السياسة ليست عقيدة، وإلا تحولت إلى نظام شمولي مثل النازية و الفاشية و الشيوعية. وهي نظم لاسياسية لسبب وحيد هو طغيان الفكر الوحيد الذي يشكل الذهنيات وقواعد السلوك. بمعنى أن السياسة تتحول إلى عقيدة قويمة، و كل من خرج عن صراطية هذه العقيدة القويمة، فهو مهرطق أو مبتدع ليس بالمعنى اللاهوتي ولكن بالمعنى الثقافي السياسي. فالفكر السياسي الحديث قذف بهذه الممارسات السياسية إلى مزبلة التاريخ، ولم تعد تشكل أية جاذبية لأي كان ممن يؤمن أن جوهر السياسة هو الحرية و الاختلاف و التدافع من أجل الصالح العام من وجهات نظر مختلفة، كما سعت إلى تكريسه الفيلسوفة حنا آرنت في جل مقارباتها للسياسة من وجهة نظر فلسفية. إذ عملت على تركيب مفهوم السياسة -حسب نبيل زايو-(( بصورة تبرز مقوماته الحديثة، التي تفترض بناءه على الحرية، وتوجهه نحو الفعل،و اشتراطه بالآخر، واحتواءه المعنى، الذي يسدل قيمة مضافة على الوجود، ويسبغه ببصمة خاصة)) فالسياسة، إذن، ليست مجرد آلية أو أداة لتدبير الفضاء العمومي أو معالجة للإطار العام الذي نعيش فيه، بل هي قيمة القيم. متى نظرنا إلى السياسة كقيمة نكون قد سلكنا طريق الحداثة السياسية. المصيبة عندنا أن السياسة تعني الدوغما، فكر وحيد، جامعة لكل شرور الإقصاء و الإبعاد و النفي و القتل، وهي كذلك لاهوت إذلال الآخر، تكريس الخضوع و الانقياد، تماهي كلي مع العقيدة المتعصبة، المنغلقة والأورتدوكسية. فما أحوجنا إلى إعادة الاعتبار للسياسة و تخليصها من شوائبها التي تعرقل كل إرادة أو طموح يجعل منها قيمة يسعى الجميع إلى تمثلها و احتضانها كجوهر لاجتماعهم. في حديثه عن الدستور الممنوح و التأويلين السلفي والديمقراطي له. حذر المفكر عبد الله العروي في كتابه ديوان السياسة من مخاطر تحويل السياسة إلى عقيدة و العقيدة إلى سياسة حيث قال أن خطر ما في التأويل السلفي هو أنه يختزل حياة البشر في((الخضوع و الانقياد. يحول العقيدة إلى سياسة و السياسة إلى عقيدة، وينتفي في هذه وتلك كل تطلع و طموح. يفعل الإنسان أشياء كثيرة صالحة مفيدة لكن منصاعا منقادا. يفعلها لا لذاتها، لمنافعها، بل إظهارا للطاعة و الانقياد. ويقنع بالأمر. أي مستقبل لمجتمع هذه عقليته، هذا سلوكه، وإن كان عادلا فاضلا متكافلا؟)) يمكن أن نجزم أن مجتمع كهذا لا مستقبل له، مؤهل أكثر من غيره إلى مصيره المحتوم، ألا وهو الانقراض، مساهم من حيث لا يدري في إلغاء نفسه.