في تقرير حديث لمنصة eBird التابعة ل جامعة كورنيل الأميركية، رُصدت في المغرب خلال الأسبوع الماضي موجة لافتة من مشاهدات الطيور المهاجرة والمقيمة، تكشف عن حالة تنوع حيوي نابض في عدد من المحميات والبحيرات والمستنقعات على امتداد الساحل والأطلس والصحراء. كان أبومنجل الأصلع الشماليa واحدا من أبرز الأبطال في هذا المشهد، فهذا الطائر الذي يملك تاريخا طويلا من الانقراض والعودة، والذي لا يزال المغرب آخر معقل حقيقي له على وجه الأرض، ظهر بأعداد كبيرة تصل إلى 90 فردا في منتزه سوس ماسة، ثم شوهد سرب آخر يضم 80 فردا في المنطقة ذاتها بعد يومين فقط، وكأنها احتفالية موسمية صامتة فوق السهول الرملية المالحة بألوانها الرمادية والزيتونية الداكنة.
وعلى ضفاف المستنقعات نفسها، كان البطة الرمادية تتحرك بأعداد بلغت 57 فردا في أحد مواقع الرصد شمال مدينة تطوان. هذه البطة تبدو دائما وكأنها تفضل الماء الهادئ والضوء الخافت عند الغروب. الانتظام في حركة السرب، الانحناء المتناسق أثناء البحث عن الغذاء، والانسجام الصامت مع الماء، يمنحها طابعا أقرب إلى سكون المتصوفة في تأملاتهم العميقة. تراقبها البحيرات بلا ضجيج، كأنها تعرفها منذ قرون. أما البط أبو ملعقة الشمالي، فقد جاء في أسراب متكررة تضم 14 فردا في كل مرة تقريبا، خصوصا في حقول أغريمز عند وادي ماسة. من يشاهد هذا الطائر يعرف أن منقاره ليس شكلا فحسب، بل أداة غربلة دقيقة للطحالب الصغيرة والحشرات المجهرية. إنه طائر يعرف كيف يقرأ الماء؛ يعرف أين تزدهر الحياة ومتى تهرب. في الصحراء المتاخمة لبومالن دادس، حلّقت أسرابٌ من القطا أسود البطن بأعداد هائلة وصلت إلى مئةٍ وعشرين فردا في إحدى الملاحظات غير المؤكدة، إلى جانب أفرادٍ من القطا متوّج الرأس والقطا طويل الذيل. وقد كان مشهد الطيران الجماعي لهذه الطيور فوق السهول الرملية كالسيل الذهبي، ينهض فجأة من الأرض ثم يتلاشى في سراب الصباح. هذه الطيور الصحراوية، التي تشرب بسرعة خاطفة ثم تطير عشرات الكيلومترات بحثا عن مأوى، هي رمزٌ لقدرة الصحراء على الحياة رغم الصمت والجفاف. وفي بحيرات ضايات الشمال والساحل الأطلسي، ظهرت البطة الرخمة ، ذلك الكائن النادر الذي يقف في قوائم الطيور المهددة بالانقراض. شوهدت سبعة أفراد منها في سيدي موسى، وثلاثة أخرى في ضاية دار بوعزة قرب الدارالبيضاء. يكفي أن ترى هذه البطة مرة، لتشعر وكأنك شاهدت شيئا ثمينا، هشا، ووجوده نفسه أشبه بمعجزة صغيرة تتكرر على استحياء وفي المياه العميقة لتطوان وساحل الصويرة، بدت البطة الحديدية، ذات العينين الأحمرين العميقين، تقطع سطح الماء مثل شرارة. شوهد فردان في تطوان، ثم فرد واحد فقط في وادي ماسة، وكأنها تتحرك بثقل التاريخ الذي يحاصر الأنواع المتراجعة والمهددة بفقدان موائلها. كل مشاهدة لها ليست مجرد حدث علمي، بل تذكير بأن الخطر حقيقي، وأن كل فقدان ليس قابلا للتعويض. ومن بين المشاهد التي حركت فضول المراقبين، كانت البطة بيضاء الرأس ، وهي من أكثر طيور الماء ندرة في شمال إفريقيا. شوهد فردان فقط في منتزه سيدي بوغابة قرب القنيطرة. في لحظة الغروب، عندما يصبح الماء مرآة ذهبية، يلمع رأسها الأبيض فوق السطح مثل نقطة ضوء متروكة عن قصد في صفحة الغيم. وفي المقابل، كان البط البري أكثر طمأنينة في حضوره، إذ ظهر بعدد بلغ 11 فردا في سيدي بوغابة، و6 أفراد في وادي ماسة. هذا الطائر لا يحتاج الكثير من الوصف؛ إنه جزء من الذاكرة البصرية لطفولة المدن، من أحواض الحدائق وبرك الشتاء. لكن عندما يبتعد عن المدن ويعود إلى موائل طبيعية مثل المراعي المائية، يبدو أكثر حرية، وأكثر حيوية. وعلى طول الشريط الساحلي، بدا البلشون الأبيض يلوّح بمنقاره الطويل وكأنه فرشاة ترسم الماء، حيث شُوهد 22 فردا عند مصب وادي سوس، و10 في إنزكان. وفي تطوان، كان المشهد الأكثر شاعرية ربما مع البلشون الليلي، إذ شوهد 29 فردا مجتمعين قرب المياه الهادئة. وهؤلاء لا يستيقظون مع النور، بل مع العتمة، وكأن الليل هو وطنهم الحقيقي، والضوء مجرد عبور مؤقت. وكان مشهد الحجل البربري هو الأكثر ألفة للمغاربة، ليس فقط لكونه طائرا وطنيا متجذرا في الجبال والسهول، بل لأنه يُمثل بقاء الذاكرة البرية حيّة. تكررت ملاحظاته في المحمية الملكية بعين سفرجلة وأوكايمدن وضاية دار بوعزة، بأعداد وصلت إلى عشر طيور في بعض المواقع. وفي المساء الذي يهبط على واد ماسة، كان طائر السُّرْد الحمراء العنق يُطلّ على المشهد بخفة الظلال، طائرٌ ليليّ لا يُرى إلا حين يتحرك الهواء حوله. شوهد في المصب نفسه وفي الحقول المجاورة في أكثر من مناسبة، وهو طائر يعتمد على التمويه حتى يصعب على العين أن تفصله عن الأرض.