الأقاليم الجنوبية، نموذج مُلهم للتنمية المستدامة في إفريقيا (محلل سياسي سنغالي)    مجلس الشيوخ الفرنسي يحتفل بالذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء المظفرة    الوداد يعود بانتصار ثمين من آسفي    "أونسا" ترد على الإشاعات وتؤكد سلامة زيت الزيتون العائدة من بلجيكا    ست ورشات مسرحية تبهج عشرات التلاميذ بمدارس عمالة المضيق وتصالحهم مع أبو الفنون    الدار البيضاء تحتفي بالإبداع الرقمي الفرنسي في الدورة 31 للمهرجان الدولي لفن الفيديو    نصف نهائي العاب التضامن الإسلامي.. تشكيلة المنتخب الوطني لكرة القدم داخل القاعة أمام السعودية    المنتخب المغربي الرديف ..توجيه الدعوة ل29 لاعبا للدخول في تجمع مغلق استعدادا لنهائيات كأس العرب (قطر 2025)    كرة القدم ..المباراة الودية بين المنتخب المغربي ونظيره الموزمبيقى تجرى بشبابيك مغلقة (اللجنة المنظمة )    بعد فراره… مطالب حقوقية بالتحقيق مع راهب متهم بالاعتداء الجنسي على قاصرين لاجئين بالدار البيضاء    أيت بودلال يعوض أكرد في المنتخب    أسيدون يوارى الثرى بالمقبرة اليهودية.. والعلم الفلسطيني يرافقه إلى القبر    وفاة زغلول النجار الباحث المصري في الإعجاز العلمي بالقرآن عن عمر 92 عاما    توقيف مسؤول بمجلس جهة فاس مكناس للتحقيق في قضية الاتجار الدولي بالمخدرات    تتويج إسباني وبرتغالية في الدوري الأوروبي للناشئين في ركوب الموج بتغازوت    بأعلام فلسطين والكوفيات.. عشرات النشطاء الحقوقيين والمناهضين للتطبيع يشيعون جنازة المناضل سيون أسيدون    بين ليلة وضحاها.. المغرب يوجه لأعدائه الضربة القاضية بلغة السلام    حصيلة ضحايا غزة تبلغ 69176 قتيلا    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الإثنين    مديرة مكتب التكوين المهني تشتكي عرقلة وزارة التشغيل لمشاريع مدن المهن والكفاءات التي أطلقها الملك محمد السادس    عمر هلال: اعتراف ترامب غيّر مسار قضية الصحراء، والمغرب يمد يده لمصالحة صادقة مع الجزائر    الكلمة التحليلية في زمن التوتر والاحتقان    الرئيس السوري أحمد الشرع يبدأ زيارة رسمية غير مسبوقة إلى الولايات المتحدة    أولمبيك الدشيرة يقسو على حسنية أكادير في ديربي سوس    شباب مرتيل يحتفون بالمسيرة الخضراء في نشاط وطني متميز    مقتل ثلاثة أشخاص وجرح آخرين في غارات إسرائيلية على جنوب لبنان    دراسة أمريكية: المعرفة عبر الذكاء الاصطناعي أقل عمقًا وأضعف تأثيرًا    إنفانتينو: أداء المنتخبات الوطنية المغربية هو ثمرة عمل استثنائي    "حماس" تعلن العثور على جثة غولدين    النفق البحري المغربي الإسباني.. مشروع القرن يقترب من الواقع للربط بين إفريقيا وأوروبا    درك سيدي علال التازي ينجح في حجز سيارة محملة بالمخدرات    الأمواج العاتية تودي بحياة ثلاثة أشخاص في جزيرة تينيريفي الإسبانية    فرنسا.. فتح تحقيق في تهديد إرهابي يشمل أحد المشاركين في هجمات باريس الدامية للعام 2015    لفتيت يشرف على تنصيب امحمد العطفاوي واليا لجهة الشرق    الطالبي العلمي يكشف حصيلة السنة التشريعية    ميزانية مجلس النواب لسنة 2026: كلفة النائب تتجاوز 1.59 مليون درهم سنوياً    تقرير: سباق تطوير الذكاء الاصطناعي في 2025 يصطدم بغياب "مقياس ذكاء" موثوق    بنكيران: النظام الملكي في المغرب هو الأفضل في العالم العربي    الدار البيضاء: لقاء تواصلي لفائدة أطفال الهيموفيليا وأولياء أمورهم    إسبانيا تشارك في المعرض الدولي لكتاب الطفل والشباب بالدار البيضاء    "أونسا" يؤكد سلامة زيت الزيتون    "يونيسيف" ضيفا للشرف.. بنسعيد يفتتح المعرض الدولي لكتاب الطفل والشباب    بيليم.. بنعلي تقدم النسخة الثالثة للمساهمة المحددة وطنيا وتدعو إلى ميثاق جديد للثقة المناخية    مخاوف برلمانية من شيخوخة سكانية بعد تراجع معدل الخصوبة بالمغرب    تعليق الرحلات الجوية بمطار الشريف الإدريسي بالحسيمة بسبب تدريبات عسكرية    الداخلة ترسي دعائم قطب نموذجي في الصناعة التقليدية والاقتصاد الاجتماعي    مهرجان الدوحة السينمائي يعرض إبداعات المواهب المحلية في برنامج "صُنع في قطر" من خلال عشر قصص آسرة    وفاة "رائد أبحاث الحمض النووي" عن 97 عاما    اتصالات المغرب تفعل شبكة الجيل الخامس.. رافعة أساسية للتحول الرقمي    الأحمر يوشح تداولات بورصة الدار البيضاء    سبتة تبدأ حملة تلقيح جديدة ضد فيروس "كورونا"    فرحة كبيرة لأسامة رمزي وزوجته أميرة بعد قدوم طفلتهما الأولى    دراسة: المشي يعزز قدرة الدماغ على معالجة الأصوات    الوجبات السائلة .. عناصر غذائية وعيوب حاضرة    بينهم مغاربة.. منصة "نسك" تخدم 40 مليون مستخدم ومبادرة "طريق مكة" تسهّل رحلة أكثر من 300 ألف من الحجاج    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    حِينَ تُخْتَبَرُ الْفِكْرَةُ فِي مِحْرَابِ السُّلْطَةِ    أمير المؤمنين يأذن بوضع نص فتوى الزكاة رهن إشارة العموم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مفهوم الهوية اللغة و الهوية (الجزء الخامس)
نشر في العرائش أنفو يوم 19 - 05 - 2019


اللغة و الهوية (الجزء الخامس)
معالجة مفهوم الهوية كمن يبحر في المحيط، ترطمه موجة لتضربه أخرى و في هذ الحالة هو مطالب المزيد من الحنكة على الطرح و الاستيعاب و المعرفة حتى يتسنى الابتعاد عن المألوف، الذي غالبا ما ما يخضع لخطاب أحادي الجانب متشنج لأيديولوجية أو تصور معين. و اذا كان الوصول الى شط الخلاص صعبا، يبقى زورق الخلاص في ما حفظناه على أيدي مدرسينا الأجلاء و نحن صبية في كتاب: “من أراد الغوص في اليم لا يهاب الغرق”. مقولة كغيرها من الحكم و المعاني ارتوينا منها في محيط نشأتنا، لتفعل في هويتنا الفردية و الجماعية عبر الحقب.
بخصوص الهوية الفردية سواء في مستواها السيكولوجي أو الثقافي الاجتماع، أو ما خص الهوية بالنسبة لمجموعة معينة سواء بمنطقة ما أو ما عايناه ببلاد المهجر بالنسبة للمهاجرين، حيث سايرنا تطور أجيالها لنستنتج منها خلاصات هامة حول تعقيدات و تشعب تطور الهوية الفردية و الجماعية عندهم. و ذلك عبر مساهمتنا في المقالات و الدراسات التي تم نشرها في مجلة “الهجرة و الصحة” التي نديرها منذ ثلاثين سنة.
سنترك هذا الجانب رغم أهميته لمناسبة أخرى و نركز هنا على الهوية بمفهومها الوطني القومي أي التي تهم الشعب/الأمة – الشعب المغربي الأمة المغربية. و طبعا توسيع المجال كما يفرضه البحث الى الإحاطة بمفهوم الهوية القومية العربية و كذا الإسلامية و طبعا ربط كل هذا بالهوية الإنسانية. نظرا لتداخل الموروث الحضاري و الثقافي و لما لهما في واقعنا الحالي و كذا في مشروعنا المستقبلي في تثبيت الهوية. و يبقى الخط الرابط بين أفكار طرحنا منذ البداية هو ادراك الحلقة المركزية المفقودة في وعينا الجماعي و في أنماط تعايشنا الثقافي و أساليب ممارسة سلطة الحاكم و انفلات حرية المحكوم، ألا و هي اثبات و ترسيخ مبدأ كرامة الانسان كل انسان و إقرار قانون الحرية الفردية و الجماعية بين الأفراد و داخل المجتمع. للوصول الى المجتمع المنشود، مجتمع الكرامة و الحرية و الذي لن يكون سوى ديمقراطيا و طبعا اشتراكيا بالنسبة لنا أحرار الوطن و الشعب و الأمة و الإنسانية.
مجتمع الكرامة و الحرية يفرض استيعاب مكونات الماضي المشترك الذي يجعل منا لحمة ثقافية ثابتة الجدور و التطلعات لنواجه تحديات الحاضر و نبي مستقبلا حضاريا زاهرا، سلميا متخلصا من التبعية و له موقعة الخاص بين الشعوب و الأمم. كما أشرنا اليه سابقا، هناك عدة مداخل لتناول مسألة الهوية. منها ما هو شعوري و وجداني يدفع بالفرد الى مقام التضحية من أجله بالغالي و النفيس. مثال ذلك حب الوط و منهه المناداة بأن “حب الأوطان من الايمان”. هكذا من أجل حب هذا الوطن أي المغرب، قام حماة الحمى يقاومون في المدن و الجبال الوجود الاستعماري دفاعا عن حوزة الوطن و المطالبة باستقلال البلاد. فسقط من أجل ذلك شهداء و نكل بالعديد من الشرفاء. بفضل تضحياتهم تحقق الاستقلال السياسي. مما يؤكد أن للهوية الهام وجودي في النفوس يتجاوز الذاتي و الموضوعي ليخيم على النفساني و الشعوري. لماذا يوجد أناس يقدسون بقعة من الأرض بها أشجار كأشجار باقي البلدان و أنهار و جبال و رمال كغيرها من العديد من البلدان. لكن بما أنها موطنهم يفتخرون بالانتماء اليه. فيمجدون تاريخه و يقدسون سمائه و بحره و أرضه و كل ما ينسب اليه، لحد يصبح مطونهم بالنسبة لهم، جنة لا تماثلها جنة فوق الأرض مستعدون الفناء من أجلها. فيتغنون بها و لها يرددون الأشعار و يخطون المراجع و هم يهتفون
سواد العين يا وطني فداك و قلبي لا يعرف سواك
أو
وطني يعلمني حديد سلاسلي
عنف النسور
ورقة المتفائل
هذا الحب الفطري و هذه النظرة المثالية و الروحية في آن واحد للوطن يؤكد أن هناك شعور و وعي حسي مغروس في تركيبة هويتنا الجماعية. هذا يجعل من التشبع و امتلاك مقومات مشاعرها الشعبية و القومية و التفاعل معها لعقلنتها ضرورة لا محيد عنها، كيلا تصبحنن، أي الهوية، سيفا ضاريا في أيدي أعدائها. الأمر الذي لن يتحقق الا عبر نشر الثقافة العقلانية المتفتحة و المتشبثة بمبادئ الكرامة و الحرية.
1 – الماضي المشترك أو الموروث التاريخي المشترك
لما ننظر الى طبائع البشر فإننا من حيث لغوهم و طريقة حديثهم و ملبسهم و مطعمهم و غنائم و رقصهم و طقوسهم و أساطيرهم، و غير ذلك مما يميزهم كمجموعة بشرية خاصة فننعتهم كشعب كذا أو أمة كذا. هذا الموروث اي تكون عبر الحقب و العصور و الذي يجد جدوره في غابر الأزمة هل يمكن محية و تعويضه بمزاج آخر و عقلية أخرى بقدرة قادر أو في زمن وجيز يقدر بالعقود و العصور؟ الجواب بالتأكيد لا. و بما أن الجواب كذلك، لزم اعتبار العامل الزمني أي التاريخ، عنصر أساسي في فهمنا وجب أخذه بعين الاعتبار كمؤسس لبنية الهوية. هذا يعني أن الهوية الوطنية لمجموع الشعب أو الأمة، تكونت و تصلبت عبر سيرورة زمنية طويلة منها ما هو ضارب جدوره في الأزمنة الغابرة، عهد ما سميناهم بالمغاربة البائدة. و منها ما تطور و توضح معالمها عبر السيرورة التاريخية التي وصلنا عنها معطيات معينة، سواء عبر الآثار البشرية أو المعمارية أو عبر الميثولوجيا و الحكايات المتداولة و اللغات المتوارثة و غير ذلك. مما يؤكد أن الانسان الذي عمر المغرب حل اليه من مختلف الاتجاهات، منهم من جاء من الشرق و منهم من جاء من الجنوب أو الشمال و الحال أن ذلك التمازج و التلاقح أعطى للهوية المغربية بعدها الحضاري و اللغوي الجامع و النوعي.
السؤال الوجيه الذي يبعدنا عن التخيلات و يساعدنا على فهم ما هو كائن في المرحلة التاريخية الراهنة كنتاج لما سبق، هو لماذا بعد التلاقح الذي عرفته العقلية المغربية منذ عهد الفنيقين و القطجين و الرومان و النضال و البيزنطيين سيستقر جدع الهوية المغربية أساسا على أرضية الحضارة و الثقافة التي شيدت أدواتها المعرفية اللغة الفصحي، موضع حوارنا؟ فحضارة قرطجنة الأمازيغية التي كانت تباهي حضارة الرومان لحد كادت تقضى عليها لولا تخاذل بعض جنرالات القائد المحنك أنبال . ثم هناك الحركة الدوناتية التي كادت تهز الكيان المسيحي ليس فقط ببلاد المغرب الكبير، بل في حضيرة الإمبراطورية الرومانية نفسها. و جاء البيزنطيين و أرادوا فرض دينهم و سلطانهم على شمال افريقيا لكنهم باؤوا بالخيبة و الفشل الذريع و لم يستطيعوا لذلك سبيلا. و جاء بعدهم المسلمون الفاتحون و لم يجدوا لفتح البلاد عنوة من قدرة أو مدخلا أو سبيلا، و لم يتحقق لهم الأمر الا بعد احتضان المغاربة، عن طواعية، العقيدة الجديدة و ارتضوا الإسلام دينا لهم. و هذا في اعتقادنا راجع لبساطة شرائعه و توافقه مع عقليتهم . فالدين الجديد لم يأتي كالديانات الوضعية و السماوية السائدة أنداك، بطقوس معقدة و وساطة بين الخالق و المخلوق . فلم تكن هناك وساطة بين الله و البشر مما يتماشى و أنفة و أمازغية أي حرية الانسان المغربي. ثم أن المرجعية الايديولوجية اللاهوتية للدين الجديد تركت الباب مفتوحا للاجتهاد في مسالك تدبير المعاملات و السلوك في مجمل ميادين العيش و التعايش. حتى ما خص الأحكام الشرعية بقيت معلقة لطور الى حين قيام دول و امبراطوريات حورت و بدلت و أولت و زادت و نقصت حسب ما تمليه مصلحة سلطتها الاستبدادية. حيث عوضت العصبية في امتلاك السلطة عوض الأحكام الروحية. أرجع ابن خلدون انقلاب السياسي على الروحي العقائدي الي مرحلة ما بعد النبوة والشيخين أبو بكر و عمر، حيث بعد الذو الروحي المباشر الذي كان سائدا خلل السنوات الأولى للدولة الإسلامية،عوضها المصلحة المادية و التحكمية و كل ذلك باسم الدين. أما ابن تيمية فيرجع سيادة السياسي أي المصلحة الدنيوية المادية ابتداء من وفاة صاحب الرسالة. أما علي عبد الرازق فيقر بسيادة السياسي منذ عهد الرسالة.
من كلامنا هذا نستخلص أن الحضارة التي سادت في حضن الديانة السماوية الجديدة التي احتضنها المغاربة على خلاف باقي المعتقدات التي كانت سائدة بينهم، سواء منها الوضعية أو السماوية ، مرجعها كون عقيدة الإسلام أدخلتهم عام السياسة من بابه الواسع، فأسسوا عبره دولا و امبراطوريات عظام و يشيدوا صرحا حضاريا و ثقافيا في مستوى لم تصله غيرهم من الشعوب و الأمم. فمن المغرب انطلقت الإمبراطورية الفاطمية و المرابطية و الموحدية و المرينية. و تظل معالم حضارة الأندلس نبراسا حيا للتعايش في مجتمع منفتح للديانات و المعتقدات الفكرية و الفلسفية والأدبية و المعمارية و الفنية. ما يعني أن بشائر الدولة الحديثة كانت تربتها قائمة و موجودة في خضم تلك الزخم الحضاري و الذي يمكن اعتماده لتجاوز النكوص الذي أصاب سيرورة بناء حويتنا المتطورة و المنفتحة على الغير و التفاعل معه.
2 – نبش في جوانب أساسية في كيان هويتنا
خصت عالمة في الأنثروبولوجيا مرسيا الياد حياتها للبحث في دور الأساطير الثابتة في تشكيلة الهوية عند الأقوام البدائية و مفعولها متوارث في المخيل اللاشعوري و الطقوسي للبشر. و ضمن هذا المخيل الطقوسي الموروث عن الانسان البدائي المجسد عند المغاربة البائدة و المتواجد بقوة عند المغاربة القدامى و الذي ورثناه عبر العصور و لا زال ساريا بقوة، أردنا ذلك أم رفضناه. و كل ما يمكن القيام به هو، عوض بقائه في طوره الشعوري الحسي أمكننا وعيه اليوم كونه ضورة بذوونها تظل شخصيتنا الفردية و الجماعية مكسورة و منخورة. هذا الثابت في كينونة هويتنا ، هو ما نعبر عنة بالفتوة أو الأمازيغية أي مجمل الخصل الحميدة من حرية و كرامة و أنفة و صدق و مروءة أي ما يجمع عنه بمكارم الأخلاق. لكن الفرق هو أن هناك من يتحدث عن هذه المكارم الأخلاقية كمن يتحدث عن الأطلال أو يستعملها في خطابه الديني و السياسي لتجهيل و استعباد الناس، و هناك و من يعيشها عن صدق و يمارسها في حياته اليومية و ينشر مبادئها بين عموم الناس. يمكن القول أن هؤلاء الدعاة لمكارم الأخلاق في عصرنا الحديث يمكن تصنيفهم بالداعين لمبدأ احترام الحرية الفردية و الجماعية و العدالة الاجتماعية و المساواة بين الرجل و المرأة و كل البشر في العيش الكريم مع ضمان حقوق الانسان و في ما يخصنا نجسد كل هذا في الدعوة لبناء مجتمع اشتراكي يسوده التآخي و التآزر عبر العدل و المساواة ….
لكن و هذا ما يهمنا و نحن ننبش في موروثنا التاريخي الذي تبني عليه هويتنا المشتركة، هل وجد في سيرورة تشكيل هذه الهوية عبر التاريخ نبراس حي لمكارم الأخلاق بالمفهوم الحي الذي يعرف في عصرنا الحاضر بحقوق الانسان؟ هذا حتى لا يتمادى علينا دعاة الغيب و الجهالة أننا ننظر لأعراف غريبة عن مجتمعنا. أكيد أنه كانت هناك حركة متطورة و فاعلة بشكل سلمي غالبا و بشكل يعتمد الاشتراك في العنف الى جانب حركات التغيير في بعض الحالات. هذه الحركة السلمية يمكن نعتها بالصوفية المتنورة الحية و التي سايرت ظهور الدولة الإسلامية منذ البداية و انقرضت مع أعلامها في القرن السابع الهجري، بداية الانقراض الحضاري في شرق و غرب الحضارة العربية الإسلامية. فالصوفية الحية حوربت من قبل كل الاتجاهات السلطوية منذ البداية. كما وقفت الصوفية الحية من جهتها بثبات ضد السلطة و المال و الطقوس الدينية. و قد اعتمد في رفضها السلمي للسلطة و المال و الدين طريق السرية عامة و علنية في بعض الحالات. هذا قبل أن تعوضها الصوفية المدجنة و المروجة للشعوذة و الدجل.
الصوفية الحية التي تعنينا و التي ينبغي البحث في جدورها و عطائها الفكري و ممارستها الميدانية انطلقت منذ عهد الرسالة و ذلك بشكل عفوي حفاضا لأنفتها و فتوتها. نجد بعض ظواهرها في المؤلفة قلوبهم الذين رضوا بالتحالف مع الدولة الناشئة و عدم الانصياع لسلطانها، كما نجد بعض ممثليها الأوائل من بين الصحابة و المؤمنين بالرسالة و الذين كانوا باسم الحق يقفون في وجه الأحكام التي لا تتماشى و أنفتهم و حريتهم. كما أشرنا اليه أعلاه، كوننا في بداية البحث و ما نقدمه ليس سوى ارهاصات لا بد لها من التنقيح و التقويم والتنقيب لتعميم الفائدة. فهذا أبو ذر الغفاري يقف في وجه عمر بن الخطاب مؤسس الدولة الإسلامية الفعلي عبر تشريعاته، لينتقده نقدا مريرا كونه كخليفة لم يق رقاب الناس حيث رسم عليهم بني أمية في الشام و طلق لهم العنان ليسودوا الناس سيادة الأباطرة. كما نقد عليه بعض أفعاله كالعطاءات من بيث مال المسلمين لمن لا يستحقها من الصحابة الذين استغنوا باسم أسبقتهم في الإسلام، مما جعل عمر ينفيه ليعيش وحدا الى حين وجده المارة ميتا في الخلاء. مات أبو در منبوذا فقيرا و هو من الأوائل و لو أراد الغني و السلطة لفاز بما فاز به أمثال طلحة و الزبير و غيرهم مم استغنوا.وهو القائل كلمته الشهيرة ” اني أعجب لمن يموت جوعا و لا يسل سيفه”.
و اذا كان المتصوفة الأوائل يعيشون على الفطرة فان فكر التصوف و موقف المتصوفة سيلجأ الى السرية عوض التقية التي اعتمدتها الشيعة. كما سيسلكون طريقا غير مسلك الخوارج و المعتزلة في مقاومة السلطة القائمة كونها غير عادلة و غير صادقة دينيا و دنيويا. فهم بذا كانوا يدعون الى حرية الاعتقاد، حرية التدين و حرية الالحاد ، الأمر الذي أثمر في أوروبا عبر الثورة الثقافية لعصر الأنوار و للأسف الشديد ثم انقراضه عندنا ليومنا هذا. ميزة الصوفية الحية أنها كانت تربط الفكر بالممارسة و هي بذا اشتراكية تامة، لا يحل الاستفادة للمتصوف الا ما يوفره له عمله اليدوي او الفكري. فلا يحل له امتلاك أي شيء و هو ملزم توزيع الفائض مما أنتج على الفقراء و المعوزين. قاوموا جمع المال كون الغني لا يتوفر لأحد الا عبر استغلال الآخرين و هم بذا يحاربون استغلال الانسان للإنسان. و المال لا يتوفر بذون سلطة و منه كان موقفهم الثابت ضد كل نوع من السلطة سواء التي اعتمدت الخلافة أو التي روج لها الشيعة و الخوارج و المعتزلة. و لذا حاربتهم كل الطوائف و السلط.كما أن الصوفية الحية وقفت ضد الوساطة الدينية سواء كان الوسيط نبيان أو رسولا أو اماما، لأنهم كانوا غنوصيين يعتقدون أن هناك قوة متحكمة في الكون لا علاقة للبشر في تأويلها أو الكلام باسمها. هذه القوة الغنوصية موجودة في كل الكائنات و منه قولة الحلاج أنا الحق. ما معناه أنا و الله روحان في جسد ” أنا هو و هو أنا روحان في جسد”.
ظاهرة الحلاج تخرج عن سيرة المتصوفة في عملهم الإشعاعي عبر إعطاء المثل في العيش و التصرف و المعاملة و نشر المبادئ الصوفية بين الناس بشكل سلمي الى حين نخر المرتكزات التي تقوم عليها الدولة المستبدة و العقيدة التي تشرعن ذلك الاستبداد. كان الحلاج صوفيا بالتأكيد الا أنه أخد ينشر الدعوة جهارا و تحالف مع القرامطة و ما تبقى من أنصار ثورة الزنج التحررية التي كادت تعصف بالدولة العباسية.
لكن اذا اردنا الفسحة في الممارسة و الفكر الصوفي النير الحي، نجده عند ابن عربي في ” فصوص الحكم” و عند ابن سبعين في ” الرسائل ” و عند عبد الكريم الجيلي ، حفيد عبد القادر الجيلالي ، في ” الانسان الكامل” و المعري في” اللزوميات” و غيرها من اسهامات الصوفية الحية و التي كلها تدعو للسلم و محاربة السلطة المستبدة و المال و الدعوة الى حرية الاعتقاد و كل هذا عبر نشر الوعي و إعطاء المثل في السلوك اليومي المبني على الأنفة و الاستقامة أي مكارم الأخلاق .
3 – خلاصة هذا الجزء
الهدف من حديثنا هذا، أننا لا نكتشف الماء الدافئ كما يقول المثل الفرنسي، و أن جدور هويتنا عبر سيرورة تكوينها و تصليبها توجد فيها التربة الطيبة و الصالحة لزرع قيم الحضارة الإنسانية الحديثة من تحرر و حقوق الانسان. كوننا موجودة أصلا في كينونة هويتنا، و التي يمكن نعتها بما قالة الشاعر حافظ إبراهيم، و ان كان قوله موجها لأعداء اللغة الفصحي:
رموني بعقم في الشباب و ليتني عقمت فلم أجزع لقول عداتي
أنا البحر الكامن الذر في أحشائه فهل سألوا الغواص عن صدفاتي
في الحلقات الآتية نتمم ما أشرنا اليه في الخلقة السابقة بالإضافة الي معالجة المواضيع التالية:
– الهوية الوطنية
– الهوية الاجتماعية
– الهوية السياسية
محمد المباركي
19 ماي 2019


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.