في مغرب اليوم، يقف التعليم عند مفترق الطرق، حيث تتداخل التقاليد القديمة مع تطلعات مجتمع يتغير بوتيرة سريعة. في هذا المشهد، يطل "جيل Z"؛ جيل يحمل في عقله همومه الخاصة: وعيا نقديا قلقا لا يهدأ، وجرأة على السؤال تتجاوز حدود الخوف والرتابة. هذا الجيل لا يقبل المعلومات على شكل شعارات وقوالب جاهزة، ولكنه يبحث عن الفهم، عن مغزى المعرفة في عصر مفتوح، يتغير. إنه جيل يوازن بين متطلبات زمنه، دون أن يفقد ذاكرته التي تربطه بوطن عريق في حضارته، غني بثقافاته المتنوعة، بين طموحه الفردي والتزامه الاجتماعي، بين روح الحرية التي تتجاوز الحدود التقليدية والانضباط الذهني، ويجعل من التفكير النقدي أداة للوعي والتحرك، تماما كما كانت الحركات الشبابية في التاريخ شرارة لضخ دماء التجديد في السياسات وإعادة تشكيل المجتمعات. لكن هذه القوة الفاعلة، مهما بلغت، لا تستطيع اختزال طموحاتها في تغيير شخص أو منصب. فالتعليم الذي ينادي شباب اليوم بالاهتمام به، ليس قضية وزير أو قرار لحظي، بل منظومة معقدة مبنية على ثقافة متجذرة، وأساليب تدريس تقليدية، وهياكل مؤسساتية متجاوزة. فاستقالة الوزير، كما يطالب الشباب من بين أمور أخرى، ومهما بدت رمزيتها استجابة لجانب من تلك المطالب، فلن تلمس جذور المشكلة، ولن تخلق بيئة تعليمية قادرة على تحفيز التفكير النقدي أو إبداع المعرفة. الإصلاح الجوهري يبدأ من إعادة بناء ثقافة التعلم نفسها، من إعادة الاعتبار للقيم التي تحكم طريقة اكتساب المعرفة، ومن تشكيل وعي جماعي يجعل التعلم فعلا مستمرا وورشا مفتوحا في بيئة حرة حاضنة لكل فئات المجتمع، وليست امتيازا لطبقة ميسورة على حساب طبقات أخرى. في قلب هذا التحدي تكمن البنية المؤسسية للتعليم: شبكة من المدرسين، والمناهج والقوانين والمرافق. هذه البنية، إذا بقيت جامدة أو معزولة عن محيطها المتغير باستمرار، ستعيد إنتاج الفشل مهما تغيرت الشخصيات على رأس المؤسسات. إصلاح التعليم يتطلب إعادة هندسة كامل منظومته: تأهيل المدرسين، تحديث المناهج، وخلق بيئةٍ تشجع على الابتكار والإبداع والتفكير المستقل، حيث يصبح الطالب شريكا في العملية التعليمية بدل أن يبقى متلقيا سلبيا للمعلومات، دون إغفال تنقية المؤسسة التعليمية من أمراض الزبونية والغش والمتاجرة والاستغلال. ومن هنا تظهر أهمية إشراك الشباب والاستماع إلى تطلعاتهم، بهدف إعادة صناعة القرار التعليمي بشكل شامل وعميق. "جيل Z" يملك الرغبة والوعي والقدرة على المساهمة الفعلية في تصميم المناهج التي تتناسب مع عصره واحتياجاته المعرفية والرقمية، واختيار طرق تعلُّم حديثة تركز على "التفكير النقدي"، التعلم بالمشاريع، والمرونة في اكتساب المهارات. إضافة إلى ذلك، من الأفضل تنمية مهاراتهم، تقديم التكوين اللازم لهم، اطلاعهم على تجارب النهضات التعليمية الناجحة في العالم، وإعدادهم عمليا ليصبحوا شركاء فاعلين حقيقيين في الإصلاح التعليمي، أفضل من أن يظل الأمر مجرد صدام بين طرفين يسيران نحو التناقض: طموحات الشباب وتجاهل الحكومة، إن لم يكن تعنتها. ففي منظومات التعليم الناجحة عالميا، يظهر أن مشاركة الطلاب بهذه الطريقة تحوّل التعلم إلى تجربة حية وديناميكية، تعزز الشعور بالمسؤولية الذاتية والانخراط الجماعي، وتضمن أن الإصلاح لا يبقى شعارا رمزيا، إنما يتحول إلى فعل ملموس ومستدام. إن النهضة التعليمية، إذا أرادها المجتمع بصدق، تبدأ من إعادة تشكيل "العقل الجمعي": تقدير الفهم وليس الشهادات، العقل النقدي وليس التلقين، والحرية الفكرية وليس الطاعة العمياء.. كل تغيير شكلي، مهما كان، يظل بلا جدوى إذا لم يمتد إلى الجوهر: وعي المجتمع، تكوين المدرس، بيئة مدرسة حاضنة، ومناهج تعليمية تتماشى مع العصر. التعليم، في نهاية المطاف، هو مسؤولية جماعية تمتد من حارس بوابة المدرسة إلى أعلى سلطة وزارية. فإذا كان كل فرد في المجتمع، من الطالب إلى المدرس، من الأسرة إلى المؤسسات، يتحمل نصيبه من المسؤولية في صناعة المعرفة وتشكيل بيئة تعليمية محفزة، عندئذ يسير قطار التعليم نحو وجهته المبتغاة. والوهم الأكبر، أن ننتظر من استقالة وزير حدوث معجزات. مسؤولية النهضة التعليمية تقع على عاتق كل واحد منا، والإصلاح يبدأ من المشاركة والوعي والعمل الجماعي الحقيقي. خريجة جامعة أسكودار كلية الإعلام الجديد والاتصال اسطنبول تركيا