المطالب، التي يرفعها شباب حركة "GenZ212″، لم تعد تقتصر على الشعارات أو الانتقادات العامة، بل باتت تلامس صميم الإشكالات البنيوية التي تعيق الإصلاح في المغرب. فحين يضع هذا الجيلُ الصحةَ والتعليمَ والشبابَ في مقدّمة أولوياته، فإنه يعيد ترتيب أجندة النقاش العمومي على أساسٍ جديد: المطالبة بإعمال المؤسسات، التي ينصّ عليها الدستور، وتجديد تلك التي استُهلكت جدواها، واقتراح هيئات جديدة تُواكب حاجات المجتمع المتغيّر. من هذا المنطلق، تبرز ثلاثة مجالس كمفاتيح رمزية وفعليّة لأي انتقال جاد: المجلس الأعلى للشباب، والمجلس الأعلى للصحة، والمجلس الأعلى للتربية والتكوين. أولا: المجلس الأعلى للشباب.. المبدأ الدستوري المؤجل ينصّ دستور 2011، في الفصل 33، على مبدأ أساسي يتعلق بتمكين الشباب من المشاركة في الحياة العامة، ويُلزم الدولة بإحداث مجلس استشاري للشباب والعمل الجمعوي. غير أن هذا المبدأ ظلّ، منذ ذلك التاريخ، في خانة "النية الحسنة" دون أن يتحوّل إلى واقع مؤسساتي فعّال. لقد مرّ أكثر من عقد على هذا الالتزام الدستوري، ومع ذلك ما زال الشباب المغاربة يعبّرون عن أنفسهم خارج المؤسسات: في الشارع، وفي الشبكات الاجتماعية، وفي الحملات الرقمية. وهذا دليل واضح على أن القنوات الرسمية لم تُفتح بعد أمامهم للمشاركة الفعلية في صياغة القرار العمومي. وفي تقديري، يجب الكفّ عن النظر إلى المجلس الأعلى للشباب سواء كشكل من الترف السياسي، أو مجرد خيارٍ إداري، وبالمقابل الانتقال إلى تفعيل المجلس باعتباره اليوم ضرورة سياسية وأخلاقية، خصوصًا بعد أن عبّر جيل Z عن وعيه الجمعي واستقلاليته الفكرية، وعن رغبته في المساهمة بفعالية في النقاش العمومي. مجلسٌ بهذا الطابع يمكن أن يتحول إلى جسر مؤسسي بين الدولة والجيل الجديد، وأن يمنح هذا الجيل الاعتراف الذي يستحقه داخل منظومة القرار العمومي. ثانيا: المجلس الأعلى للصحة.. مقترح لم يعد يحتمل التأجيل إذا كانت الصحة قد تحوّلت إلى المطلب الاجتماعي الأول خلال السنوات الأخيرة، فذلك لأن المغاربة جميعًا، وخاصة الشباب، لمسوا حجم الأعطاب البنيوية التي تضرب القطاع. فالنقص الحاد في الموارد البشرية، وضعف التجهيزات، وغياب العدالة المجالية في توزيع الخدمات الصحية، كلّها مؤشرات تُظهر أن الأزمة هي أزمة هيكلية ومؤسساتية. لهذا، أعتقد أنه من المنطقي أن أقترح إحداث مجلس أعلى للصحة، على غرار المجالس الدستورية الأخرى، يتولّى الإشراف على التخطيط الاستراتيجي للقطاع، ومراقبة مدى التزام المؤسسات العمومية بحق المواطن في العلاج اللائق، وضمان التنسيق بين الدولة والجهات في مجال السياسات الصحية. مجلس كهذا يمكن أن يُحدث قطيعة مع التدبير التجزيئي القائم، وأن يُعيد للقطاع اعتباره باعتباره ركيزة من ركائز الأمن القومي والاجتماعي. إن تجارب الأزمات الصحية العالمية، بما فيها جائحة كوفيد-19، أثبتت أن الأنظمة التي تمتلك مؤسسات مركزية للتفكير الصحي هي الأقدر على الصمود والتكيف. فكيف للمغرب أن يرفع شعار "الدولة الاجتماعية" دون أن يمتلك هيئة عليا تُؤطّر السياسة الصحية برؤية بعيدة المدى؟! إن المجلس الأعلى للصحة لن يكون اقتراحا للمزايدة ولا ترفًا تنظيميًا، بل هو أداة بقاءٍ ورافعة للتنمية، وفرصة لإعادة الثقة في القطاع، الذي يقيس به المواطن جودة الحياة وعدالة الدولة في آن واحد. ثالثا: المجلس الأعلى للتعليم.. مؤسسة تحتاج إلى إعادة تأسيس حين تحدّث جيل Z عن التعليم باعتباره ثاني مطالبه الاجتماعية بعد الصحة، فقد كان يُوجّه أصابع الاتهام نحو منظومةٍ لم تعد تُنتج الأمل. التعليم في المغرب يعيش واحدة من أعقد مراحله: تدهور في الجودة، تفاوت مجالي صارخ، مناهج متقادمة، مخططات فاسدة بميزانيات ضخمة مستباحة، وتدبير بيروقراطي لا يواكب التحوّل الاجتماعي والتكنولوجي الذي يعيشه العالم. ووسط هذا الواقع، يبرز سؤال كبير: ما دور المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي كمؤسسة دستورية؟ هذه الهيئة التي أنشئت لتكون "ضمير التعليم" ومرجعية إصلاحه، لم تنجح في أن تترك بصمتها، رغم التقارير والمذكرات والميزانيات التي صرفت على أعمالها. لقد تحوّل المجلس، في نظري على الأقل، إلى مؤسسة للتشخيص الدائم دون علاج، تُصدر التوصيات ولا تُحاسب على النتائج، وتُعيد إنتاج الخطاب أكثر مما تُحدث التغيير. لقد آن الأوان لإعادة النظر جذريًا في تكوين هذا المجلس، سواء على مستوى تركيبته البشرية، أو صلاحياته الفعلية، أو آليات تقييم أدائه. ليس المقصود، هنا، ولا المطلوب إلغاء المجلس، بل إعادة تأسيسه على منطق جديد: من مجلس استشاري إلى مجلس محاسبة تربوية يربط بين التخطيط والنتائج، بين التمويل والمردودية، وبين التعليم والعدالة الاجتماعية، خصوصاً إذا علمنا أن هذا المجلس يضم وزيرا سابقا في حكومة عباس الفاسي له باع طويل في "تخريب" منظومة التربية والتكوين، عندما كان وزيراً للتربية الوطنية والتعليم العالي، إذ يتحمل مسؤولية سياسية وأخلاقية، وقد تكون قانونية أيضاً، في تبديد أكثر من 4400 مليار سنتيم من أموال البرنامج الاستعجالي لإصلاح التعليم، علما أن تبديد مبلغ كبير جدا من المال العام بهذا الحجم لا يمكن إلا أن يكون من الأسباب المباشرة في تدهور ونكبة وإفلاس قطاع التربية والتعليم في المغرب إلى اليوم، ورغم كل هذا اختاره حزبه البام ليمثله داخل هذا المجلس رغم أنه يجرّ وراءه كل هذه الاتهامات دون محاسبة إلى الآن، ناهيك عن شخص آخر مازال ملفه الجنائي يراوح مكانه برفوف المحكمة لم نعرف له نهاية. من الغياب إلى الفعل إن هذه المجالس الثلاثة، أولها مؤجَّل والثاني غائب والثالث مُعطَّل، تختصر في الواقع صورة الأزمة المؤسساتية التي يعيشها المغرب اليوم. فجيل Z لم يطالب بالمستحيل، بل طالب فقط بتفعيل ما هو موجود أصلًا في الدستور، وتجديد ما استهلكه الزمن، واقتراح ما يضمن حياة كريمة للمغاربة جميعًا. إن لحظة الإصغاء لهذا الجيل هي لحظة سياسية بامتياز، وهي شرط لبناء المستقبل. فجيل يطالب بمجلس أعلى للشباب، ومجلس أعلى للصحة، ومجلس أعلى للتعليم، هو جيل لا يطلب الشارع، بل يطلب المؤسسة. وهذه، في نهاية المطاف، هي أسمى درجات النضج السياسي… نحن اليوم في خريف غضب شبابي مغربي فقد ثقته في رئيس الحكومة بارون المحروقات عزيز أخنوش ويطالبه بالرحيل…وهو نفسه فقدان الثقة الذي دفع الكثيرين قبل سنوات للتعبير عن أصواتهم ومواقفهم وتوجهاتهم، بعدما وجدوا ضالّتهم في نفس وسائل التواصل الاجتماعي التي يعتمدها جيل Z اليوم، وقتها كان الواتساب والتيك توك وصولا إلى الفضاء الأزرق، منصّات تحوّلت إلى أكبر معارضة داخل البلاد، إلى درجة إطلاق أكبر حملة افتراضية على الإطلاق قادها نشطاء ورواد مواقع التواصل الاجتماعي، في مواجهة الغلاء والارتفاع الصاروخي في الأسعار، ومطالبة رئيس الحكومة الملياردير بالرحيل واتهامه بنهب جيوب المغاربة عبر خلط المال بالسياسة. إضافة إلى التأثير والفعل في مواقع التواصل الاجتماعي، أدّى أيضا قبل سنوات إلى بروز "حراكات" اجتماعية، خارج وضد الأحزاب القائمة، عبارة عن احتجاجات شعبية في عدد من المناطق المغربية، من قبيل الحسيمة وزاكورة وأوطاط الحاج وجرادة… ثم توّجت هذه الحركية ببروز "التنسيقيات"، خلال "معركة التعليم"، ليتعدى فقدان الثقة من الأحزاب إلى النقابات… وفي كل هذه الحالات، بدت الأحزاب عاجزة، لقد عجزت عن الحضور الفاعل والمؤثّر في مواقع التواصل الاجتماعي الذي يحرك "الحراكات" و"التنسيقيات"، وهو ما انعكس على وزنها ومواقعها في الساحة، إذ فشلت في استقطاب نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي، وأخفقت في استعادة المبادرة منهم إلى اليوم. افتتاح البرلمان أم افتتاح زمنٍ جديد غدًا، حين يفتتح الملك الدورة التشريعية الجديدة، ستكون القاعة الكبرى تحت قبة البرلمان مزدحمة بالوجوه، والعدسات، والتصفيقات، وكذا الانتظارات… الأكيد أن البرلمان القديم، وهو في سنته الأخيرة، لا يمكن يُصغي لجيل جديد يطرق باب المؤسسات المغلقة! فهل سنشهد، مرة أخرى، خطابًا ملكيًا من قبيل خطاب تاسع مارس 2011 يُحاول بثّ الروح في جسدٍ سياسي يزداد تصلّبًا كل عام؟ فالمجالس الثلاثة، التي ينتظرها جيل Z، لا يريدها أن تكون، كما هو جارٍ به العمل، مجرد أوراق إدارية في رفوف السلطة، بل مفاتيح لثلاثة أبواب مغلقة منذ زمن: باب الشباب، حيث الحلم المؤجل، وبذور المشاركة التي عطّلتها البيروقراطية.. وباب الصحة، حيث الوجع اليومي للمغاربة، وقد صار الحق في العلاج أقرب إلى الأمل منه إلى الواقع.. وباب التعليم، حيث تُكتب مصائر الأجيال بخطّ متعب على سبورات قديمة لا تُطلّ على الغد. في الغد، حين يتلو الملك خطابه، ربما لا تُذكر هذه المجالس بالاسم، لكنّ أرواحها ستكون في القاعة: ستجلس على مقعدٍ شاغر باسم الشباب.. وستضع يدها على ملف الصحة.. وستفتح كتاب التعليم على الصفحة التي لم تُقرأ بعد. وحين يعلو التصفيق في نهاية الجلسة، سيكون أمل الشباب، بل أمل عموم المغاربة، معلّقًا في الفضاء السياسي كما في ضمير الوطن: أمل أن يكون العاشر من أكتوبر 2025 أكبر من مجرد افتتاحٍ للدورة التشريعية، بل افتتاحًا لزمن جديد، حيث تُسمَع الأجيال لا لأنها تصرخ، بل لأن أصواتها تستحق الإصغاء…