ربع نهائي "كان" السيدات    بورصة البيضاء .. تداولات الافتتاح على وقع الانخفاض    قارئ شفاه يكشف ما قاله لاعب تشيلسي عن ترامب أثناء التتويج    فرانكو ماستانتونو: مكالمة ألونسو حفزتني.. ولا أهتم بالكرة الذهبية    العيطة المرساوية تعود إلى الواجهة في مهرجان يحتفي بالذاكرة وينفتح على المستقبل    "فيفا": الخسارة في نهائي مونديال الأندية لن يحول دون زيادة شعبية سان جيرمان    كيوسك الثلاثاء | توجه جديد لتقنين استعمال الهواتف داخل المؤسسات التعليمية    وفاة المسمى "بوعبيد" المعتدي على عنصر من الوقاية المدنية بالمستشفى بعد إلقاء نفسه من أعلى خزان مائي    الإفراط في النظر لشاشات الهواتف يضعف مهارات التعلم لدى الأطفال    المجلس الوطني لحقوق الإنسان يحتضن دورة تكوينية لفائدة وفد فلسطيني رفيع لتعزيز الترافع الحقوقي والدولي    اليونسكو تُدرج "مقابر شيشيا" الإمبراطورية ضمن قائمة التراث العالمي... الصين تواصل ترسيخ إرثها الحضاري    "مهرجان الشواطئ" لاتصالات المغرب يحتفي ب21 سنة من الموسيقى والتقارب الاجتماعي        الذّكرى 39 لرحيل خورخي لويس بورخيس    زمن النص القرآني والخطاب النبوي    لأول مرة.. دراسة تكشف تسلل البلاستيك إلى مبايض النساء    وفاة مؤثرة مغربية بعد مضاعفات جراحة في تركيا تشعل جدلا حول سلامة عمليات التخسيس    مهرجان ربيع أكدال الرياض يعود في دورته الثامنة عشرة    تواصل ‬موجات ‬الحر ‬الشديدة ‬يساهم ‬في ‬تضاعف ‬الأخطار ‬الصحية    وفاة الإعلامي الفرنسي تييري أرديسون عن عمر ناهز 76 عاما    "مدارات" يسلّط الضوء على سيرة المؤرخ أبو القاسم الزياني هذا المساء على الإذاعة الوطنية    التوفيق: معاملاتنا المالية مقبولة شرعا.. والتمويل التشاركي إضافة نوعية للنظام المصرفي    التوفيق: المغرب انضم إلى "المالية الأساسية" على أساس أن المعاملات البنكية الأخرى مقبولة شرعاً    التوفيق: الظروف التي مر فيها موسم حج 1446ه كانت جيدة بكل المقاييس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شريط "ستة أشهر ويوم" فصاحة الصورة وبلاغة التقنية
نشر في لكم يوم 16 - 08 - 2022

عدت في تلك الليلة من رمضان إلى البيت استلقيت أمام التلفاز أبحث عن لحظة استمتاع وإفادة … شدني شريط تلفزي مغربي بالقناة الثانية، وقفتْ فيه البطلة تعترف لثلاثة أشخاص أمامها قائلة (عندي سرطان في مراحله النهائية تعبت من الأدوية وهذا الداء الخبيث لا يزيد إلا انتشارا بذاتي … الطبيب أخبرني أنني لن أعيش إلا ستة أشهر وها أنذا أعيش يوما بعدها… زياد خديجة أتوسل إليكم إن حصل لي مكروه اعتنوا بإبراهيم عاملوه كأخ لكم … هيا ساعدوني على وضع الأواني بالسيارة) وما كدت أعدل جلستي لمتابعة باقي الأحداث حتى فاجأني آخر مشهد في الشريط يُظهر البطلين والطفل زياد داخل سيارة في جو عائلي مع بزوغ أشعة شمس تزرع أملا في طريق هذه العائلة… عرفت من جينيريك النهاية أن الأمر يتعلق بشريط (ستة أشهر ويوم) للمخرج عبد السلام الكلاعي… من يومها لم يغب عن ذهني ذلك المشهد وعشت أمنّي النفس بفرصة تتيح لي مشاهدة الشريط كاملا ولي قناعة أنه سيحتفي باللغة ما دام اختيار كلمة "أشهر" في العنوان بدل "شهور" تنم عن اختيار واع بأهمية التمييز بين جمع القلة (أشهر) وبين جمع الكثرة (شهور)… وكبرت الأمنية أكثر لما عرفت في ما بعد أن الشريط حصد ثلاث جوائز هي الجائزة الكبرى وجائزة الإخراج وجائزة التشخيص ذكورا في مسابقة مهرجان مكناس للدراما التلفزية…
وتحققت تلك الأمنية لما أعادت القناة الثانية عرض الشريط ليلة السبت 14 غشت 2022، وأسعفني الوقت لأنقطع عن العالم زهاء ساعة ونصف حملني فيها الشريط إلى عوالمه، وما أن طلع جينيريك النهاية أمامي من جديد حتى وجدتني أنزوي إلى حاسوبي الشخصي أدون ملاحظات عسى أشارك القراء والمهتمين بالسينما والدراما المغربية بعض من تلك الملاحظات في هذا المقال….
"ستة أشهر ويوم" تحفة تلفزية للمخرج المغربي عبد السلام الكلاعي صدرت سنة 2021 إنتاج القناة الثانية، بعد عدد من الأعمال تشكل ريبرتوارا متنوعا لهذا المخرج يجمع بين المسرح والأفلام السينمائية القصيرة والطويلة، والأشرطة التلفزية والمسلسلات، مما بوّأته لأن يكون فاعلا سينيماتوعرافيا له وزنه بالمغرب…
يحكي شريط "ستة أشهر ويوم" حكاية مركزية تحوم حولها حكايات فرعية تكملها، تتلخص الحكاية البؤرية في قصة شابين خريجي مدرسة الفنون الجميلة بتطوان تزوجا عن حب، استقرا بمدينة العرائش يعيشان من مشروعهما الشخصي يبيعان فيه ما ينتجانه من أوان خزفية ولوحات تشكيلية، وقبل أن يرزقا بأبناء، تكتشف هدى إصابتها بداء السرطان وقد استشرى في جسدها، ليحدد لها الطبيب أمد حياة لا يتجاوز ستة أشهر كأقصى، تعيش خلاها معاناة أمام استحالة إجراء عملية جراحية بعد أن تفشى الداء في الجسد، وصعوبة الاعتماد على العلاج الكيماوي لتكاليفه الباهظة بالنسبة لسيدة لا تسفيد من أي تغطية صحية وترفض بيع منزلها خوفا من تشريد زوجها إبراهيم، ورغم ما تعانيه من ألم أصبح همّها الأول التفكير في كيف سيعيش هذا الزوج بعد وفاتها وهو الآخر يعاني اضطراب التوحد…
تداريهدىألمهاوتسعىعبركلالسبلالممكنةعسىتضمنلإبراهيمحياةمستقرةقبلرحيلها… ولما باءت كل محاولاتها بالفشل تسلحت بالأمل واستطاعت رغم كل المصاعب والآلام والعراقيل أن تعيش يوما إضافيا بعد تلك المدة التي حددها لها الطبيب كحد أقصى. خلال هذه الرحلة نسج المؤلف والمخرج لهذين الزوجين علاقات متباينة بين السلب والإيجاب مع شخصيات وأسر ومؤسسات نجحت في تشخيص الأحداث وتوهيم المتلقي بواقعيتها، وقد شخصت أحداث هذا الشريط ثلة من الممثلين على رأسهم أمين الناجي في دور إبراهيم، جليلة التلمسي في دور هدى، نسرين الراضي في دورة خديجة، الخنساء الشهموني في دورة صفية مراد حميمو في دور الدركي، زكرياء عاطفي في دور الجار السكير، سامي الكلاعي في دور الطفل زياد إضافة إلى ممثلين آخرين…
ومن تلك العلاقات التي ربطت هدى وإبراهيم بالآخرين نكتفي بالإشارة إلى:
– العلاقة بأسرة صفية زوجة والد إبراهيم الشيخ الكسيح المريض الذي لا يغادر فراشه تزوحها وهو في الخمسينيات من عمره ابنةَ 18 سنة، وها هو قد تجاوز السبعين وهي في منتصف الثلاثينيات من عمرها لم يعد لها من هدف سوى انتظار وفاته لترث شيئا يعوضها تضحيتها بشبابها معه… وهو مما خيب أمل هدى في الاطمئنان على إبراهيم إن هي أوكلت لصفية أمر رعايته.
– العلاقة مع خديجة الشابة ابنة32 سنة عازبة تشتغل في ورشة البطلين اقترحت عليها هدى الزواج من إبراهيم لتطمئن عليه وتضمن له من يرعاه لكن خديجة هي الأخرى خيبت أفق انتظار هدى…
– العلاقة بعائلة الطفل زياد حيث رب الأسرة سكير يعنف الطفل، ولا يحترم حرمة الأسرة مما أجبر الأم على الهروب مع عشيقها وترك الطفل فريسة عدوانية الأب، لم يجد من يخفف من معاناته سوى حضن أسرة هدى وزوجها اللذان كانا يشجعانه على الدراسة ويصقلان موهبته في الرسم…
– العلاقة مع مؤسسة الرعاية الاجتماعية، ذهبت إليها هدى عسى تضمن سريرا يستقبل زوجها بعد وفاتها، لتعود منها خائبة بعدما كشفت الكاميرا ما يعاينه نزلاء هذه المؤسسة من إهمال ومن لا مبالاة المشرفين على تدبير أمورها…
وعلى الرغم من كل تلك الخيبات التي صفعت البطلة وكادت تفقدها الثقة في كل من وما يحيط بها، فللشريط رسالة أمل تنقل المتفرج من واقع متعفن مرفوض لتبشره بغد مشرق منشود (افتتح الشريط بمشهد جنائزي وانتهى بسفر مع بزوغ شمس الصباح وتطلع لغد أفضل)
أما من الناحية التقنية فالشريط يقوم على تقنيات سينيماتوغرافية وأليات تفهم جيدا دلالة حركة الصورة، وصورة الحركة مما جعل منه شريطا مشحونا يتجاوز دور الوسيط البصري، إلى نظام تواصلي يفرض على المتلقي التفاعل معه، لما يحمله من رسائل، وما يثيره من مشاعر، حيث الصورة تخاطبنا كلغة تحتم على المتلقي الرقي لفهم لغة التصوير –التي تتجاوز العلامة الكلمية اللفظية – لما لها من قدرة على الإيهام البليغ بالواقع، وخلق علاقة مباشرة مع المتلقي ما دامت تخاطب العين، تؤثر فيه وينسى الشاشة أمامه فيلج بطواعية عالمَ أحلام ، وينخرط في كذبة فنية متفق عليها تفقده ذاته وتحرر لا شعوره من الكوابح العرفية، فيتعاطف ويشفق ويبكي… مع شخصيات يعرف جيدا أنها تمثل…
إن شريط ستة أشهر ويوم" للمخرج عبد السلام الكلاعي وإن كان يتناص مع عدد من الأشرطة، ويتقاطع معها في بعض الأحداث والرسائل، فلمشروع الكلاعي من خلال ها الشريط خصائص كثيرة تفرده سنكتفي في ها المقال بعشر ملاحظات سريعة عسى يغنيها من تابع الشريط:
1 – الارتباط الوثيق بمدينة العرائش، وهي خاصية تميز عددا من أعماله الفنية، فقد نجح في هذا الشريط بواسطة الكاميرا الترويج للمنتوج المحلي في الصناعة التقليدية (الخزف ) والصناعة الميكانيكية (سيارة داسيا لودجي) وتسويق جمالية مدينة العرائش كقبلة سياحية من حيث ثقافتها كرأسمال لا مادي (الخزف، سلوك أهلها وتضامنهم في السراء والضراء، التكافل في العزاء، الفروسية…) أو من حيث حضارتها المادية (الأقواس ،الأبواب ،النوافذ ،الحدائق، المقابر، المقاهي، الكورنيش…) وغير ذلك من المظاهر الحضارية والثقافية التي تنماز بها العرائش فكان الشريط على ما يتضمنه من مآسي فسحة سياحية ماتعة بجمالية مدينة ضاربة في القدم تقدم لوحة تختزل ثقافة وحضارة الغرب الإسلامي (الأندلس والمغرب) …
2 – تسليط الضوء على اضطراب نفسي قلما وقفت عليه السينما، نقصد التوحد كاضطراب نفسي تُؤثر على قدرة الفرد في الاتصال مع المحيطين به وفي تطوير علاقات متبادلة معهم، مما يفرض تعاملا خاص مع الشخص المصاب بهذا الاضطراب، وهو ما نجح الشريط في تشخيصه بمهنية عالية، إذ استطاع إبراهيم تحت إدارة المخرج ترجمتها بدوام الحركة والحركات المتكررة، والدوران في دوائر، والتلويح باليدين. مع إتقان تشخيص حساسيته المفرطة للصوت والضوء واللمس… وهو ما خلق متاعب لهدى التي كادت أن تفقده في إحدى نوباته لما هيجه صوت منبهات السيارات وسط المدينة… ورغم ما يبدو على صاحب هذا الاضطراب النفسي من هدوء فقد يخرج عن سكينته كلما حدث تغير في وثيرة حياته أو شعر باحتقار أو تهديد، كما حدث عند دفاع إبراهيم عن زوجته في حادثة كاد يقتل فيها جاره السكير لكماً… هذه المشاهد وغيرها تبين بجلاء إحاطة كاتب النص، المخرج والممثل بخصوصية هذا الاضطراب وإلا لما نجح الشريط في توصيل الرسالة …
3 – التركيز على أهمية اليدين في تشخيص اضطراب التوحد، وقد تجلى هذا التركيز في مشاهد كثيرة تم ال(mooz) فيها على يدي إبراهيم وهو يوظفهما في اللمس ، في الرسم، في التفتيش عن الأشياء، في ترتيب الأغراض في نظافة الجسد وتنظيف المحيط… ويكفي الوقوف عند مشهد ردة فعله إبراهيم تجاه صوت قطرات الصنبور التي أفقدته التركيز في إتمام إحدى اللوحات، لتتضح رمزية الصورة وبلاغتها وهي ترصد تفاعل يديه مع الصنبور رصد يصعب تصويره باللغة مهما كانت بلاغتها….
4 – هيمنة بلاغة الصمت وتعبيرية الإيجاز على لغة الحوار في الشريط، مما يعكس مهنية كاتب الحوار وسعيه إلى إثارة العقل وتحريك ذهن المتفرج، فكثيرة هي المشاهد التي كانت خالية من الكلام ودون حوار، ومشاهد أخرى كانت بها لغة مقتضبة وكلمات قليلة مشحونة بمعان كثيرة، مما أحال بعض الجمل التي تلفظ بها الممثلون إلى حِكم، أكيد سيظل رنينها يتكرر في أذن المتلقي بعد نهاية الشريط ويكفي أن نقدم هذه الأمثلة القليلة دليلا: (وحدها أمي كانت تعرف الكلام معي وحدها) (اليد التي ترسم لا تضرب) (الناس لا يحبون إلا الذين يشبهونهم) (الذي يضربك يا حفصة لا يستحقك) (ضوء الشمس يمنح الحياة للطبيعة) (الأشياء الجميلة يجب أن نراها بقلوبنا وليس بعيوننا فقط)…
5 لعل من أهم العلامات الفارقة الدالة في هذا الشريط حضور الفنون التشكيلية كفنون بصرية تستهدف إبداع أشكال مجسمة (الخزف) أو صورا على سطح (الرسم) ، وعدم اعتبار تلك الفنون عناصر تكميلية للمادة التي يحكيها الشريط، إذ سعى شريط "ستة اشهر ويوم" إلى جعل الرسم والخزف بؤرة مركزية في الشريط يولد أحداثا ويساهم في تطوير أحداث، يسمو بالبطلين عن مستنقعات الواقع، وكأن الفنون التشكيلية هي أساس العلاقة القوية بين البطلين، فالزوجة تقدر موهبة زوجها وهو ما جعلها مستعدة لفعل المستحيل من أجل راحته، ويكون بذلك التشكيل وسيلة للترفع والتسامي، وتفجير الموهبة والتخلص من الضغط الذي يمارس على الفنان، ويسمو به فوق قتامة الواقع وهو ما عبرت عنه هدى لما أهداها إبراهيم صورة لها : (دائما ترسمني أحسن من الواقع)
6 – كان تكرار بعض المشاهد بطرق مختلفة إحدى علامات الجمال في شريط (ستة أشهر ويوم) كما تجلى في تكرار الجنائز ، تكرار الذهاب إلى المخبزة ،تكرار الذهاب إلى ورشة الخزف، تكرار الدخول والخروج من الباب…. وكل ذلك من مظاهر الحياة تأكيدا على التعود، وخدمة لاضطراب التوحد الذي يعانيه البطل، دون أن يشعر المتلقي بأن هذا التكرار يفقد شيئا من تطور الأحداث أو من جمالية الشريط، فقد يتساءل المتفرج مثلا ما سر تكرار شراء الخبز من المخبزة، وتكرار الجنائز؟ لكن سرعان ما يتبدد هذا التساؤل عندما نرى العبرة من ذلك التكرار في اختفاء الرجل الذي اعتادت هدى رؤيته قرب المخبزة كل يوم وهي تنتظر أجلها… كما كان اختيار آخر مشهد حول جنازة للحديث عن جنازة زوج وزوجته كانا يحبان بعضهما وتوفيا في نفس اليوم بعد 65 سنة زواج وحب بحق أهمية رسالة يمكن أن يبلعها التكرار…
7 – وهناك نقطة أخرى مضيئة بقوة في الشريط لا يختلف حولها اثنان تتعلق بالكاستينغ واختيار الممثل الأكثر ملاءمة للدور، وهنا لا بد من الإشادة بالكاستينغ ديريكتور السيد سمير بوتكورة (وهو الدور الذي لا ينتبه له النقاد في العادة ) على الاختيار الجيد للممثلين الذين اندمجوا مع الأدوار المنسوبة مهما كان الدور ثانويا، لدرجة يعتقد المتابع للشريط أنه لا يمكن لغير هؤلاء الممثلين أداء تلك الأدوار، إذ كان كل ممثل يوحي بأن الدور من حياته ولا يمثله، يتجلى ذلك في ملامحه حركاته تصرفاته نظراته طريقة كلامه لم تترك إدارة المخرج شيئا للصدفة كل شيء يدل في الشخصية يشد المتلقي إليه فيتعاطف معه أو يحقد عليه… فبالقدر الذي تعاطف به المتفرجون مع هدى حتى كاد أغلبهم يقتنع أنها فعلا مصابة بالسرطان، بنفس القدر تفاعلوا مع زكريا عاطفي وحقدوا عليه لما فعله بأسرته حتى اعتقدوا أنه سكير شرير ليس مجرد نشخص للدور…
8 – كان للطبيعة حضور لافت في الشريط، طبعا لانقصد هنا الطبيعة بمعناها الفلسفي العام (كل ماهو غريزي وبيولوجي ومشترك بين الإنسان و الحيوان، والذي يقابل مفهوم الثقافة الدال على ما هو مكتسب من معارف ومعتقدات و أنماط عيش مختلفة. وإنما نقتصر في الطبيعة على المناظر الطبيعة التي شكلت فضاء للتصوير الخارجي، (وإن كانت الطبيعة في الذات الإنسانية بالشريط تستحق دراسة خاصة) كما أننا سنتجنب الوقوف على فضاءات الطبيعية داخل المدينة (حدائق كورنيش..) لأن الإنسان تدخل فيها وهيئها وفق رغباته، ربما لذلك لم تثر شيئا في إبراهيم ولم تحرك مشاعره، مثل الطبيعة العذراء سواء بعناصرها الحية كما تجلى في تفاعله مع الحصان فما أن رأى الحصان بجانب نخلات باسقة يحرك رأسه صعودا وهبوطا حتى لبّى النداء في تجاوب عاطفي بينهما، ليتم تغيير الكادراج وتكيبر (mooz) الصورة في مشهد قائم على التوازي بين البطل والحصان لا يفسده إلا من لا يتوق الفن بتدخل صاحب الحصان… أو الطبيعة بعناصره الجامدة كالأشجار والغابات والشمس والبحر… وعلى الرغم من كون العرائش مدينة بحرية بامتياز ولأن البحر يصدر صوتا قد يكون عنصر تشويش على المصاب باضطراب التوحد فقد شكلت الغابة متنفسا حقيقيا للبطل. هكذا كان من أطول مشاهد الشريط، مشهد يعكس حلول الذات الإنسانية في الطبيعة ومشاركتها الهموم والأحاسيس هو مشهد البطل والطفل في مشهد غابوي (مشهد ممتد على أزيد من ثلاثة دقائق) يتم فيه المقارنة بين الإنسان والأشجار ، ويتم الاستماع لصوت الشجر ومخاطبته عندما لا يجد البشر من يستمع إليه…
9 – الجانب القيمي في شريط (ستة اشهر ويوم) حاضر بقوة من خلال عدد من القيم الإنسانية التي لا مسها، حتى ليكاد كل مشهد يقارب قيمة إنسانية ما… وتبقى قيمة الحق في الاختلاف والعيش المشترك، والتنازل عن الأنانية وقبول الآخر كما هو التيمة المهيمنة على ما يعالجه الشريط، بالتنصيص على حق أولئك الذين ينظر إليهم العقل الجمعي على أنهم مختلفون إما لإعاقة جسدية أو ذهنية فيهمشهم ليعيشوا عزلة أبدية مهما كانت مواهبهم وقدراتهم، ليضعنا الشريط أمام إشكالية واضحة : أين نحن من ذوي الهمم وكلٌ منا معاق من جانب ما؟
فعلى الرغم من كون إبراهيم فنانا تشكيليا قليل الكلام لا ينطق إلا حكمة، يحب الحياة ويحب النظافة متفوق في دارسته وكان الأول على دفعته، يحب زوجته ولم يصدر منه أي فعل مشين ضد الإنسان أو ضد الطبيعة ولا أي سلوك عنيف إلا إذا كان دفاعا عن النفس… فإن الكل ينظر إليه نظرة احتقار فقط لأنه مختلف عن الجميع…
لذلك كان يجد راحته في الطبيعة ويتمنى لو كان الإنسان مثل الأشجار يقول في إحدى حواراته: (لا شجرة تشبه الأخرى ، كل شجرة من نوع خاص… ومع ذلك الأشجار تتعايش مع بعضها ليس مثل الناس الذين لا يتعايشون إلا مع من يشبههم ومن لا يشبههم يعيش حياته دون أصدقاء ) وفعلا عاش إبراهيم (ومثله في الواقع كثيرون) معزولا مهمشا، يقصد الطبيعة التي تفهمه يقول للطفل زياد ( الأشجار تتكلم… عندما كنت في مثل سنك، كنت كل يوم آتي إلى هنا وأسمع ما تقوله الأشجار …) (يحضن جذع شجرة ويطلب من الطفل فعل الشيء نفسه ويسأله هل تسمعها …) لعل أهم الرسائل التي تيغيى المخرج إيصالها للمتلقي هي الدعوة إلى الإيمان بالحق في الاختلاف وحق الآخرين في العيش المشترك ونبذ الظلم والكراهية والحقد عسى نعيش في مجتمع يتسع للجميع، وتتاح فيه الفرص حسب الكفاءات مع الدعوة إلى تقدير من يحبنا قبل ضياعه منا كما فقدت حفصة زوجها الذي كانت تعيش معه على مضض وقبلت بزوج يعنفها
10 – نقطة أخيرة لا تخطئها العين، وهي إيجابية المرأة، فبخلاف عدد من الأشرطة التي تقدم صورة سالبة عن المرأة (عاهرة، خادمة، معنفة، مطلقة ،أمية… ) إن شريط (ستة اشهر ويوم) يقدم صورة إيجابية عن المرأة الصبورة القانعة المضحية والفاعلة… هكذا قدم كل النساء إيجابيات: (صفية ضحت بشبابها مع مسن تعتني به لا تخونه قانعة بقدرها… خديجة شابة عاملة طموحة مخلصة لخطيبها وعلى نفس الصورة قدم الشريط كل النساء من بائعات الخبز وزبائن الورشة التي كانت واحدة منهن خريجة مدرسة الفنون الجميلة تقدر الفن والفنانين… وتبقى البطلة هدى نموذج للمرأة الإيجابية المتعلمة القوية العاملة القائدة… تحمل في حوانها جبالا من الهموم دون أن يؤثر ذلك على عملها ولا على علاقاتها الاجتماعية… تُوثِر زوجها على نفسها … وحتى في مقر رعاية المسنين ظهر كل الرجال بصورة سالبة سواء كمرضى أو كمسؤولين لا يقدرون المسؤولية فيما كانت صورة المرأة بهذه المؤسسة الصورة الإيجابية الوحيدة تجيد الإنصات لا تتجاوز الصلاحيات المسموح بها…
أمام هذه الصورة الإيجابية للمرأة ظهر الرجال وإن كانوا نماذج لما هو في المجتمع أقل إيجابية فتوزعوا في الشريط بين الرجل المتسلط الذي يضرب ابنه، والرجل المريض المقعد (والد إبراهيم، الشاف المدني بدار العجزة، الرجل المقعد أمام المخبزة … ليكونالرجلالإيجابيالوحيدإلىجانبالبطلهوالطفلزيادالذييعشقالرسمويحبالحياةولايعرفقلبهحقداأوضعينةفيإشارةإلىعقدالأملعلىالأجيالالقادمةلبناءمجتمعيتسعللجميع
في الختام نقول إن شريط ستة أشهر ويوم شريط يتوفر على كل مقومات النجاح سواء في موضوعه وما يقاربه من تيمات اجتماعية، أو في جوانبه التقنية مما لا يتسع المجال للوقوف عندها كلها سواء على مستوى التصوير والإخراج والمونتاج الماكياج والملابس، والصوت دون نسيان مناسبة الموسيقى التصويرية للمشاهدة مما أضفى على الشريط مسحة رومانسية تحببه للنفوس، وتترك هامشا للمتلقي لبناء موقفه من القضايا المعروضة عليه مثل تعنيف الأطفال والنساء، تهميش ذوي الهمم… وهو ما يفسر نسب المشاهدة العالية التي حققها الشريط.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.