تكتسي إعادة نشر هذه المراسلات بين المناضل اليساري المغربي أبراهام السرفاتي من أصول يهودية (1926–2010)، والفيلسوف الفرنسي إيمانويل ليفين من أصول يهودية (1928–1999)، بعد ترجمتها إلى العربية من طرف الباحث سعيد بوخليط، أهمية خاصة في السياق الراهن الذي يشهد اهتزاز الأساطير المؤسسة للإيديولوجية الصهيونية تحت وقع الجرائم المروعة في غزة، وما أثارته من موجة تعاطف وانتفاضات شبابية ومواقف مثقفين غربيين تجرؤوا، لأول مرة بهذا الوضوح، على كسر حاجز الخوف من انتقاد الصهيونية. هذه الرسائل، المكتوبة في أواخر الستينيات وبداية السبعينيات، تكشف عن وعي مبكر وشجاعة فكرية نادرة لدى مناضلين تقدميين من أصول يهودية، عارضوا الصهيونية واعتبروها مشروعاً إمبريالياً استعمارياً يقوض القيم الإنسانية المشتركة. لقد سبق السرفاتي، بتراثه اليهودي–العربي والتزامه بالثورة الاشتراكية، وليفين، بعقيدته القبّالانية ورؤيته الروحية النقدية، عصرهما في استشراف واقع اليوم، حيث يشتد الجدل حول "ما بعد الصهيونية" وإمكانية بناء فضاء سياسي أكثر عدلاً وإنسانية بين البحر والنهر.
إن نشر هذه المراسلات من جديد ليس فقط عملاً توثيقياً، بل أيضاً تذكيراً بصلابة مواقف مثقفين ومناضلين شجعان رفضوا التواطؤ، وفضّلوا الدفاع عن قيم التحرر والعدالة، قبل أن تتحول هذه المواقف إلى ما يشبه بديهيات تتبناها أجيال جديدة في العالم. تقديم تُعتبر بلا شكٍّ مناهضة الصهيونية التقليد السياسي التحرُّري الأكثر كاريكاتورية وشجباً في وقتنا الراهن، حسب لغة تزعم الثَّورية. انخرط أبراهام السرفاتي، عبر هذا النص المكثَّف إلى أقصى حدٍّ، الصادر سنة 1970، في حوار مع إيمانويل ليفين، الذي يتبنَّى العقيدة القبلانية ويُعرف بمناهضته للصهيونية. خلافاً للأفكار المعهودة، أوضح السرفاتي أن أفق فلسطين ديمقراطية وعلمانية، ضمن حدود 1948، لا ينطوي على إنكار التقاليد الثقافية والدينية اليهودية أو المسلمة. بالعكس، افتخر بتراثه اليهودي–العربي، مؤكِّداً على الضَّرورة التي تقتضيها الثورة الاشتراكية في الشرق الأوسط بخصوص استعادة الإرث اليهودي–المسيحي، الثقافي والإيتيقي المشترك بين "شعوب أهل الكتاب". رأى السرفاتي، عكس التصوُّرات الماركسية–اللينينية الضيّقة، في النِّضال الفلسطيني تفتقاً ممكناً للقيم المجتمعية والدينية التي بوسعها إعادة إثارة إعجاب حركة عمالية غربية غارقة في "مياه جامدة كنهها حسابات أنانية". هذه المساهمة القيِّمة تمثل شهادة رائعة عن محاولات الشيوعيين العرب للتفكير في لاهوت التحرير الذي يدمج بين مقاومة الإمبريالية ومواجهة الهيمنة الطائفية. رسالة أبراهام السرفاتي أخي العزيز، رغم عدم اتِّفاقنا على جميع الواجهات، فإننا نظل إخوة على مستوى الصِّراع ضد الصهيونية، وكذلك الألم العميق الذي يعتصرنا بعد يونيو 1967، ونحن نرى اليهودية التي يستحيل إنكار جملة القيم التي قدَّمتها للإنسانية، وتغذّينا عليها، وقد هيمنت عليها حالياً هذه المؤسَّسة المتوحِّشة المسماة الصهيونية. أضيف أني تأثرت كثيراً بصرخة وفزع روجي بنحايم، اليهودي الجزائري الذي يعيش الاغتراب، والذي جعلت منه حياته حلماً عن الأخوَّة البشرية، هنا بين أحضان هذا العالم العربي الذي ظل بيته، رغم المنفى. يجدر بنا نحن اليهود، الرافضين للصهيونية عبر كل بقاع العالم، أن نساهم فعلياً في المشروع الثوري ضد الدولة الصهيونية، وأن نعضد مجهود الثوار العرب حتى لا نسقط في فخ العنصرية، ونجعل من هذا السعي مشروعاً ثورياً حقيقياً بالنسبة إلى العالم العربي، ومن خلاله نشارك في نضال البشرية قاطبة لاقتلاع أسس اضطهاد عريق بلغ أوجه تحت وطأة الإمبريالية. مثلما قلتم، تنكشف بالمواجهة الحرَّة والممارسة العملية حقيقة مناهضة الصهيونية بالنسبة لليهود الذين خدعتهم الصهيونية وغررت بهم. جلّ هؤلاء، عبر سبل مختلفة، أدركوا الجريمة التي تقترفها الصهيونية ضد اليهودية وكذا الإنسانية. لذلك، يلزمني أن أستعيد بعض انتقاداتكم للاشتراكية، وأوضح مثلما انطوى عليه مضمون دعوتكم، مفهوم فلسطين علمانية، موحَّدة وديمقراطية، كجزء من العالم العربي. 1 الاشتراكية والصراع ضد الإمبريالية هل يمكننا بخصوص الاشتراكية أن نضع ضمن نفس السياق إنجاز الاشتراكية الفعلي منذ خمسين سنة على امتداد العالم، رغم جوانب قصورها الإنساني، ثم عالماً يتعفَّن نتيجة الإمبريالية؟ عموماً، استطاعت الاشتراكية إنهاء العنف الممارس على اليهود في روسيا، كما أن تضحيات شعوب الاتحاد السوفياتي كانت عنصراً أساسياً في سحق النازية. إزاء العنصرية، التي لا تختفي إلا تدريجياً، شهد الاتحاد السوفياتي تحولات جذرية، كما أكدت تقارير صحفية (من بينها تقرير في لوموند) حول واقع الشعوب المسلمة في آسيا الوسطى، تطورها الاقتصادي والثقافي، والتعايش بين اليهود والمسلمين. تحلُّل الدولة يرتبط بتغيرات ثقافية وبنيوية عميقة تراكمت على امتداد عهود من الجور، وهو ما تبنَّته الثورة السوفياتية وتطور مع الثورة الصينية، ومعركة الفيتناميين، والتجربة الكوبية. مشروع ضخم يقتضي اقتلاع جذور بنيات اقتصادية قائمة على استغلال الإنسان، كخطوة أولى للتخلص من الإمبريالية. فيما يتعلق بنا، يستحيل في إطار الصراع ضد الصهيونية تجاهل ارتباطها الوثيق بالإمبريالية، ثم وحدة نضال القوى الاشتراكية في العالم ضد الاثنين معاً. 2 الهوية اليهودية والثورة العالمية أعتقد من جهتي أن الانخراط في الثورة العالمية، والثورة العربية على وجه التحديد، ليس ك "شعب يهودي". الموقف يتطلب تجاوز مفهوم "الدولة اليهودية"، وأيضاً فكرة "الشعب المتفوق"، التي غذَّت الصهيونية. يجب على اليهودية، قصد استمرارها وفيًّة لقيمها الأساسية، أن تتمسك بإمكانية إعادة التبلور في إطار تعددية قومية. هنا تبرز أهمية الماضي المشترك اليهودي–الإسلامي في العالم العربي، حيث عاش اليهود في إطار من التعايش والخصوبة، خصوصاً في المغرب، حيث كان عيد الميمونة مثالاً على أخوّة يهودية–إسلامية متجذّرة. هذا ما أعنيه، وأنا مقتنع أن الثوار العرب الواعين، مهما كان أصلهم الديني، يشاركونني هذا التصور لدولة فلسطينية ديمقراطية، يتمتع فيها جميع المواطنين بالحقوق نفسها، باعتبارها جزءاً من الوطن العربي الكبير. جواب إيمانويل ليفين أخي العزيز وصديقي، أشعر بتحسُّر لأننا لم نلتق، لكن رسالتكم أسعدتني حقاً. أرغب منذ فترة طويلة في التواصل مع أشخاص يتقاسمون معي الديانة نفسها وينحدرون من بلدان عربية. لماذا لا يجيبون على دعوتي التي تصب في صميم اهتماماتهم الفورية، عكس الفعل الصهيوني الذي يستهدف ضياعهم وتدمير طوائفهم المزدهرة سابقاً؟ يلزم التحلّي بكثير من الصبر لتحقيق الأمنيات، لاسيما مع استمرار الاعتقاد بالمسيح (أو المشيح) قوام الإيمان اليهودي. أنا مهتم جداً بمفهومكم لفلسطين عربية وديمقراطية، بقدر إيماني أن مصير اليهود والعرب يكمن في التعاون لوضع مرتكزات اشتراكية أكثر إنسانية وروحية. إسرائيل لا تحتاج إلى تأسيس دولة، بل عليها تخصيب دول الآخرين بحضورها. وجود دولة يهودية في فلسطين يعني فقدان ثقة العرب. لذلك يلزم أولاً توجيه نضالنا ضد الإيديولوجية الصهيونية، إذ يشكل انتصارنا حائلاً دون تدفق كثير من الدم العربي واليهودي. الدولة الصهيونية قنبلة تهدّدنا جميعاً بالتدمير، مما يحتّم علينا ضرورة نزع فتيلها عبر توعية الجماهير اليهودية بأن الصهيونية لا تخدم مصالحهم بل مصالح الرأسمالية. إذا نجحنا في إلغاء دولتنا، سنقدّم للعالم نموذجاً مثيراً، ونظهر كشعب ثوري يُحتذى به. الهوامش حول المقطع الوارد في الرسالة: انتقد ماركس "اليهودي الواقعي" بوصفه تعبيراً عن أنانية المجتمع البورجوازي، وميّز بين اليهودي الجوهري (يهودي السبت، المتصوفة) واليهودي الفعلي (الذين جعلوا المال والسياسة أساس وجودهم)، ورأى أن الدولة الإسرائيلية تمثل "الدولة المطلقة"، المسموح لها كل شيء، والتي تفرض على العالم الخضوع لمطالبها. كما أشار التقليد الصوفي اليهودي (القبالة) إلى التمييز بين "إسرائيل الحقيقة" (شعب الفقراء) و"إسرائيل الزائفة" (مجتمع الأثرياء المتسلطين). حول دراسات شيلومو دوف غويتن: نشر دراسة بعنوان اليهودية المغربية والصهيونية في مجلة أنفاس (عدد خاص: من أجل الثورة الفلسطينية)، كما نشر دراسة أخرى بعنوان هل تمثل الدولة الإسرائيلية وطناً؟. أبراهام السرفاتي: ولد في الدارالبيضاء سنة 1926. مهندس مناجم وأستاذ في المدرسة المحمدية للمهندسين في الرباط، وهو مناضل في صفوف الحركة الوطنية المغربية منذ 1944، كرس كتاباته ونضاله لقضايا التحرر الوطني، والدفاع عن القضية الفلسطينية، ومناهضة الصهيونية والإمبريالية. إيمانويل ليفين: ولد في باريس سنة 1928، من أب وأم فرنسيين من أصول روسية وبولونية. درس الحاخامية، ثم تبنَّى العقيدة القبلانية، وألف عدة كتب منها: اليهودية ضد الصهيونية، أنطولوجية صغيرة حول التصوف اليهودي، لغز الكلمة الإلهية إلوهيم، قابيل وهابيل، كابالا في ألفها...)