حين أنهيت قراءة "الشيخ والبحر"، لكاتبها الأمريكي، إرنست همنغواي، المتوج بنوبل للآداب عام 1954، توجهت لأحد التطبيقات المتخصصة في مناقشة الكتب، وهناك كانت فئة من القراء تنتقد الرواية، وبينهم من وصفها بالسخيفة والفارغة. حرصت على قراءة تلك الآراء، وسرعان ما فطنت لمشكلة أصحابها، فقد تخيلت نفسي أقرأ الرواية دون إضفاء تأويل فلسفي عليها؛ لا شك أني كنت سأخرج بالأحكام القاسية نفسها، لاسيما أنها رواية لا تتمتع إلا بالنزر اليسير من تلك المقومات التي تلهب مشاعر السواد الأعظم من القراء؛ فأحداثها قليلة ووتيرة تقدمها بطيئة إلى حد ما. الحبكة لا تضع عنصر التشويق ضمن اهتماماتها، وشخوصها معدودة على رؤوس الأصابع، وهي ذات أوصاف وحالات اجتماعية وثقافية أبعد ما تكون عن إثارة أدنى اهتمام. علاوة على الطابع التأملي و"المونولوجي"، الذي يطغى على العمل، فالبطل "سانتياغو" يحادث نفسه معظمَ أطوار الرواية، كأننا أمام تهريب لخواطر الكاتب في قالب روائي ليس إلا. كما أسلفت، لولا ذلك التأويل الفلسفي الذي استنجدت به لمحاولة فهم الرواية وسبر ما يختفي بين سطورها وخلف رموزها، لما كنت أكتب عنها الآن. ولحسن حظي أني اطلعتُ قبل قراءتها ببضعة أيام على مؤلف آخر للكاتب البريطاني "كولن ويلسون" تحت عنوان "الكتب في حياتي"، وهو كتاب يُقدم قراءات فلسفية لبعض الأعمال الروائية والشعرية والمسرحية… وفيه فصل يلفت الانتباه للطابع الفلسفي لأعمال إرنست همنغواي. على أن ولسون تجاهل رواية "الشيخ والبحر" تقريبا وعكف على دراسة أعمال أخرى للكاتب، منتقدا فلسفته التي وصفها بالسوداوية والتشاؤمية. ولا أنفي أن نقد ولسون خفض أفق انتظاري من أعمال همنغواي، ولم أتوقع البتة أني سأفاجأ بملحمة تصور ببراعة قل نظيرها تفاعل الإنسان وصراعه المرير مع الوجود، وبحثه الدؤوب عن معنى وجوده وغايته. إنها رواية تُعالج مشكلة "العدمية"، وتغوص بالقارئ في أعماق "الأزمة الوجودية" للإنسان.. تلك هي الكلمات المفتاحية لرواية "الشيخ والبحر"، ودون أخذها في الاعتبار أثناء القراء قد تتحول إلى حكاية سخيفة لا طعم لها أو لون. ترصد الرواية رحلة صيد يخوضها صياد فقير بلغ من الكبر عتيا، بعد قضائه 84 يوما دون اصطياد شيء يذكر. وهو ما يؤشر بوضوح على طابع "الأزمة" الذي تكتسيه الرواية منذ بدايتها. أول ما يلفت الانتباه في الرواية هو بِنية شخصية البطل، "سانتياغو"، إنه رجل طاعن في السن. وفي خضم مغامرته لصيد "السمكة الضخمة" سندرك سر اختيار همنغواي لمهنة الصياد وعالم البحر فضاءً للرواية. لكن المثير للاهتمام منذ الوهلة الأولى هو عمر البطل. ما معنى اختيار رجل طاعن في السن؟ ألم يكن صيادٌ وسيم في ريعان شبابه ليلهب مشاعر القراء أكثر؟ لاشك إذن في أن الاختيار محكوم باعتبارات مُعينة. يمكن التكهن بها عبر طرح سؤال بديهي: بِمَ يتميز سن الشيخوخة؟ يوحي سن الشيخوخة، في رأيي، بأمرين؛ الأول هو الحكمة، إنها حِكمة ضرورية ليكون لتأملات "سانتياغو" في عرض المحيط معنىً. لكن السمة الثانية، والأهم في نظري، هي دُنو الموت. ولعل الإحساس بدنو الموت، أي اقتراب الحياة من لحظة الفناء، لحظة الفقدان، يُضعِف اليقين فيها، ويوقظ الشكوك بشأن أصلها ومعانيها والغاية منها، فمن أين أتينا؟ وإلى أين سنذهب بعد النهاية ؟ وهل تعني النهاية الفناءَ أم تُشكل بداية جديدة؟ وهل تذهب جهودنا في الحياة سدى…؟ ثمة إشارة مضمرة لهذه الإشكالية في الصفحة 26 من الرواية، النسخة الفرنسية، طبعة الجيب، منشورات "Folio"، حين يسأل الشيخ صديقه الغلام: "ترى لِمَ يستيقظ الشيوخ باكرا؟ ألتكون أيامهم أطول؟". إن الشيخ بهذا المعنى يسعى لتمديد أيامه قدر الإمكان، لأن كل دقيقة تغدو ثمينة ضمن القليل المتبقي للعيش. مواجهة الموت إذن تُثمّن الحياة، تجعلنا ننتبه إليها ونعيرها اهتماما أكبر، نكف عن النظر إليها بوصفها شيئا مضمونا، وبالتالي، ثانويا. فكما يقال: "لا ندرك قيمة الشيء إلا بفقدانه"، وبالنسبة للحياة فإننا ندرك قيمتها حين نوشك على فقدانها، فتتفاقم غرابتها، ويصبح التساؤل حول أصلها ومعانيها وغايتها مِلحاحا. ولعل هذه الإلحاحية هي ما يدفع سانتياغو لخوض رحلة صيد محفوفة بالمخاطر، كِناية على رحلة الإنسان لسبر معنى الوجود. في مستهل الرواية نكتشف بعض مقومات شخصية "سانتياغو"، فعلى الرغم من محبته الشديدة للغلام "مانولين"، يستشعر القارئ إباء الشيخ أمام شفقة الغلام عليه وعلى ظروفه وقد بلغ أرذل العمر. إن "سانتياغو" رجل عنيد وذو أنفة، ولا يُخفي شجاعته لخوض مغامرات لا تناسب سنه، يشهد على ذلك جسده المفتول رغم عاديات الزمان. ربما لا تكفي الحِكمة والشيخوخة لخوض رحلة بحث عن معاني الوجود، بل يتطلب الأمر بعض العناد إزاء اليقينيات والأجوبة الجاهزة، التي تشفق على عجز الإنسان عن استيعاب الوجود، وبعض الشجاعة لاستكشاف المجهول. بعد يوم كامل في عرض البحر، ولا بد من التوقف عند رمزية البحر كذلك، فالبحر بخلاف اليابسة، فضاء غامض، ومزاجي، وغير مستقر، ومحفوف بالأخطار. إنه فضاء مناسب لتصوير رحلة البحث عن المعنى، فالبحر والوجود يتشابهان فيما ذكِر من صفات. تنجح صنارة سانتياغو في الإمساك بسمكة كبيرة بالفعل، ربما عثر الصياد على كنزه، لكنه ما زال عصيا على الاستيعاب، إنه مُخبّأ على بعد مئات الأقدام تحت مياه البحر. ما شكله؟ ما نوعه؟ ما حجمه؟… كثيرة هي مواطن الغموض التي تتستر على معنى الوجود الإنساني، حتى حين يقرر المرء القبض عليه، كل ما يعلمه سانتياغو عن سمكته الثمينة لا يعدو أن يكون تكهنات وتخيلات يصنعها ذهنه، بناءً على ما يصله من اهتزازات عبر خيط الصنارة الرفيع الذي يربط بينهما. أجد هنا ترميزا فاخرا لحاجز الحواس الذي يحول بين الإنسان واستيعاب حقيقة الوجود. ذلك الخيط الرفيع الذي يحكم التفاعل بين الإنسان والطبيعة، بما أن بعض النظريات الفلسفية، بل حتى العلمية، ذهبت إلى أن كل الأشياء التي نعي وجودها لا توجد إلا على الهيئة التي ترسمها حواسنا. وقد ذهب الفلاسفة "الحسيون" أو "التجريبيون"، إلى أن كامل المعرفة الإنسانية مصدرها الحواس والخبرة، وأن الإنسان لا يتوفر على أفكار فِطرية سابقة للتجربة الحسية، ما يعني أن الإنسان عاجز تماما عن إدراك المعاني التي ليست في متناول حواسه المحدودة، إذ أن الحواس وجدت لضمان قدرة الإنسان على البقاء وليس من أجل اكتشاف الحقيقة، على حد تعبير الفيلسوف الإنجليزي جون لوك. وفي ذلك نقد للفلسفة الأفلاطونية القائلة إن العقل البشري يكون موجودا بشكل مسبق على شكل "مثال" أو "فكرة"، في عالم المُثل العليا، قبل نزوله إلى العالم الحسي، وأنه كان قبل النزول يُدرك كل الحقائق والمعاني، وليس عليه في هذه الحياة إلا أن يتذكرها. طيلة 3 أيام يخوض سانتياغو صراعا مريرا مع السمكة، التي بالرغم من وقوعها في فخه لا تهبه نفسها إلا بعد طول انتظار واختبار للصبر. وفي أثناء ذلك، يلجأ سانتياغو، الذي يوصف في محطة متقدمة من الرواية بأنه رجل غير مُتدين، للصلاة والتضرع إلى الله كي يجعل الرياح تسير بما تشتهي سفينته، تلميحا للدور الذي يلعبه عجز الإنسان عن استيعاب ماهية الوجود في لجوئه إلى اللاهوت، بحثا عن ملاذ آمن ضد حمق الوجود وغموضه وصعوبة التنبؤ به. سيقضى سانتياغو عدة أيام مرتبطا بالسمكة الرافضة للاستسلام من خلال الصنارة، وتبعا لذلك يُصبح مسار قاربه محكوما بمسار السمكة، التي تأخذ بزمام الأمور وتسير به إلى حيث تريد، وليس لسانتياغو من خيار إلا أن يواكب المسار الذي تختاره هي. في الصفحة 69 يقول سانتياغو: "إني لا أدري ما ستفعله هذه السمكة. يبدو أنها هادئة وتتبع فِكرتها الصغيرة. لكن ما فكرتها؟ وما فكرتي أنا؟ فكرتي أن أبتكر شيئا يساير فكرتها، لأن القيادة في حوزتها". إن الوجود يسير بنا إلى حيث يريد، وليس لنا إلا أن نسايره، وقد لا تكون لديه فكرة عن وجهته، عن غايته، قد لا يكون للوجود معنى أو غاية، إنه يسير وفقط… وليس من ضحية لهذه الرحلة مجهولة الوجهة إلا الإنسان. بعد أخذ ورد طويل، يتكلل صبر سانتياغو بانهيار السمكة، وينجح في صيدها بالفعل، فيتكشف له بهاؤها وعظمتها، إنها جميلة جدا، نبيلة جدا، و… كبيرة جدا. كبيرة لدرجة أن حجمها يفوق طاقة زورقه الاستيعابية. أهي إشارة إلى أن معنى الوجود أكبر من قدرة الإنسان على الاستيعاب؟ فلا يقوى سانتياغو على حملها على متن الزورق، ويكتفي بربطها إلى جانبه والسير بها إيابا إلى بر الأمان. لكن طريق العودة إلى البر ليست سهلة ولا آمنة، فرائحة دماء السمكة النافقة جذبت إليها أسماك القرش، وسيضطر سانتياغو، طيلة طريق الأوبة، لخوض معركة ضارية ضد القروش، ولا يتخلص من الواحد منها إلا وقد نهش قطعة من لحم السمكة. ثم توالت غارات القروش، ما أدى إلى فقدان الجزء الأهم من السمكة، ولم يرجع "سانتياغو" إلى اليابسة سوى بهيكل عظمي مُشوه لسمكة كانت عظيمة… حين يتأمل سانتياغو مأساته يقول: "خطئي أني ابتعدت مسافة كبيرة عن الشاطئ". إن رحلة سبر معنى الحياة أو الوجود الإنساني توغل بالإنسان بعيدا عن نطاق الراحة، عن بر الأمان، عن "الأمن الروحي" و"الاستقرار النفسي والعاطفي"، فتصبح العودة عسيرة، ولا يعود منها إلا كما عاد سانتياغو، منهكا وجريحا ومعطوبا وفاقدا لأسلحته السخيفة التي لم تسعفه في شيء، وما نتيجة كل الجهد المبذول؟ العودة بصيد سخيف.. باللامعنى. إن ما توصل إليه سانتياغو هو جوهر "العدمية الوجودية"، القائلة إن الوجود عارٍ من المعنى، ولا يعبأ بمعاناة الإنسان وتيهه، وكل جهد يُبذَل سعيا وراء هذا المعنى، هو جهد لا طائل من ورائه. توفي إرنست همنغواي للأسف منتحراً سنة 1961، بعد عشر سنوات من نشر رائعته هذه، وحين انتهيت من قراءتها، أحسست أن هيكل السمكة هو الذي قتل همنغواي. روائي ومترجم