في أعقاب مقالتي السابقة حول خطاب عبد الإله بنكيران، والتي انتقدت فيها أسلوبه في توظيف الدين ضد خصومه السياسيين، تلقيت تفاعلات واسعة من أصدقاء ينتمون إلى مختلف المشارب السياسية والفكرية، من مثقفين ومناضلين يساريين ومن أعضاء بحزب العدالة والتنمية. هذا التفاعل أغنى النقاش وفتح المجال لتحليل أعمق لبعض الجوانب التي قد تتطلب توضيحا إضافيا. رغم أن المقالة كانت واضحة في وجهتها، إلا أن حساسية الموضوع تفرض أحيانا شرحا أدق لبعض الأفكار. من هنا، رأيت أنه من المفيد تلخيص أبرز الملاحظات والاعتراضات التي وردتني، وأهم الأجوبة التي قدمتها، بهدف تعميق الحوار وإبراز الرهانات الأخلاقية والسياسية التي يطرحها هذا النقاش. قضية التطبيع وتوظيف الدين في السياسة تمت الإشارة إلى أن عدم التعبير عن موقفي من مشاركة الجيش الإسرائيلي في المناورات العسكرية يجعل المقالة تبدو غير مكتملة. في ردي على هذه الملاحظة، أوضحت أن مقالتي ركزت على قضية أعتبرها ذات أولوية قصوى، وهي توظيف الدين في السياسة، خصوصا عندما يتم ذلك بأسلوب هجومي يخلط بين الخصوم السياسيين والمواطنين العاديين. انطلاقا من ذلك، اعتبرت أن إصدار حكم ديني بشأن مشاركة الجيش الإسرائيلي تحت عنوان "لا يجوز شرعا"، هو توظيف سياسي للدين يزج به في ملفات السيادة والعلاقات الدولية، ما يُحول الموقف السياسي إلى حكم ديني مطلق يتجاوز سياق النقاش السياسي الطبيعي. مثل هذه المواقف قد تتحول بسهولة إلى أدوات للتحريض والتجييش، خصوصا عندما تصدر عن شخصيات لها تاريخ في استخدام خطاب السب والتجريح. موقفي من التطبيع ومن الكيان الصهيوني معروف وثابت، ولا أرى ضرورة لتكراره في كل مناسبة، لا سيما عندما يكون الهدف هو تفكيك ازدواجية الخطاب لدى تيارات الإسلام السياسي، وليس إعادة إنتاج المواقف المبدئية المتفق عليها. مقالتي موجهة أساسا إلى كوادر حزب العدالة والتنمية، ومن خلالهم إلى باقي تيارات الإسلام السياسي القريبة من اليسار. الهدف كان توجيه رسالة واضحة: لن نقبل التناقض في المواقف، ولن نقبل استغلال الدين في الصراع السياسي، ولن نقبل بإخراج السياسة من إطارها العقلاني وتحويلها إلى ساحة للفتاوى والفتن. أما باقي القضايا، ومنها التطبيع، فيجب التعبير عنها بمواقف سياسية مدنية وعقلانية. توظيف الدين في السياسة: بين الاستغلال والخطاب المطلق من بين الأسئلة التي طرحت في سياق هذا النقاش، كان هناك اعتراض من أحد الأصدقاء الذي أشار إلى أن رئيس حكومة الكيان الصهيوني يوظف الدين بشكل دائم في خطاباته. ردي كان واضحا: نعم، وهذه هي الإشكالية الجوهرية. عندما نواجه مشروعا استعماريا يستخدم الدين كأداة لتبرير الإبادة، علينا أن نكون أكثر حذرا في خطابنا كي لا نعيد إنتاج نفس البنية الرمزية، ولو من موقع مناهض. هل بنكيران أصدر "فتوى"، أم عبر عن رأي سياسي؟ سؤال مهم وجوهري لفهم المقالة وخلفياتها، ويستحق التوقف عنده. ما صدر عن عبد الإله بنكيران أقرب إلى "الفتوى السياسية" منه إلى مجرد رأي سياسي، وذلك لعدة أسباب تتعلق بالصياغة، والسياق، والموقع الذي يتحدث منه. لنفكك الأمر: 1. الصيغة التي استُخدمت: بنكيران لم يقل: أنا ضد مشاركة الجيش الإسرائيلي، وأرفضها سياسيا وأخلاقيا. بل قال، كما ورد في تصريحاته، "لا يجوز شرعا"، وهي عبارة فقهية صريحة تنتمي إلى قاموس الإفتاء، لا إلى المعجم السياسي. هذه العبارة ليست توصيفا سياسيا، بل حكم ديني يُفترض فيه الإطلاق والإلزام، لا النسبية والمرونة. 2. السياق الذي ورد فيه التصريح: الكلام صدر في سياق تعبوي، وبلغة مشحونة أخلاقيا، هدفها ليس فقط التعبير عن موقف، بل إدانة الخصم السياسي وتعبئة الجمهور. وهذا ما يجعل الخطاب أقرب إلى تحريض ديني مقنع بغطاء سياسي. 3. الصفة الاعتبارية لبنكيران: بنكيران، رغم أنه لا يحمل صفة "مفتي" رسمي، إلا أن له وزنا رمزيا داخل تيار يخلط بين الدعوي والسياسي (وعن سابق إصرار). حين يتكلم بهذه اللغة، فهو يفعل ذلك بوصفه "قياديا إسلاميا" له مرجعية دينية، لا مجرد "فاعل سياسي" كغيره من السياسيين؟ ما قام به بنكيران ليس مجرد إبداء رأي سياسي مخالف، بل هو إصدار حكم ديني على واقعة سياسية سيادية، وهو بهذا يُعيدنا إلى معضلة تسييس الدين وتديين السياسة. وفي هذا يكمن الخطر، لأن توظيف الدين بهذه الطريقة يغلق باب النقاش العقلاني. هل القاموس أو الخطاب الديني من الممنوعات في السياسة؟ جوابي: ليس حضور الدين في النقاش السياسي هو المشكلة، فالدين جزء من الضمير الجمعي، ومن الطبيعي أن يؤثر في المواقف السياسية. لكن الإشكال يكمن عندما يتحول الخطاب الديني إلى وسيلة لإضفاء القداسة على الآراء السياسية، أو لإسكات النقد، أو لمهاجمة الخصوم من موقع فوقي يدعي امتلاك الحقيقة المطلقة. ما يجب رفضه هو تحويل السياسة إلى ساحة للإفتاء، حيث تصبح القضايا السياسية مسائل حلال وحرام بدلًا من أن تكون محل تحليل وتقدير عقلاني. عندما نقول "لا يجوز شرعا"، فإننا نُغلق باب النقاش، ونحول السياسة إلى فقه، والاختلاف إلى مخالفة دينية. بنكيران عبر عن موقف سياسي مبدئي ضد التطبيع دون تحريض على المؤسسة العسكرية، بينما يواجه محاولات لتضخيم تصريحاته من جهات مؤيدة للتطبيع، وسط دعوات للحفاظ على حق النقد الديمقراطي وعدم الانجرار إلى خطاب التخوين والقمع. جوابي: أخشى أن يكون هناك خلط بين مستويات النقاش. أتفق تماما على أن حرية النقد، بما في ذلك نقد السياسات الأمنية والدبلوماسية، حق ديمقراطي لا مساومة عليه، ومناهضة التطبيع موقف شريف ومشروع، بل وضروري. لكن ملاحظتي لم تكن أبدا اتهاما بالتحريض على الجيش، ولا تندرج ضمن خطاب التخوين أو الترهيب (الوشاية ليست من شيم الأكابر). بيت القصيد في مقالتي هو التنبيه إلى أسلوب توظيف الدين، لا مجرد التعبير عن موقف سياسي. وهذا ليس مجرد "تضامن مع فلسطين" بل حكم ديني في قضية سيادية. الخطورة هنا ليست في النية أو الهدف، بل في المنهج: تحويل النقاش السياسي إلى ساحة فقهية، وإدخال الدين في ملفات تتطلب عقلانية الدولة لا مشاعر الأمة. المختصر: لا نرفض الموقف المبدئي، بل طريقة صياغته التي قد تستخدم لاحقا لتجريم اختيارات الدولة أو لتقسيم المواطنين على أساس طاعة أو معصية. لذلك، من واجبنا نحن أيضا، كديمقراطيين، أن نرفض التديين المفرط للنقاش العمومي، كما نرفض التخوين والصمت القسري. التضامن مع فلسطين وحرية النقد طرح بعض الرفاق فكرة التضامن الشامل مع الشعب الفلسطيني دون النظر إلى الخلافات الفكرية أو الأيديولوجية، مؤكدا أن الانقسام الداخلي يخدم مصلحة العدو. موقفي هنا كان واضحا: التضامن لا يعني تعليق النقاش، بل يلزمنا بأن يكون واعيا ومسؤولا. دعم القضية الفلسطينية لا يجب أن يؤدي إلى تبرير الخطاب السياسي المتناقض، خاصة عندما يستخدم الدين لصياغة مواقف مطلقة في قضايا سيادية. ما نحتاجه، كديمقراطيين وتقدميين، ليس مجرد الاصطفاف غير المشروط، بل القدرة على التمييز بين الخطاب الذي يخدم فلسطين فعلاً، وبين الخطاب الذي يُستخدم لأجندات داخلية تحت لافتة فلسطين. القضية الفلسطينية لا تحتاج إلى رقابة على حرية التعبير، بل إلى دعم سياسي عقلاني وناضج. في أسلوب التخوين والتحقير والإقصاء أجمعت بعض الردود على أن خطاب بنكيران بلغ مستوى متدنيا من العنف اللفظي، لا يليق بمن مارس السلطة. جوابي: لا يمكننا أن نتسامح مع خطاب التحريض حتى ولو جاء من موقع يتقاطع معنا في الموقف من الصهيونية. يجب أن نُميز بين التضامن مع الشعب الفلسطيني، وبين محاولة احتكار هذا التضامن وجعله ذريعة لإسكات الأصوات النقدية. هل علينا أن نسكت على وصف بنكيران من يقول بالشعار التافه "تازة قبل غزة" بالحمير والميكروبات، لا لشيء سوى لأننا لا نتفق معهم؟ إنه لا يدافع عن فلسطين، بل يُهين الناس باسم فلسطين. لا يمكن الدفاع عن فلسطين عبر التحريض والإهانة. دعم القضية العادلة يجب أن يكون وسيلة لرفع مستوى النقاش، وليس ذريعة لإقصاء المختلفين معنا في وجهات النظر. لا يمكن السماح بتحويل القضية الفلسطينية إلى أداة للهيمنة الأخلاقية، أو إلى وسيلة لإسكات النقد باسم الوطنية. أحد الرفاق دعا إلى التضامن الشامل مع الشعب الفلسطيني، بغض النظر عن الاختلافات الفكرية أو الأيديولوجية، مؤكداً أن التناحر الداخلي يخدم مصلحة العدو والمتواطئين معه تفاعلي: تضامننا مع الشعب الفلسطيني لا يُلزمنا بإسكات النقاش، بل يلزمنا بأن يكون هذا التضامن واعيا ومسؤولا. الدفاع عن فلسطين لا يعني التنازل عن حقنا في نقد الخطاب السياسي، خصوصا حين يتوسل بالدين لإصدار أحكام مطلقة في قضايا سيادية. ما يطلب منا، كديمقراطيين ووطنيين وتقدميين، ليس تعليق النقد ولا الاصطفاف غير المشروط، بل أن نحسن التمييز بين ما يخدم فلسطين فعلا، وما قد يخدم أجندات داخلية تحت لافتة فلسطين. شعب فلسطين لا يحتاج إلى رقابة على حرية التعبير باسم قضيته، بل إلى حلفاء ناضجين، يناصرون قضيته دون أن يبرروا الازدواجية أو يخلطوا بين الإيمان بالقضية وبين إضفاء القداسة على الخطاب السياسي. ويا للعجب، كان أول من اتصل بي مهنئاً ومنوهاً فلسطينية من بيت لحم. رفيق سلط الضوء على دور الرواية الدينية في التعبئة داخل الكيان الصهيوني، وأكد على تحول المجتمع هناك إلى الفاشية وسحق المواقف المعتدلة، مع التحذير من التمدد الصهيوني عبر وسائل متعددة، بما فيها وسائل التواصل. أشاركك القلق بخصوص ما تشير إليه من تغلغل الرواية الدينية الصهيونية في خطاب السلطة داخل الكيان المحتل الغاصب، وتحول المجتمع هناك إلى كتلة فاشية يصعب التمييز فيها بين المتطرف والمعتدل. وأوافقك أيضا أن تجاهل هذا المعطى الديني الإيديولوجي في تحليل طبيعة المشروع الصهيوني، بما له من امتدادات إعلامية ورمزية داخل مجتمعاتنا، يعد نوعا من العمى السياسي. ما نحتاجه اليوم، برأيي، هو تفكيك مزدوج: لتلك الأساطير المؤسسة التي يروج لها العدو من جهة، ولخطاباتنا الداخلية التي تقصي وتخون وتُخرس بدعوى الاصطفاف، من جهة أخرى. للأسف، الشعب الفلسطيني أيضا يعاني من هذه الإشكالية، وفي صلبها تهميش متزايد للدور المسيحي في نضاله، رغم كونه جزءا أصيلا من الحركة الوطنية وتاريخه المقاوم. هكذا اختتم هذا التفاعل المثمر الذي سررت بالمشاركة فيه والاستفادة منه. شكرت كل من لطيفة، نور الدين، جليل، نجيب، محمد، سيدي أحمد، عبد اللطيف، عدنان، نُهى وآخرون. أسئلة مفتوحة في نهاية النقاش اختتم التفاعل وبقيت جملة من الأسئلة مفتوحة: كيف نُعيد الاعتبار لثقافة النقاش دون تخوين؟ ما حدود الخطاب الديني في المجال العام السياسي؟ هل يمكن تحصين التضامن مع فلسطين من التوظيف السياسوي والانتهازي؟ ما هي حدود المواقف السياسية في القضايا السيادية والعلاقات الدولية؟ كيف نواجه خطر توظيف الدين في الخطاب السياسي، ونتائجه على النقاش العمومي؟ كيف نواجه الازدواجية في المواقف داخل تيارات الإسلام السياسي، خصوصا حين تتقاطع شعاراتها مع ما نحمله نحن من مبادئ وطنية وتحررية؟ هل من الضروري أن نعيد إعلان مواقفنا الثابتة، كرفض التطبيع، في كل مناسبة، أم أن الأهم هو التمايز في المنهج والخطاب؟ كلي أمل أن يستمر هذا النقاش بروح العقل والضمير، دعماً لقضية فلسطين، وحفاظًا على حق النقد والاختلاف في مجتمعنا. علينا مواجهة خطاب الكراهية واستغلال الدين في السياسة، مع الحرص على بقاء الحوار في مستوى راق بعيدا عن التنابز والإساءات، تفاديا للوقوع في دوامة التخلف والانقسام.