كان للمثقف والمبدع في زمن أعتبره تنويريا، القيمة المضافة، والبحث عن المثقف كي يجعل المنابر الثقافية على قلتها تكون مصدر اشعاع وتواصل من أجل إعلاء عالم الثقافة، ومحاولة محاربة زمن التفاهة التي بتنا نعتبرها ولا زلنا مصدر تعليب الإنسان، وتطويقه في منطقة رمادية لا تفيد إنسان اليوم، بل وإنسان الغد وهو في حل من الثقافة.. ففي زمن تتسارع فيه التحولات، وتكثر فيه الأصوات، وتتلاقح فيه التكنولوجيا وخالق التكنلوجيا التي تعتبر انعكاسا لمدى ما وصل إليه العقل البشري من معرفة لا تعد ولا تحصى؛ أجل، والحال أنني أوجه شخصيا انتقادي للمنابر الثقافية التي لم تعد ترقى إلى أعز ما كان يطلب كما يقال؛ نعم، كان يُفترض أن تكون هذه المنابر الثقافية والفكرية، فضاءً مفتوحًا لاستيعاب الإجتهادات الجادة، تقود الأجيال إلى تحقيق تواصل لا يتطلب إلا الإنفتاح على المتلقي، وهي أصلا حين نسعى إليها باعتبارنا مثقفين، فلا نطلب منها مقابلا، ولا هم يحزنون، بقدر ما نطلب أن تكون مصدر اشعاع وتواصل بين المثقفين والمتلقين ليس إلا.. وأن تكون، بل تصير منصات حقيقية لتداول الرؤى والتصورات التي تُسهم في رقيّ الوعي الجمعي؛ وهل يا ترى هذا يتطلب منها مجهودا يذكر؟ حتما لا، لكن نرى أن المشكل في التوجهات والرؤى، وبعد النظر الفكري، بل الهم الثقافي الذي لم يعد أعز ما يطلب. ولعل أن ما أصبحنا نلمسه، هو مجرد واقع رمادي أقرب إلى الخيال، بعيدا عن الثقافة التي لولاها لما كان للعالم معنى؛ فلماذا يا ترى هذا الإنسداد الشبه التام للأبواب أمام كل من اختار أن يُنتج خارج "الدوائر المغلقة"؟ وكم كنا نتمى أن تكون لهذه المنابر الثقافية مصداقية مثل مصداقية عالم الرياضة، معشوق الجميع، وهذا لا يتطلب أي صداع ولا هم يحزنون؛ وما علينا اليوم إلا أن نحرك زرا من الأزرار كي نرى عالم الرياضة بين يدينا بلغة: " شبيك لبيك.."، ولعل الجانب المادي لا يعد ولا يحصى حين يتعلق الأمر بعالم الرياضة؛ بينما الثقافة، وتحديدا المنابر الثقافية التي تنشر لك ما كتبته في مدة طويلة لا تشكرك على مجهوداتك ولو بتحية من بعيد… فإن كنت اليوم أنتقد بعضا من هذه المنابر، فمن باب الغيرة على الفعل الثقافي الذي يسير نحو حتفه ونجوم في السماء تنظر ولا تسعف. فكم من مرات أحاول شخصيا تشخيص معضلة هذه المنابر وسياستها الوضيعة، مستعرضا ما نُراسله، ونكتبه، ونقترحه، ونتفاعل به ومعه على حد سواء...! فيكون الرد المستنبط: الصمت هو الردّ الغالب، وكأننا أمام واقع ينذر بأن الإجتهاد الثقافي لم يعد يُقاس بقيمته المعرفية، بل بما يرافقه من أسماء، وحتى هذه الأخيرة مآلها لا محالة التلاشي؛ إنه الواقع من ينبئنا بزمن التفاهة الذي يشمل حتى ما هو ثقافي، فحتى النشر والإهتمام بالثقافة تلفها لفا الولاءات، والشبكات المحسوبية. وبدءا على عود، ففي اتحادات كتاب الأمم، بدءا من اتحاد كتابنا في المغرب؛ فالمثقف الذي لا يحمل "بطاقة عبور" ضمن هذه الشبكات، يصبح ضيفًا غير مرغوب فيه، حتى ولو كتب لهم "العلم اللادوني"، كما يقال في أمثالنا الشعبية– حتى ولو أننا ما نطرحه من فكر ومراجعة هو في غاية الأهمية. اليس عالم الثقافة عندنا يشبه تماما عالم السياسة السياسوية؟ ولا يعتقدن أحد أن ما جعلنا نكتب بهذه الحسرة غير المسبوقة، لا نرجو منها طلب الإمتنان من أحد كائنا من كان، بل لا نسعى أصلا إلى الأضواء، والحال أن ما نشرناه من مؤلفات تناهز 27 وحدها تتولى الكلام، بل فقط وربما نيابة عن باقي المثقفين في العالم العربي والإسلامي لأننا نؤمن أن الكلمة مسؤولية ومقدسة: " وكانت في البداية الكلمة"، ونحن نخوض في هذا الموضوع المحرج بالنسبة للمثقف الذي ينام أو على الأقل أتخيله ينام بنصف عين؛ من حقنا أن نناقش الأفكار دون الركض نحو الإقصاء، وأن تُقرأ لا أن تُهمّش. فإذا أرادت منابرنا الثقافية، وحتما يجب أن تريد، الحفاظ على جدواها، عليها أن تراجع ألف مرة ومرة طريقة تعاملها مع الأقلام الجديدة والقديمة، والمستقلة وغير المستقلة، وتقدر مكانة المثقف ورد الإعتبار للجهد الصادق، خارج أي حسابات ضيقة أو انتماءات مغلقة. أعتذر للمنابر الثقافية عامتها وخاصتها، إن أتتها كتاباتي قاسية؛ ولعل قساوتها هذه تشبه قساوة العاشق تجاه معشوقته، تحمل من الغيرة ما يثير متعة خاصة للعاشقين معا؛ وهنا بالضبط لست بصدد الإنتقاء، لكن أصلا ضد الإقصاء غير المبرر. وأملنا جميعا تحقيق مشهد ثقافي يفتح ذراعيه للكلمة الحرة، علما أن الفكر لا يُقاس بصوت صاحبه، بل بصدق مضامينه وعمق رؤاه.