ابن الحسيمة نوفل أحيدار يناقش أطروحته حول تثمين النباتات العطرية والطبية بالريف    الناظور .. افتتاح فعاليات الدورة 14 للمهرجان الدولي لسنيما الذاكرة    أمين نقطى: زيارة أخنوش لمديونة سنة 2021 آتت أكلها بتنفيذ عدة مشاريع لفائدة الساكنة    كوب 30: تسليط الضوء على جهود المغرب في تعزيز السياحة المسؤولة والمستدامة    ألعاب التضامن الإسلامي (الرياض 2025): البطلة المغربية أمينة الدحاوي تتوج بذهبية التايكواندو لفئة أقل من 57 كلغ    المنتخب المغربي الرديف يتفوق وديا على منتخب جيبوتي ب( 6-0)    حجز كميات قياسية من الكوكايين والشيرا بوجدة وتوقيف أربعة متورطين    أحكام ثقيلة في الحسيمة ضد متهمين بالاتجار في المخدرات القوية والاعتداء على موظفين عموميين    الرميلي: الدولة الاجتماعية تتحقق على الأرض ونجاحات الجماعات الترابية بالبيضاء دليل على أن التنمية المجالية ممكنة    العلمي يهاجم "العقول المتحجرة" .. ويرفض توزيع صكوك الغفران السياسية    سيدات الجيش في نصف نهائي الأبطال    عمر هلال: الدبلوماسية المغربية تقوم على الفعل الملموس بقيادة جلالة الملك    البرازيل تزيد تصدير اللحوم للمغرب    المحروقات للربع الثاني من 2025 .. الأسعار تتقلب وهوامش الربح تستقر    تطبيقا للقرار 2797.. واشنطن تدفع البوليساريو نحو مفاوضات على أساس الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية    منعطف جديد في ملف أدم بنشقرون.. متابعة الأم بجنايات ثقيلة وإحالة الابن على المحكمة الابتدائية    المعتقل نبيل أحمجيق «بلبل حراك الريف» ينجح في مباراة ولوج سلك الدكتوراه    فيروس "ماربورغ" يقتل في إثيوبيا    في ظرف ثلاثة أشهر .. أنترنت الجيل الخامس (5G) يغطي 60 مدينة بالمغرب    نشرة إنذارية.. زخات مطرية محليا قوية مرتقبة اليوم السبت وغدا الأحد بعدد من مناطق المملكة    بعد افتتاحه.. صحيفة AS الإسبانية تشيد بملعب طنجة وتبرز أبرز ميزاته    "كاف" تثمن افتتاح ملعب طنجة الكبير    هجوم إلكتروني بالصومال.. بيانات آلاف الأمريكيين بقبضة مجهولة    المغرب... دولة الفعل لا الخطاب    رياض السلطان يقدم مسرحية الهامش وموسيقى لؤلؤة البحيرات العاجية ولقاء فكري حول ذاكرة المثقف    غزة: عشرات الخيام تغرق في مواصي خان يونس جراء الأمطار الغزيرة    نزاع حول أرض زراعية يخلف قتلى بالعراق    عامل العرائش و السلة الفارغة: كيف أنهى الأسطورة و تحققت نبوءة الانهيار!    وليد الركراكي: علينا المحافظة على الثقة في هذه المجموعة ونحن نعرف كيفية تحقيق الفوز    ليكيب: المغرب يحطم رقمه العالمي في عدد الانتصارات المتتالية بفوزه على الموزمبيق    ترامب: آمل بانضمام السعودية إلى "اتفاقات أبراهام" قريبا... وبن سلمان يزور واشنطن الأسبوع المقبل    ارتفاع سعر صرف الدرهم ب 0,2 في المائة مقابل الدولار الأمريكي ما بين 6 و12 نونبر 2025    استفادة الجيش الصيني من "علي بابا" تثير الجدل    الملك يجدد الدعم لحقوق الفلسطينيين    أمطار رعدية قوية... نشرة إنذارية تشمل طنجة وتطوان وعدة مناطق شمالية    لحمداني ينال "جائزة العويس الثقافية"    وزارة الثقافة تعلن الإطلاق الرسمي لمشروع تسجيل "فن زليج فاس وتطوان" على قائمة يونسكو للتراث الثقافي غير المادي للإنسانية    تطور جديد في ملف "إنتي باغية واحد".. متابعة دي جي فان بتهمة تهديد سعد لمجرد    قمة متناقضة بين "الماط" المتصدر ورجاء بني ملال الأخير    نواب "العدالة والتنمية" يطالبون بلجنة تقصّي حقائق في صفقات الدواء وسط اتهامات بتضارب المصالح بين الوزراء    محام: المحجوزات تتراكم في المحاكم    ترامب يلمح لقرار بشأن فنزويلا والجيش الأمريكي يبدأ عملية ضد تجار المخدرات في أمريكا اللاتينية    إطلاق الموسم الفلاحي الجديد مع برنامج بقيمة 12.8 مليار درهم وتوزيع 1.5 مليون قنطار من البذور المختارة    "ترانسافيا" تطلق أربع رحلات أسبوعياً بين رين وبريست ومراكش على مدار السنة    طقس ممطر في توقعات اليوم السبت بالمغرب    الجديدة تحتضن المؤتمر العام الإقليمي للاتحاد العام للمقاولات والمهن بحضور شخصيات وازنة    هل تستطيع الجزائر تفكيك سردية العداء لبناء وطنها المُتخيَّل؟ .    منظمة الصحة العالمية تعترف بالمغرب بلدًا متحكمًا في التهاب الكبد الفيروسي "ب"    أبوظبي.. ثلاثة أعمال أدبية مغربية ضمن القوائم القصيرة لجائزة "سرد الذهب 2025"    وزارة الصحة تطلق حملة وطنية للكشف والتحسيس بداء السكري    دراسة: ضعف الذكاء يحد من القدرة على تمييز الكلام وسط الضوضاء    المسلم والإسلامي..    دراسة: لا صلة بين تناول الباراسيتامول خلال الحمل وإصابة الطفل بالتوحد    مرض السل تسبب بوفاة أزيد من مليون شخص العام الماضي وفقا لمنظمة الصحة العالمية    وفاة زغلول النجار الباحث المصري في الإعجاز العلمي بالقرآن عن عمر 92 عاما    بينهم مغاربة.. منصة "نسك" تخدم 40 مليون مستخدم ومبادرة "طريق مكة" تسهّل رحلة أكثر من 300 ألف من الحجاج    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    حِينَ تُخْتَبَرُ الْفِكْرَةُ فِي مِحْرَابِ السُّلْطَةِ    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"مدينة الزّهرَاء".. معلمة أندلسيّة رَاسِخة فى الذّاكرة
نشر في لكم يوم 08 - 10 - 2017


محمّد محمّد الخطّابي* 08 أكتوبر, 2017 - 09:57:00
إنيِّ ذكرتكِ بالزّهراء مُشتاقَا‏ / والأفقُ طلقٌ وَوَجهُ الأرض قد راقَا‏
وللنّسيم اعتلالٌ في أصائله‏ / كأنّه رقّ لي فاعتلّ إشفاقَا‏
والرّوضُ عن مائِه الفضيِّ مبتسمٌ‏ / كما شقَقت عن اللبّات أطواقَا
نلهو بما يستميلُ العينَ من زَهرٍ / جال النّدىَ فيه حتى مال أعناقَا
كأنّ أعينَه إذ عاينتْ أرَقيِ‏ / بكتْ لما بيِ فجالَ الدّمعُ رقرَاقَا.‏
هكذا كان يتذكّر، ويخاطب متحسّراً الشّاعر المتيّم ابن زيدون خليلته الشّاعرة الرقيقة ولاّدة بنت المُستكفي فيما مضىَ من الأيام، عندما كانت قرطبة عاصمة لدار الخلافة ، وكانت مدينة الزّهراء الحاضرة المعمارية الجميلة الفريدة فى بابها التي أنشأها ثامن خلفاء الدَّولة الأمويَّة في الأندلس، عبد الرَّحمن بن محمَّد بن عبد الله المُلقَّب بالنَّاصر (912–961)، تقع هذه المدينة المَعلمة شمال غرب مدينة قرطبة وجعلها الخليفة مقرَّاً، ومستقرّاً جديداً لخلافته لينأىَ عن دأب، ولجَب، وصَخَب، وضجيج مدينة قرطبة الكبرى، وانتقل الخليفة النَّاصربالفعل إليها، وأصبحت مدينة الزَّهراء مركزاً للخلافة، وظلت على تلك الحال لمدّة أربعين سنة، وهي مدَّة حُكم عبد الرَّحمن النَّاصرونجله الحكَم المستنصر، وعندما تولَّى الحاجب المنصور بن أبي عامر الحُكمَ في الأندلس شيّد مدينته الأخرى التي أطلق عليها الزَّاهرة ، ونقل مركز الخلافة إليها كذلك، وفى القرن العاشر الميلادي تعرَّضت "الزَّهراء " إلى عمليات السَّلب، والنهب،والتلف،والحرق والدَّمار، وسرعان ما أصبحت رُكاماً دارساً مهجوراً،بعد إشعاع، وإزدهار،ونعيم، وغطتها الأتربة، والحِجارة ، والأشجار، والحشائش، إلى أن أُعيد اكتشاف بقاياها، وآثارها حديثاً، وتقع أطلال الزّهراء في عصرنا الحاليّ في الناحية الغربيّة من قرطبة، وهي تُعرف اليوم بقرطبة القديمة.
أطلق الخليفة عبد الرَّحمن النَّاصر على القصر الفخم الذي بناه في مدينة الزَّهراء إسمَ "الزَّهراء "، وكان هذا المبنى المعماري مِثالاً فريداً في الرَّوعة، والرّونق، والبهاء،حيث كانت جدران هذا القصر مغطّاة بالرُّخام المَوضُون المُطعّم بالذَّهب، وتحيط به التَّماثيل ، والتُّحف النَّفيسة، والصُّورالغريبة، وكان يتوسّط القصر صهريج كبير من الزِّئبق ، يذكّرنا بصهريج زئبق الملكة بلقيس بسبأ بأقاصي اليمن،وكانت تحيط بالقصر حدائق غنّاء تنتشر فى جنباته العديد من المُجسّمات المصنوعة من العنبر، واللُّؤلؤ، وصور الطُّيور، والحيوانات المُطعّمة بالذَّهب الأحمر، والمُرصَّعة بالجواهر، والدّانات، والعقيان، وكانت هذه التَّماثيل تفور، وتقذف بشلاّلات من المياه البلورية إلى الحوض من فوهاتها، وميازيبها بألوان زاهية مختلفة، وكانت أبواب المدينة مصنوعة من العاج والأبنوس، ولقد تم توسيع مباني المدينة في عهد الحكَم الثاني ابن عبد الرحمن الثالث (961-976)، وفى عام 1010 نهبت الزّهراء على إثر حرب أهلية إجتاحتها، وطفق الخبراء فى التنقيب عن أطلالها وبقاياها عام 1910. وصف "الادريسي" مدينة الزّهراء بعد زيارته لها بالقول: "مدينة عظيمة مدرجة البنية، مدينة فوق مدينة، فكان الجزء الأعلى منها قصوراً يقصر الوصف عن صفاتها، والجزء الأوسط بساتين، وروضات، والجزء الثالث فيه الديار والجامع". عندما إحتلّ القشتاليون قرطبة كانت ذكرى الزّهراء قد ضاعت، وتلاشت، وطُمِس إسمُها، وبقيت كذلك حتى تُرْجِم كتابُ نفح الطّيب للمقرّي الى اللغة الانجليزية قبل حوالي قرن ونصف ، فعرف الباحثون إسمَها وموقعَها وأوصَافَها.
مدينة الزّهراء تراث للإنسانية
قدّمت عمدة مدينة قرطبة إيسابيل أمبروسيو رفقة المستشار الثقافي للمجلس البلدي للمدينة ميغيل أنخيل باسكيث يوم 11 من الشهر الجاري سبتمبر ( أيلول) 2017 الصورة الدّعائية والإعلامية التي ستتقدم بها قرطبة لدى اليونسكو العالمية لطلب ترشيح إعتماد هذه المعلمة التي تتميّز بجمالية معمارية فريدة من نوعها من بين المآثر، والمعالم، والقصور التي خلفها المسلمون فى الأندلس لتصبح تراثاً إنسانياً معترَفاً به لدى المنظمة العالمية لليونسكو، ويؤكد الخبراء والمؤرّخون والكتّاب فى طليعتهم الرّوائي والشّاعر الإسباني الذائع الصّيت "أنطونيو غالا" أنّ هذه المعلمة المعمارية التاريخة لم يعد لها وجود حقيقي اليوم كما كانت عليه فى الواقع أيّام أوْجِها، وعزِّها وتألقِها سوى فى مخيّلتنا وذاكرتنا.
وتهكّم أنطونيو غالا فى إحدى محاضراته عن الأندلس (وهو القرطبيّ روحاً ونشأةً منذ التاسعة من عمره) مخاطباً الخبراءَ الإسبان عندما همّوا بترميم مدينة الزّهراء ساخراً : " كيف يمكنكم أن ترمّموا معلمة لم يكن لها نظير فى مختلف بقاع وأصقاع الأندلس..؟ كيف يمكنكم أن ترفعوا من جديد تلك الثماثيل والمُجسّمات الغاية فى الدقّة والإتقان والرّوعة؟ كيف يمكنكم أن تعيدوا بناءَ تلك النافوارات العديدة المرصُوصة التي كانت منتشرة فى هذه المدينة السّاحرة ..؟ كيف ستجعلون المياه البلّورية الصّافية الزلاليّة التي كانت تتدفّق من فوهاتها بألوانٍ مختلفة كما كانت فيما مضى؟.
وأشار المستشار الثقافي لبلدية قرطبة أن المجلس بصدد خلق لجنة تتألف من الخبراء ، والمؤرخين، والنقابيين ، ومن العديد من الجمعويين بالمدينة الذين لديهم الرّغبة فى الإسهام لدعم هذا الترشيح لفائدة مدينتهم ،ومن المُنتظر ان تقوم لجنة خاصّة من اليونسكو بزيارة ميدانية للزّهراء أواخر الشهر الجاري بخصوص هذا الموضوع ،كما أنه من المنتظر أن تعلن هذه المنظمة العالمية عن نتائج قرارها بعد حوالي عشر شهور، ولقد إنطلقت الحملات التعريفية بهذا الترشيح ،وعمّا قريب سيتمّ إطلاق الإنارة الليلية لهذا الموقع الأركيولوجي الفريد الذي يحتلّ مكاناً بارزاً فى تاريخ الأندلس،والأدب الأندلسي، والذاكرة المشتركة بين العرب والإسبان عن هذه الحضارة الزاهرة التي تألقت وازدهرت بشبه الجزيرة الإيبيرية على إمتداد ما ينيف على ثماني قرون. ويشير المستشار الثقافي الإسباني أنّ تدشين الإضاءة الليلية بمدينة الزهراء من شأنه أن يعطي لهذه الحملة زخماً وتعريفاً واسعيْن لما تتطلّع إليه مدينة قرطبة فى هذا الصّدد لتحقيق هذه الغاية النبيلة.
مدينة العِطر والسِّحر
وبموازاة مع هذا المسعىَ، فأنّ الدّراسات، فى إسبانيا وفى العالم الناطق باللغة الإسبانية قد تعدّدت فى المدّة الأخيرة،كما صدرت غير قليل من الكتب عن قرطبة الغرّاء...وعن تاريخها الحافل بالأمجاد الذي بوّأها فى زمنٍ مّا من الأزمان الغابرة، أيّامَ عزّها وأوجها مكانةً مرموقةً كإحدى الحواضر الكبرى التي عرفت رقيّاً متميّزاً، وإزدهاراً هائلاً، وتقدّماً حضارياً فريداً فى مختلف مناحي العِلم ،والعِرفان، والبناء، والعُمران، تُرىَ ما سرّ هذا الإهتمام المتزايد لدى الإسبان وغير الإسبان بالإرث العربي فى شبه الجزيرة الإيبيرية، بما فيها هذه المدينة السّاحرة ، وملحقاتها وفى طليعتها مدينة الزهراء (التي لا تبعد عنها سوى بثماني كيلومترات) ...؟ ما هذه الردّة المفاجئة، والتكفيرعن زمنٍ كئيب كان الإسبان والبرتغاليون ينكرون فيه ويتنكّرون لتاريخهم حيث أشعّت ، وظهرت، وإزدهرت، وتألّقت، وسادت على أرضهم حضارة أندلسية عظمى أنارت دياجيَ الظلام فى أوربّا دهرئذٍ ، إنه الإكتشاف الذي أصبح اليوم يأخذ فى إسبانيا والبرتغال بمجامع قلوب الفئات المثقفة، والأوساط الواعية،وصفوة الدارسين، والمهتمين بالتاريخ الإسلامي فى هذه الجزيرة المحروسة التي لا نتورّع من أن نطلق عليها اليوم متحسّرين إسمَ "الفردوس المفقود "...!
قرطبة..مدينة العِطر، والسِّحر، والجمال، والظلال، والألوان، والأحلام، والجِنان الباسقة، والشّوارع الفسيحة، والأزقّة الضّيقة الناصعة البياض،والدروب الملتوية ذات الأرصفة الأرضّية المتراصّة،والشّرفات المشربّية العالية، أشهر الحواضر، وأكبر المعاقل العربية في شبه الجزيرة الإيبرية على إمتداد العصوروالدهور.
جاء فى كتاب "نفح الطّيب من غصن الأندلس الرّطيب" للمقرّي: "ومن أشهر مدن الأندلس مدينة قرطبة وبها الجامع المشهور، والقنطرة المعروفة بالجسرالأكبر،القائم على النهر الأعظم الذي لا يُعرف في الدنيا مثله "، وقال عبد الله الحجاري في "المُسهب":" كانت قرطبة في الدولة المروانية قبة الإسلام ومجتمع أعلام الأنام بها إستقرّ سرير الخلافة المروانية وفيها إستقرّت خلاصة القبائل المعدية واليمانية، كانت مركز الكرماء، ومعدن العلماء وهي من الأندلس بمنزلة الرّأس من الجسد، ونهرها من أحسن الأنهار مكتنف بديباج المُروج، مطرّز بالأزهار، تصدح في جنباته الأطيار وتنعر النواعير، ويبسم النوار، وبها الزاهرة، والزهراء حاضرتا المُلك، وأفقا النعماء والسراء وإن كان قد جنى عليها الزمان وغيّر بهجة أوجهها الحسان فتلك عادته وسل الخورنق، والسدير، وغمدان وقد أعذر بإنذاره إذ لم يزل ينادي بصروفه لا أمان لا أمان" .
وعنها يقول بعض علماء الأندلس مفتخراً بالمكانة المرموقة، ومتباهياً بالمنزلة السّامقة اللتين أدركتهما مدينته، ومشيداً بفضلها على باقي الحواضر والأمصار والمدن ، والضِّيَع الأندلسية الأخرى أيام عزّها، وسؤددها، وإشعاعها ،قال :
بأربعٍ فاقتِ الأمصارَ قرطبةٌ / منهنّ قنطرةُ الوادي وَجَامعُها
هَاتَانِ ثِنْتَان والزّهراءُ ثالثةٌ / والعِلمُ أعظمُ شيءٍ وهو رابعُها
وقال عنها شاعر أندلسي آخر:
أقرطبة الغرّاء هل فيك مَطمعُ / وهل كبد حرّى لبينك تنقعُ ؟
ويا حبّذا الزّهراء، بهجة منظر / ورقّة أنفاس وصحّة جوهر
زَهْرَة الأندلس الفيحاء
كانت هذه المدينة تحفل بالمكتبات، وأروقة العلم، وبيوت الحكمة، كانت تزيّن خزانة " الحَكم المُستنصر" بها (861-976 م) أزيد من أربعمائة ألف مخطوط. ويُحكىَ عن مدى إهتمام وعناية وشغف القرطبيين بالكتب، أنّه إذا أفلس موسيقيّ فى قرطبة باع أدواته الموسيقية فى غرناطة ، وإذا أفلس عالم فى غرناطة باع كتبَه ومخطوطاته فى قرطبة..! شوارعها، أزقتها الصّامتة، المتراصّة، المرصوفة بالحجارة الملساء تنبض بالحركة والحياة، كلّ ركن من أركانها يعانق التاريخ. صمتها يشيع السّكينة والطمأنينة في النفوس، ويبعث على الأملَ والتأملَ وإعمال النظر، نافوراتها التي تقذف المياه العذبة البلّورية الصّافية التي تتفجّر من الينابيع العتيقة، تنشر السعادة والحبور والرّذاذ المنعش في كلّ مكان، هذه المدينة السّاحرة عنها يقول شاعرُها القرطبي الكبير " لْوِيسْ دِي غُونْغُورَا" ( 1561 و 1627): آهٍ أيها الجدار الشّامخ / آهٍ أيتها الأبراج المتوّجة / بالشّرف والجلال والشّهامة / أيّها الوادي الكبير / إرث الأندلس العظيم / ذو الرّمال النبيلة / التي لم تعد ذهبيّة ..! / أيّها السّهل الخِصب / أيتها الجبالُ الشّاهقة / التي جلّلتها السّماء / وأكسبها المساءُ لونَ الذّهب / آهٍ يا بلدي المجيد / بالأقلام والسّيوف / بين تلك المعالم والمآثر / التي يزيّنها نهر شَنِيلْ ** / ويغسلها نهر الدَّارّو / ذاكرتك ليست غذائي / وعينايَ الغائرتان ليستا جديرتين / برؤية جمالكِ، وجداركِ، و أبراجكِ / وأنهاركِ، وسهولكِ، وجبالك / آهٍ يا بلدتي يا زهرةَ الأندلس..***
الشاعر " لْوِيسْ دِي غُونْغُورَا " القرطبي المولد والمنشأ عندما يتحدّث عن الجدران الشّامخة، والأبراج السامقة بهذه المدينة ، لابدّ أنه رآها بأمّ عينيْه فيها، إلّا أنه لم يعد لها وجود ، ومن شأن ذلك أن يضاعف من فداحة الموقف عنده، ويزيد فى مقدار شعوره بالألم، والحسرة، والمرارة. وهوعندما يتحدّث عن السّيوف لابدّ أنه كان يرمز ويفكّر في أبطال هذه المدينة ذات الرّوح والجسد الإسلامييْن، وعندما يتحدّث هذا الشاعر المَجيد عن الأقلام، فلابدّ أنه كان يفكر بعلماء هذه المدينة وشعرائها، وفقهائها، وحكمائها، وفلاسفتها، وأطبّائها، وفلكييّها، ومعمارييّها على إختلاف أجناسهم، وتباين أعراقهم، ومللهم، ونحلهم، وأصولهم، من عرب، وأمازيغ بدءاً بالعهد الإسلامي الزّاهر حتى العهد الرّوماني القديم للمدينة أيّ وصولاً - والحالة هذه - إلى فيلسوفها وحكيمها الكبيرالشّهير Lucio Anneo Séneca " سِنِيكَا " المزداد فى قرطبة والمتوفّى بروما .
بيزنطة الغرب
كلّ شيء في هذه المدينة يذكّرنا بعصر الخلافة إبّان مجدها في القرن العاشر حيث كانت قرطبة تعتبر بيزنطة الغرب في ذلك العصر، وحيث أجمع المؤرّخون أنّ اللغة العربية كانت في ذلك الوقت تعتبر بمثابة اللغة الإنجليزية في عصرنا الحاضر، ولا شكّ أنّ عظمة هذه المدينة تأتي من عِلمها، وعُلمائها، وشُعرائها، وفقهائها، وفلاسفتها، وبشكلٍ خاص من عظمة حلبة وباحة الدّرس فيها مسجدها الجامع الأعظم.
يقول "ميشيل بوطور": "إنه من سخف الأقدار أن يعمل الإنسان على إضفاء على هذا المسجد غير طابعه الحقيقي الإسلامي المحض، إنّ ذلك في نظره بمثابة إختراق رمحٍ أو خنجرٍ لقلبِ مؤمنٍ تقيٍّ، ورعٍ، نقيّ، إنّ الإضافات التي ألحقتْ بمسجد قرطبة الأعظم كانت من السّخف حتى أمست أضحوكة في أعين كلّ من زار هذه المعلمة المعمارية التاريخية الخالدة ، فقد أقحم معبد أو كاتدرائية في قلب المسجد التي تبدو وكأنّها غارقة في غابة من الأقواس، والأعمدة ذات الرّونق البديع التي شيّدت بأشكال هندسية عجيبة تحيّر الناظرين،وتذهل الزّائرين وقد أصبح هذه المعبد- الكاتدرائية الدّخيل كَحَجْرة وقد رمي بها وسط غدير جميل فغطتها المياه..! إنهّا تحول دون رؤية جمالية البناء، والإستمتاع بسحر المعمار وروعته وجلاله،ورقّته ودقّته، إنّها تبدو كفقاعةٍ من ملل تفسد هيبةَ، وعبقريةَ وروعةَ المكان "!.
عتاب وندم الإمبراطور..!
إنّ الندم والتأسّف لابد أنّهما قد صاحبا العديد من سكّان المدينة من القرطبيين الأقحاح على إمتداد التاريخ ، كتّاباً، كانوا أو شعراء، أو فقهاء، أو مفكّرين، أو فلاسفة ، أو مواطنين عاديّين ، من جراء محاولات إفساد أجمل معلم حضاري في مدينتهم، بل أجمل المعالم والمآثر العُمرانية ،والمِعمارية التي شيّدتها يد شريفة في التاريخ.
الملك الاسباني الإمبراطور" كارلوس الخامس" (1500-1558) هوالذي كان قد سمح من بعيد، ورخّص ببناء هذا المعبد- الكاتدرائية وسط المسجد الجامع الأعظم، و لكنّه عندما حضر إلى قرطبة وقام بزيارة المسجد لأوّل مرّة ورأى النتيجة، نتيجة الصّراع ، إستشاط غضباً ، وتشنّج حنقاً ،و لم يكن في وسعه إلّا أن يُعلن هزيمةَ الحزب الذي ساند، وأيّد، سجّل له ذلك التاريخ في كلمات مأثورة، ومشهورة، ومؤثّرة فاه بها في هذا المقام عندما قال: " ويحكم ماذا فعلتم.. ؟! والله لو كنت علمتُ بما كنتم تنوون القيامَ به لمَا سمِحتُ لكم بذلك، لأنّ الذي شيّدتم داخل هذا المسجد يُوجد في كل مكان، وأمّا الذي كان موجوداً هنا، فهو فريد،ووحيد لم تقع عيني عليه قطّ ،وهو ليس له نظير في أيّ مكان.!.
كانت المنظّمة العالمية لليونسكو قد أعلنت عام 1984بأنّ هذا المسجد الجامع تراث ثقافي عالمي للإنسانية جمعاء، والحالة هذه، أليس حريّاً بأن يعمل أرباب هذه الحضارة من عرب وأمازيغ على أن يحظى ترشيح " مدينة الزهراء" لتصبح تراثاً عالمياً للإنسانية ، فهذه المَعلمة المِعمارية الفريدة هي أولاً وأخيراً من بناء أجدادنا الميامين مثل سائر المعالم والمآثر الاندلسية الأخرى الخالدة..؟!
---
* عضو الأكاديمية الإسبانية- الأمريكية للآداب والعلوم - بوغوطا- كولومبيا.
** نهر شنيل أو Genil كما يُسمّى باللغة الإسبانية اليوم،يُولد أو ينبع فى سْيِيرَّا نِيفادَا بغرناطة وينتهي عند مصبّ نهر الوادي الكبير بقرطبة .
*** أبيات الشّاعر القرطبي الكبير" لويس دي غُونْغُورَا " من ترجمة صاحب المقال عن اللغة الاسبانية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.