يحترق كل من لا يفهم التاريخ، والذي ليس أحداثا فحسب، بل حقائق أيضا، حقائق مبنية على متغيرات مستقلة، وحتى ثابتة نسبيا أحيانا، وأخرى تابعة. بذلك يكون التاريخ ليس تتابع وقائع تسبح في الفوضى، وإنما تتابع ممكنات يجب فهمها، وحتى التدخل فيها، فبعض وقائعه، وإن كانت قوية مثل الماء الذي ينحت في الصخر، يجب تتبع مجراه ومحاولة جعله نافعا. التاريخ معرفة وتدبر وكياسة، ليس من أجل لي عنقه، وهو أسوأ ما يقاومه بشتى الوسائل، الأمر الذي يصطلح عليه بمكر التاريخ، والذي ليس سوى إرادة منطق الأشياء أن تعود لحالها. بذلك فالتاريخ لا يجانب الحقيقة، بل ربما هو من أدق الحقائق، انطلاقا من كون هذه الأخيرة ليست ميتافيزيقية، وإنما هي انتصار إرادة الإنسان، شريطة الفهم والمثابرة. فعندما يغادرنا التاريخ لا يجب أن نحزن، فقط يجب بالمثابرة أن نتربص له في أقرب منعطف يعود فيه إلى نفسه وإلى الحقيقة. التاريخ ليس أفعالا فحسب، بل شبكة من الأفعال تشكل بنى يجب الانتباه لها، هي مثل جزيآت الكيمياء التي تتكون من خلايا متفاعلة، نوع الخلايا وشكلها وسلوكها وتفاعلها هو من يحدد البنية التي تختلف وإن كان هناك تشابه. تاريخ البلدان أو الجهات، أو حتى المدن والقرى، هو تاريخ بنى تصنع بتفاعل الناس فيما بينهم، ليس التفاعل الكبير المشكل للأحداث مثل الحروب، وصعود أو نزول الدول، أو نمو اقتصادي أو انكماش، بل وحتى التفاعلات التي تبدو بسيطة مثل التفاعلات الاجتماعية اليومية، منذ الديمغرافيا وشكل الأسرة، صعودا نحو الايديولوجيا الفاعلة مرورا بالثقافة والعادات. في البدء هناك الجغرافيا التي تفرض التفاعل، حتى منذ المسميات واللغة، فيغتني الفكر أو ينكمش بقدر ذلك التفاعل، وما تحويه ألفاظ جهة وسيروراتها لا تحويه ألفاظ جهة أخرى، حتى لتصبح المواضعة، وبناء الاجتماع نفسه، تابعة للتفاعل مع الجغرافيا، والموقع والطبوغرافيا، وأنواع محددات الأشياء. بنية تاريخ المغارب يراد لها دوما أن تعتبر من خارجها، إما شرقا وإما شمالا، كمجال منفعل وليس كمجال حي فاعل، وهو أمر ايديولوجي لا يخضع للوقائع التي تنبئ أن هذا المجال الذي يشبه جزيرة، حيث المحيط الأطلسي غربا، والبحر الأبيض شمالا، ومصر شرقا، والصحراء جنوبا، هذا المجال ليس منفعلا دوما، فهناك فترات انفعال كما أن هناك فترات فعل، هناك هجمات الشرق العربية ثم التركية، وهناك هجمات الرومان شمالا، أما الصحراء فليست طريقا للذهب والتجارة فحسب، بل قبائل ترتق المجال بارتباط بالمدن والقرى والواحات والعواصم. هذا المجال وإن بدا شبه موحد، فهو يحمل ومنذ القدم شخصيات سياسية تكاد تشبه الدولة الأمة، برقة وتونس وتلمسان وفاس، ويتحدد الأمر بمدى قوة الأسر الحاكمة، والتي يبدو أن التي تنطلق من المغرب أقوى، نظرا لعوامل منها الجغرافيا، ومنها التاريخ، بذلك فممالك المغرب الأوسط لم تبسط نفوذها على المغرب الكبير كله عكس المرابطين والموحدين، وحتى السعديين والعلويين الذين انتبهوا إلى أهمية الصحراء مع صعوبة التوجه نحو الشمال، علاقة القبائل الصحراوية بالسلطة المغربية قديمة وحتى طبيعية، خاصة لما امتد العثمانيون حتى حدود ملوية. سقت هذه المقدمة الطويلة لأتحدث عن قضية الصحراء المغربية، السياق أو السياقات، ما قبل الاستعمار، و الاستعمار، والحرب الباردة، ثم تململ وحدة القطب. لم تستطع الخلافة العثمانية أن تصل إلى المغرب، بل وحتى سلطة الباي التركية كانت تمتد بين إيالتين فقط، قسنطينة ووهران، ولم تصل قط إلى الواحات و الصحراء، الأمر الذي يجب أن يعتبر في أي تحليل استراتيجي للمنطقة، انتصار المغاربة على الأتراك في معركة وادي اللبن سنة 1558 ثم الفوز الساحق للسعديين على البرتغال سنة 1578 أعطى ليس للمغرب فحسب، بل وللمنطقة كلها شخصية كيانين، أحدهما تحت حكم الأتراك، والآخر كامل الاستقلال، بل وتحتاط القوى الأوروبية في التعامل معه، أما القبائل فكان الذي يجمع بينها وبين العواصم هو البيعة والدعاء في المنابر، وهو المعيار الدبلوماسي الذي كان يقاس به الانتماء آنذاك، وجل القبائل الصحراوية، سواء التي الآن في الصحراء المغربية أو موريتانيا أو الجزائر كانت تعقد بيعتها على السلاطين المغاربة انتماء وحماية. ثم حل الاستعمار، فشتت اللحمة التقليدية والرمزية والقانونية والعرفية، ليس فقط بين الأقطار، بل و بين الشعوب وعواصمها. لا يمكن فهم ما وقع سوى إذا اعتبرنا الأمر زلزالا حقيقيا مس كل شيء من أجل غاية واحدة هي التبعية ومحو الكيانات التقليدية، ومقوماتها الفكرية والرمزية. الاستعمار فعل كلي شامل تدخل بعنف في كل المستويات، وخاصة السيادية منها، مرورا بالحدود، التي لم تكن موجودة في الأصل، حيث الأوفاق والأعراف القبلية كانت تنظم المراعي وفق الغلبة والحماية. بمسطرة وقلم رصاص وضع الاستعمار حدودا مجحفة، فوسع من الجزائر التي كانت تعتبر إقليما لا يمكن أن يستقل ذات يوم، واقتطع من ليبيا وتونس، ومن المغرب ومالي ليخلق كيانا لم يكن موجودا ذات يوم، وقلص المغرب تقليصا مجحفا حتى تنزع منه صفة الأمبراطورية التي يمكن أن تنبعث من رماد. هذا هو الحال المصطنع الذي ورثه المغرب الكبير بعيد الاستعمار. ثم حلت الحرب الباردة واصطف الماركسويون والقومجيون مع العبثيين ليصنعوا غولا مقيتا ساهم في ولادته تخلف نظام الحكم في المغرب، وسوء تقدير أحزابه، تخلف وإن كان ينظر إلى القضية بعين الالتزام، لم ينتبه لنداء شباب يريد فحسب أن يصفى الاستعمار في مسقط رأسه كما صفي في وسط البلد وشماله وشرقه، شباب اصطاده تيار جارف خرج من القمقم يرفع شعارات رنانة كأقوال حق أريد بها باطل، وبمنهجية انقلابية يمكن أن تأتي على الأخضر و اليابس، ولحسن الحظ وحتى بأحداث جد معقدة تكاد تكون سحرية خرج المغرب من أن يكون كبش فداء وقرابين لآلهة الحزب الوحيد والفاشية، ساهمت في ذلك الخبرة الكبيرة للمخزن، في تدبير أنواع الاضطراب، سواء من الداخل أو الخارج، لكن ولسوء الحظ بعقلية تعتمد تزكية الفساد. كانت المرحلة عصيبة وفرضت حربا طاحنة على المغرب، وأحيانا بأسلحة جد متقدمة في ذلك الزمن، معارك انتصرت فيها الروح القتالية التليدة للمغاربة. لم يستكن المغرب وأبدى فاعلية سياسية وعسكرية وديبلوماسية كبرى، تارة يصيب وتارة يخفق، يقبل الاستفتاء الذي يسميه تأكيديا، ويدخل السجن من رفضه، ثم يخرج من الاتحاد الافريقي الذي كان يسمى منظمة الوحدة الأفريقية آنذاك، ثم يعود… إلى غير ذلك من النجاحات والاخفاقات، لكنه لم يستسلم أبدا. ثم هل لو شارك النظام المغربي التنظيمات الممثلة للشعب من قبائل وأحزاب ومعارضة، وحتى الجذرية منها، كان سيربح القضية بأقل من التكاليف؟ وماذا عن مسألة الاحتكار؟ في النظرية السياسة هناك تياران متعارضان فيما يخص الأمر، تيار يجيز الاحتكار بدعوى التأخر التاريخي ونقص الوعي، ويبرر الاستفراد بالقرار بخطورة الاستشارات، خاصة وأن الأمر أصبح حربا يجب أن يقودها الحاكم وحده، كما هو الأمر حتى في أقوى الديمقراطيات…وهناك رأي آخر لا يجد أي مبرر لاحتقار الشعب، ونزعه حقه في الديمقراطية، والحكم المستبد مهما كان مستنيرا لا يمكنه لوحده أن يحتكر أي قضية، وخاصة بمثل هذه الأهمية والحجم، بل وأن غياب الديمقراطية وتفشي الفساد يمكن أن يعرقل الوصول إلى الغاية المنشودة. في الرأيين أمور يجب أن ينتبه لها، الديمقراطية لا تأتي إلا بالديمقراطية، لكنها ليست هبة تأتي من الذين يستفيدون من غيابها وتغييبها، ومن ثمة على الشعب أن ينتزعها كما تنتزع كل الحقوق، وقد أصبح من المسلم به الآن أن المنهجية يجب أن تكون سلمية. عدم الاستشارة والفساد معضلتان تكرسان عدم الفهم العميق للقضايا السياسية وينزع عنها بعدها الاجتماعي والانثروبولوجي، ليصبح الأمر إما عنفا أو محاولة وخطأ من إرضاء البعض واستعمال البعض الآخر، إلى غير ذلك من سياسات فرق تسد والجزرة والعصا. كلمة أخيرة بمنطق التاريخ وحقيقته اعترف المنتظم الدولي بمغربية الصحراء، عبر مقترح الحكم الذاتي الذي يشبه المسيرة الخضراء، ابداعان حداثيان اقترحتهما إدارة جد مركزية ومتمركزة، وهما ابداعان لم تعرف أي دولة مشابهة مثيلا لها، ليست هناك دولة عربية تفكر في أن تهب جزءا منها حكما ذاتيا… نتمنى أن يكون تطبيق الحكم الذاتي فرصة للخروج من عنق الزجاجة نحو براديجم جديد، يحكم المحلي فيه نفسه، وفق حقائقه؛ وشخصيته؛ وذكائه في التدبير، بعيدا خاصة عن تزييف إرادات الناس بانتخابات دوما مشبوهة… ملحوظة: لم أتطرق عمدا لمرحلة تململ القطبية نحو التعدد، والاستراتيجية الهجومية الأمريكية التي أحسنت الديبلوماسية المغربية التعامل معها، والتي لم يستطع حكام الجارة الشقيقة استيعابها، لم أقم بذلك لأهمية هذه اللحظة الجيوستراتيجية التي تستحق لوحدها كلاما آخر.