على مدى عقود، شهد المغرب موجات متفاوتة من الاحتجاجات الاجتماعية والسياسية، لكن القليل منها ترك أثراً عميقاً في الوعي الجمعي. حتى ظهر حراك الريف سنة 2016، الذي شكّل نقطة تحول حقيقية في تاريخ الحراك الشعبي بالمغرب، وأسس لما يمكن تسميته "جيل الزفزافي": جيل جديد من الشباب الواعي، المطالب بالكرامة والعدالة. لم يكن هذا الجيل حدثاً عابراً أو موجة غضب مؤقتة، بل نتاج تراكمات اجتماعية وسياسية وثقافية، وتجربة شعبية أسست لوعي المواطن الجديد. بدأت شرارة الحراك إثر مقتل بائع السمك محسن فكري بطريقة صادمة داخل شاحنة للنفايات بمدينة الحسيمة. لم تكن الحادثة مجرد مأساة فردية، بل انعكاساً لسنوات من الإقصاء والتهميش الذي عاشه سكان الريف بلا فرص اقتصادية حقيقية أو تنمية عادلة. لذلك لم يكن الغضب الجماعي مجرد رد فعل على الواقعة، بل تجسيداً لمطالب أساسية طال انتظارها: العدالة الاجتماعية، التنمية، الكرامة والحرية.
في هذا السياق برز ناصر الزفزافي كرمز للحراك، قائداً قادراً على تحويل الألم الفردي إلى طاقة جماعية. اعتمد الحراك على سلمية الاحتجاج والاعتصام والمطالبة بالمشروعية، وأصبح نموذجاً للضغط المدني السلمي. لكن المقاربة الرسمية للمخزن كانت أمنية بحتة، عبر الاعتقالات والمحاكمات التي أثرت على حياة المئات. ورغم ذلك لم تطفأ الشرارة التي أشعلها الحراك، بل تحوّل الزفزافي إلى أيقونة وطنية للصمود والكرامة، ورمز لرفض الظلم والتشبث بالحقوق. من رحم هذه التجربة وُلد "جيل الزفزافي"، جيل يرى في صمود المعتقلين مرجعاً ودروساً في الإصرار على أن الكرامة لا تُباع ولا تُهدَر، وأن التغيير يبدأ من وعي الفرد قبل الجماعة. لم يعش هذا الجيل الحراك مباشرة فقط، بل تشكّل أيضاً على وقع الروايات والصور القادمة من المعتقلات، حيث واجه النشطاء سنوات من العزلة والضغط النفسي صامدين ومتمسكين بمبادئهم. لقد صار صمودهم رمزاً للقوة المعنوية وتجسيداً لفكرة أن الحرية لا تُمنح بل تُنتزع. على مدى عقود، حاول النظام المغربي التعامل مع الشباب بمنطق الضبط والتحكم بدل المشاركة، موجهاً طاقاتهم نحو الاستهلاك والترف السطحي بما يبعدهم عن التفكير النقدي والسياسي. غير أن تجربة الريف أثبتت أن هذه السياسات لا تستطيع إخماد الوعي الشبابي، بل تصقله وتزيده إصراراً على المطالبة بالحقوق. لقد شكّلت شخصية الزفزافي رمزاً للوعي والشجاعة، ومنحت الشباب قوة نفسية جعلتهم يؤمنون أن التغيير ممكن. لم يقتصر تأثير الحراك على الريف وحده، بل امتد إلى مختلف المدن المغربية، حيث صار رمزاً لصمود الإنسان في مواجهة القهر، ورسالة واضحة للشباب مفادها أن الكرامة لا تُهان، وأن الحرية حق يُدافع عنه بالوسائل السلمية. ومع صعود الإعلام الرقمي، وجد الشباب أدوات جديدة للتعبير عن مطالبهم ونقل أصواتهم بعيداً عن القنوات التقليدية المسيطر عليها. وهكذا، تحوّلت المنصات الرقمية إلى فضاء لإحياء الوعي وتشكيل رؤية جديدة لدور الشباب في مساءلة السلطة. إن "جيل الزفزافي" ليس فكرة عابرة، بل حالة وجدانية وفكرية متكاملة تتجاوز الأشخاص إلى مفهوم المواطن الواعي، الرافض للظلم، الساعي إلى التغيير البنّاء. كل محاولة للقمع أو التهميش تحولت إلى وقود إضافي عزّز إرادة الشباب على المعرفة والمشاركة. اليوم، يظهر هذا الجيل في الشوارع والساحات، يستخدم صوته ووسائل التواصل، متجاوزاً الخوف، وأكثر استعداداً لمواجهة التحديات بوعي ومسؤولية. لقد أدرك أن الوطن لا يُبنى بالصمت أو الخضوع، بل بالوعي والمثابرة والمقاومة السلمية. إنه جيل الأسئلة التي لا تموت، جيل الكرامة والوعي، جيل يؤمن أن الحرية والعدالة لا تُنتزع إلا بالوعي والعمل الجماعي. إرث حراك الريف وصمود معتقليه ما يزال حاضراً في كل شارع وكل قلب شاب يتطلع إلى الحرية. ما يحدث اليوم في المغرب ليس مجرد موجة غضب عابرة، بل امتداد لمسار بدأ قبل سنوات، مسار يرسخ أن الكرامة الوطنية لا تتجزأ، وأن الحقوق الأساسية لا تُمنح بل تُنتزع بالوعي الجماعي. في النهاية، يبقى "جيل الزفزافي" شاهداً على أن الحرية والكرامة لا تموتان، وأن كل تجربة قمع تترك أثراً لا يُمحى في الوعي الجمعي. فالشباب المغربي، مهما حاولت السياسات الرسمية تحجيمه، يظل قادراً على استعادة صوته والمطالبة بحقوقه وصياغة مستقبل يليق به وبوطنه.