في لحظة كاشفة لا تخلو من دلالة سياسية، صادق مجلس المستشارين بالمغرب على مشروع قانون تنظيم مجلس الصحافة بتصويت هزيل ومحرج: ستة أعضاء فقط صوّتوا مع المشروع، وخمسة ضده، فيما غاب تسعة عن الجلسة. ليست الأرقام هنا مجرد معطى تقني، بل هي في حد ذاتها خطاب سياسي كامل، يكشف حجم الارتباك، وضعف القناعة، وانعدام الإجماع، حتى داخل المؤسسات نفسها، حول مشروع قانون يمس جوهر السلطة الرابعة. نحن أمام نص قانوني يمرّ بأغلبية شكلية، لكنه يفتقد الشرعية المعنوية، لأنه يواجه رفضًا واسعًا داخل الجسم الصحافي، الذي يرى فيه تكريسًا لتبعية الصحافة لباقي السلط، وتجريدًا لها من حقها الطبيعي في التنظيم الذاتي والاستقلال. هذا القانون لا يأتي في فراغ، بل في سياق سياسي وإعلامي شديد الحساسية، عنوانه العريض هو تآكل الثقة؛ تآكل ثقة الصحافيين في الدولة، وتآكل ثقة المواطنين في الإعلام، وتآكل ثقة الدولة نفسها في الأدوات التي صنعتها ومولتها لعقود. وهنا بالضبط تظهر المفارقة الفجّة، التي تكاد تكون فضيحة سياسية وأخلاقية مكتملة الأركان. قبل شهرين فقط، وفي خضم احتجاجات جيل زد، وجد وزير الشباب، وهو نفسه الوزير الوصي على قطاع الصحافة، نفسه في مواجهة شارع غاضب، وأسئلة محرجة، ووعي جديد لا يمر عبر القنوات التقليدية. وعندما حانت لحظة التواصل، لم يتجه الوزير إلى أي من وسائل الإعلام العمومية أو الخاصة، الورقية أو الرقمية، ولا إلى القنوات التي تتلقى دعمًا سخيًا من أموال دافعي الضرائب، بل اختار أن يظهر في بودكاست مستقل اسمه "بصيغة أخرى"، يشرف عليه ثلاثة شباب لا يتوفرون على دعم عمومي، ولا مقر قار، ويكتفون بكراء استوديو لتسجيل الحوارات. هذا الاختيار ليس بريئًا، ولا يمكن تفسيره بالمصادفة أو بالبساطة. نحن أمام اعتراف ضمني، وإقرار فاضح، بأن كل تلك المنظومة الإعلامية التي تضخ فيها الدولة أكثر من 25 مليار سنتيم سنويًا من المال العام، عاجزة عن لعب دورها الحقيقي عندما تدق ساعة الحقيقة. عاجزة عن أن تكون وسيطًا مقنعًا بين السلطة والشارع. عاجزة عن إنتاج ثقة، أو مصداقية، أو حتى فضاء حوار مقبول. لماذا اختار الوزير "بصيغة أخرى"؟ الجواب واضح ومؤلم في آن واحد: لأن هذا البودكاست، رغم هشاشته المادية، راكم رأسمالًا رمزيًا حقيقيًا. لأنه استضاف أصواتًا محترمة ومزعجة في الوقت نفسه. لأن من مرّوا عبره ليسوا مجرد موظفي رأي، بل صحافيون ومفكرون دفع بعضهم ثمنًا باهظًا لمواقفهم، من بينهم بوبكر الجامعي، وسليمان الريسوني، وعمر الراضي، وكاتب هذه السطور، وغيرهم. باختصار، لأنه فضاء لم يتم تدجينه، ولم يدخل بيت الطاعة. هنا تنفجر المفارقة: الدولة تموّل إعلامًا لا تثق فيه، وتلجأ عند الأزمات إلى إعلام لا تموّله. تصرف المليارات على واجهات إعلامية فقدت معناها، ثم تلوذ بمنصات صغيرة العتاد، كبيرة المعنى، عندما تحتاج إلى مخاطبة الشارع بحد أدنى من المصداقية. أي عبث هذا؟ وأي اعتراف أقسى من هذا على فشل سياسة عمومية كاملة في مجال الإعلام؟ الأدهى من ذلك أن الوزير نفسه، الذي اختار هذا الفضاء المستقل للتواصل، هو من يدفع اليوم في اتجاه قانون يقوّض استقلالية الصحافة، ويضع مجلسها تحت وصاية مباشرة أو غير مباشرة للسلطة. وكأن الرسالة هي التالية: نحتاجكم عندما نكون في مأزق، لكننا لا نثق بكم بما يكفي لنترككم مستقلين. نريد صحافة مطواعة، لكننا نلجأ إلى الصحافة الحرة عندما تضيق بنا السبل. هذه الازدواجية المنحطّة ليست مجرد تناقض سياسي، بل هي منطق حكم؛ منطق يقوم على تدبير الصورة ولا تهمه بناء المؤسسات، منطق انتهازي قائم على البحث عن منصات "نظيفة" مؤقتًا، لا على إصلاح منظومة مختلّة جذريًا، وعلى استعمال الاستثناء لتبرير القاعدة. الأكثر إثارة للقلق أن هذه المفارقة مرّت في صمت شبه تام، إذ لم تُثر نقاشًا حقيقيًا داخل الجسم الصحافي، ولا تحولت إلى قضية سياسية لدى الأحزاب المعارضة، ولا أشعلت جدلًا واسعًا في الشارع، وكأن الجميع اعتاد هذا النوع من الانفصام، أو استسلم لفكرة أن التناقض صار قاعدة، وأن الفضيحة لم تعد تثير الغضب. لكن الحقيقة البسيطة والعارية هي هذه: عندما دقّت ساعة الحقيقة، لم تنفعكم كل وسائل الإعلام التي أغدقتم عليها 25 مليار سنتيم سنويًا. لم تحمِكم، لم تمثّلكم، ولم تُقنع الشارع بكم. ومن احتجتم إليه في تلك اللحظة هو ما تحاولون اليوم خنقه بقانون، وضبطه بمجلس، وتدجينه باسم التنظيم. لهذا، فالمسألة لا تتعلق فقط بقانون أو بودكاست، بل بسؤال أعمق: أي إعلام نريد؟ إعلامًا حيًا، مستقلًا، قادرًا على الوساطة والنقد وبناء الثقة؟ أم إعلامًا مدجّنًا مطواعًا، بلا روح ولا تأثير، نلتف عليه عند أول اختبار جدي؟ الوزير الملقب ب"حامل الحقيبة"، في هذه القصة، لم يفضح فقط فشل منظومة إعلامية، بل فضح، من حيث لا يدري، منطق الوصاية نفسه. وبدل أن يكون هذا الاعتراف مدخلًا لمراجعة شجاعة، اختير الطريق الأسهل: تمرير قانون مرفوض، بأغلبية واهنة، في صمت ثقيل. لكن التاريخ علّمنا أن القوانين التي تولد بلا شرعية تعيش دائمًا تحت طائلة السؤال، وأن الإعلام الذي يولد من رحم الحرية لا يمكن إعادته بسهولة إلى القفص.