أعادت فرنسا مؤخرًا ثلاث جماجم إلى مدغشقر، من بينها ما يُعتقد أنه جمجمة الملك "توييرا" زعيم شعب الساكالافا الذي قُتل سنة 1897 خلال التوغّل الاستعماري الفرنسي، في خطوة رمزية أعادت إلى الواجهة النقاش حول الموروث الاستعماري الدموي لباريس وموقفها المتعنت إزاء الاعتراف بجرائم الماضي. الجماجم التي أُعيدت كانت محفوظة في متحف التاريخ الطبيعي بباريس منذ 128 عامًا، بعدما نُقلت عقب مجزرة ارتكبها الاحتلال الفرنسي في مدغشقر خلال إخضاع الجزيرة بالقوة. تلك المجزرة لم تكن استثناءً، بل جزءًا من تاريخ استعماري أسود امتد من شمال إفريقيا إلى آسيا وأرخبيلات ما وراء البحار، حيث عمدت فرنسا إلى ممارسة سلوك سادي فريد: جمع جماجم ورفات المقاومين ونقلها إلى باريس كغنائم حرب تُعرض في المتاحف، وأشهرها متحف الإنسان (Musée de l'Homme) الذي ظل لعقود مخزنًا مخيفًا لبقايا بشرية قادمة من المستعمرات.
محفوظات متحف الإنسان (Musée de l'Homme) والمتحف الوطني للتاريخ الطبيعي بباريس تضمّنت، عبر عقود، جماجم ورفات مقاومين ومقاتلين من بلدان عديدة جُمعت في إطار الحملات الاستعمارية أو البعثات الأنثروبولوجية. تقارير أكاديمية وصحفية وثّقت وجود جماجم لمغاربة قُتلوا في حروب المقاومة ضد الاحتلال الفرنسي، وإن كان الملف لم يُفتح رسميًا كما حدث مع الجزائر. كما احتفظت باريس بجماجم لمقاومين من الهند الصينية الفرنسية (خصوصًا فيتنام) استُعملت لدراسات عنصرية تحت مسمى "علم الأجناس"، وأخرى من نيو كاليدونيا وبولينيزيا تعود لمحاربين واجهوا التوسع الفرنسي في المحيط الهادي. وتشير الوثائق إلى وجود جماجم من تشاد والسنغال ومالي جُمعت خلال الحملات العسكرية الفرنسية، إلى جانب جماجم من مدغشقر نفسها تعود لانتفاضة 1895 ضد الاحتلال. ورغم الضغوط المتزايدة، ما زالت فرنسا ترفض حتى اليوم إقرار مسؤوليتها الأخلاقية عن هذا الإرث الاستعماري، ولم تقدم سوى استثناءين محدودين: إعادة 24 جمجمة إلى الجزائر عام 2020، وإعادة ثلاثة جماجم إلى مدغشقر في غشت 2025. لكن آلاف الجماجم لا تزال مكدّسة في أقبية متاحف باريس، في مشهد يناقض صورة "عاصمة الأنوار" ويكشف أن تحت أنوارها أنفاقًا من العظام تفضح عقلية الاستعمار العنصري الذي لم يكتف بإزهاق الأرواح بل صادَر حتى الأجساد بعد الموت. هذا السلوك يجد ما يشبهه في جرائم أخرى عرفها التاريخ. فالنازية بدورها احتفظت برفات ضحاياها في معسكرات الموت، في واحدة من أبشع صور احتقار الكرامة الإنسانية. واليوم تواصل إسرائيل النهج نفسه في فلسطين، إذ لا تكتفي بقتل المقاومين الفلسطينيين، بل تصادر جثامينهم وتحتفظ بها في ما يعرف ب"مقابر الأرقام". وقد كان آخر مثال مأساوي اختطاف جثمان قائد المقاومة في غزة، يحيى السنوار، واحتجازه إلى جانب مئات الجثامين لشهداء آخرين سقطوا على أرض فلسطين. إنها السلسلة نفسها من منطق الاستعمار: من فرنسا الاستعمارية إلى النازية ثم إلى الاحتلال الإسرائيلي. عقلية واحدة تحتقر الشعوب، ترى في أجساد المقاومين ملكًا لها، وتريد التحكم في مصائرهم أحياء وأمواتًا.