"الأمير" هو كتيب صغير للمفكر الايطالي نيقولا مكيافيلي، تبلغ صفحات اغلب طبعاته ما يربو قليلا عن 100 صفحة، نُشر الكتاب سنة 1532 بعد خمس سنوات من وفاة صاحبه، وسرعان ما تعرض الكتاب للمنع، إذ قاد كاردينال ايطالي الهجوم عليه، فحُرّم الاطلاع عليه ونشر أفكاره، ثم بعد ذلك مُنع في روما وأحرقت جميع نسخه، وظل منبوذا ومطاردا لسنوات، وظلت الكنيسة الكاثوليكية تمنعه وتحرّض عليه. يتألف الكتاب من 26 فصلا، بالإضافة إلى الإهداء الذي وجّههه إلى لورونزو الابن العظيم لبيرو دي ميديشي، يشرح في الإهداء أن الناس عادة ما تهدي للملوك أشياء ثمينة وتحفا نادرة، بينما هو سيهدي له أثمن ما يملكه، سيهدي له عصارة تجربته، وهي المعرفة التي اكتسبها من خلال تجربته الطويلة وبالإضافة إلى ما درسه من أحداث الماضي. تتحدث الفصول الإحدى عشر الأولى حول أشكال الحكم الملكية و الوراثية في التاريخ، ويسرد نموذج حكام اعتبرهم أبطال نجحوا في مهامهم، ولذلك على الأمير أن يقتدي بهم في هذا الجانب الذي نجحوا فيه، يخصص الفصول (12،13،14) للحديث عن الجيش، وكيف يجب أن يتشكل، ويفضل في هذا الصدد تشكيل الجيش من أبناء البلد، ويحذر من بناء جيش من المرتزقة، ثم يخصص الفصول من 15 إلى 25 للحديث عن الصفات التي يجب أن يتحلى بها الأمير، وكيف يجب عليه أن يتعامل مع حاشيته ومستشاريه والمقربين إليه، وكذا كيف يجب أن يتعامل مع عامة الشعب. ثم يخصص الفصل الأخير لتوجيه دعوة مباشرة إلى ابن ميديشي لتولي مهمة "الأمير" الذي سيحرر ايطاليا ويخلصها من الدسائس والمؤامرات والصراعات التي تمزقها. إن أكثر المفكرين، الذين تعرضت أفكارهم لقراءة غير تاريخية وغير سياقية هو المفكر الايطالي نيقولا ميكيافيلي، الثابت أن الرجل تعرض للجلد والسّحل والسلخ منذ صدور كتابه "الأمير" ، ومازال إلى يومنا هذا يتعرض لكل ذلك، وظل اسمه محايثا للمكر والخديعة والانتهازية، هكذا انعكست صورة مكيافيلي في المخيلة الشعبية وحتى لدى كبار الكتاب والمبدعين إلى يومنا هذا، رغم الإشادة الواسعة التي نالها الكتاب في القرنين السابع عشر والثامن عشر على يد رواد "عصر التنوير"، خاصة مع جان جاك روسو وقبله سبينوزا، ثم بعد ذلك الفيلسوف الألماني هيجل الذي أشاد بالنقلة التي أحدثها مكيافيلي في الفكر الإنساني، ورغم المحاولات التي بذلها هؤلاء وآخرون من بعد لإنصاف مكيافيلي إلا أن اسمه ظل دائما وأبدا رديف الشر. بل إلى حدود اليوم، يدرس طلبة الحقوق في شعبة العلوم السياسية، الدور العظيم الذي لعبه مكيافيلي في علم السياسية بوصفه أب العلوم السياسية الحديثة، إلا انه اغلب الطلبة بمجرد انتهاء الدرس، تبرح أذهانهم صورة مكيافيلي مؤسس علم السياسية، لتستقر مكانها صورة مكيافيلي الشرير والخادع داعم المستبدين والطغاة. حتى القصص التي تروى عن الكتاب، تزكي إلصاق صورة الشر به وبصاحبه، فمثلا يُحكى أن هتلر كان يضع الكتاب بالقرب من وسادة نومه، يقرأ منه بعض الصفحات قبل أن يخلد إلى النوم، كما أن الزعيم الفاشي موسوليني أعدّ رسالة دكتوراه عن كتاب الامير لمكيافيلي، وباختصار، عادة ما يُقال عن "الأمير" أنه كتاب يقرأه الطغاة سرا ويلعنونه جهرا. لكن بعيدا عن هذه الانطباعات السلبية غير المبنية على أسس سليمة، فإن عظمة مكيافيلي وريادته في حقل "علم السياسة" تتجلى في تحقيق نقلتين نوعيتين شكلتا ثورة على السائد، وهما: 1- لأول مرة في تاريخ الإنسانية يتحدث مفكر عن السياسية بوصفها "ما هو كائن"، عوض الحديث عن "ما ينبغي أن يكون"، كما جرت العادة من قبل، إذ كل ما كُتب في السياسة قبل مكيافيلي اتخذ شكلين اثنين: شكل تنظير "لما ينبغي أن يكون" غارق في الطوباوية، انزوى لتشييد كيانات سياسية مستحيلة التحقق في الواقع كما هو الشأن عند أفلاطون في جمهوريته الفاضلة، أو عند القديس أوغسطين في "مدينة الله". أو اتخذت شكل رسائل نخبوية غارقة في التجريد، تنظّر لما ينبغي أن يكون وبعيدة عن الواقع والكائن كما عند أريسطو وغيره. في حين تحدث مكيافيلي من صميم تجربته، حيث عمل مستشارا لجمهورية فلورنسا لمدة 14سنة، وقاد مفاوضات ديبلوماسية مع العديد من كبار القادة والملوك حينها، أشهرهم ملك فرنسا لويس الثاني عشر والإمبراطور الروماني ماكسيلمان الأول وقيصر بورجا، بالإضافة إلى أن والده كان محاميا جمهوريا معارضا لعائلة ميديشي التي بسطت سيطرتها على فلورنسا لسنوات طويلة. مما يعني أن مكيافيلي صاغ كتابه انطلاقا من طمي التجربة، ولم يتكئ على اليوتوبيا أو الرسالة العالمة. يقول ميكيافلي حول هذه النقطة في كتابه:"أخشى أن يُعتبر ما أكتبه نوعا من الغرور حين يختلف عما كتبه الآخرون. لكني لا أود إلاّ الوصول الى الحقيقة وليس تخيّلها، وأن الأصح هو أن نكتب ما يفيد الآخرين وليس ما نتخيله. فشتان بين حياتنا كما نحياها وبين ما ينبغي أن تكون عليه". 2-النقلة الثانية التي أحدثها ميكيافلي هي انه فصل السياسة عن الأخلاق والدين، من قبل كان كل ما يقوم به رجل السياسة/السلطة هو بالضرورة مؤطر بتعاليم دينية، وأن ما يقوم به يروم من خلاله تصريف مشيئة الله في الأرض، لكن مع مكيافلي خاصة في كتابه "الأمير" وأيضا في كتابه الهام"المطارحات" أصبحت الأخلاق والدين ليسا بالضرورة هما من يؤطرا الفعل السياسي، بل أضحت المصلحة والأنانية والمكر والخديعة..وغيرها هي من تسيطر على عملية إنتاج الفعل السياسي، وأصبحت السياسة فعلا دنيويا محضا وليس فعلا لاهوتيا، أصبح الإنسان مركز علم السياسة وليس مجرد هامش خاضع لمشيئة خليفة الله في أرضه، يقول كارل ماركس في هذا الصدد في رسالة إلى انجلز متحدثا عن كتاب الأمير لميكيافيلي:" إن هذا مؤلف رفيع ذلك لأن صاحبَه واحد من الذين بدأوا ينظرون إلي الدولة بعين إنسان ويستخلصون قوانينها من العقل والتجربة، لا من اللاهوت" ومنذ صدور الكتاب إلى اليوم ثمة نقاش حول طبيعته وأهدافه، فهل الكتاب يخدم الطغاة أم يفضحهم ويعرّيهم؟ يذهب المفكر الايطالي انطونيو غرامشي إلى أنه من الأنسب اعتبار مكيافيلي "تعبيرا ضروريا عن زمانه، وثيق الارتباط بشروطه ومتطلباته"، ولا يجب أن نقرأه خارج سياق ظروفه الاجتماعية والسياسية. يجزم غرامشي أن مكيافيلي في كتابه "الأمير" هو أحد "أولئك الذين يعرفون حيل اللعبة"، قرّر أن يتوجه بكتابه نحو "أولئك الذين لا يعرفون"، بقصد تثقيفهم ثقافة سياسية. ولذلك، عمد غرامشي إلى توظيف مفهوم الأمير بشكل محيّن وجديد في إطار مشروعه الفكري والسياسي حول قضايا الثورة في ايطاليا، وخلص إلى أن ايطاليا في حاجة إلى أمير حديث، لكن ليس في هيئة شخص/فرد معين كما عند مكيافيلي، بل في شخص الحزب السياسي الذي أطلق عليه غرامشي "الأمير الحديث" والذي "يجب أن يكون نظاما لا شخصا فرداً عينيًّا، نظاماً بمعنى عنصر مجتمعي مركب يبتدئ فيه تلاحم الإرادة الجمعية وتأكيدها الجزئي في الممارسة." وعلى خطى نفس الفكرة، اعتبر جان جاك روسو، أن مكيافيلي "كان يتظاهر بإعطاء الدروس والنصائح للملوك بينما كان يعطي دروسا عظيمة للعامة"، ويعضد هذا الموقف الايجابي من كتاب "الأمير"، ما كتبه مكيافيلي نفسه في كتب أخرى، خاصة في "المطارحات"، اذ فيها يكشف عن تفضيله للنظام الجمهوري بوصفه أفضل نظام، ويتحدث عن الديمقراطية في تسيير شؤون الدولة وضرورة إشراك أفراد الشعب في ذلك، يقول مكيافيلي في "المطارحات": "إن المدن لا تنمو نموّا كبيراً وتكتسب عظمة إلا إذا كان الشعب هو الذي يحكمها". بإتفاق مع "كاب راديو"