الحركة النسوية اليسارية والإسلامية ضمن حلقات : النسوية: البدايات والتطورات وال0فاق العلمي الحروني ستتناول هذه المقالة الموسومة " النسوية: بدايات وتطورات وآفاق" موضوع النسوية في أربع حلقات، بداية بالخلفيات الفكرية للنسوية المعاصرة الغربية والجدل المرافق للنسوية الإسلامية التوفيقية، ثم النسوية في المغرب والمغارب بين الاستيراد والتجذر بحثا عن طريق لتحرير المرأة، ثم مساءلة ونقد النسوية المعاصرة ونقد وتحليل ما سماه إمانويل طود في كتابه "أين هن الآن؟" ب "أسطورة" البطريركية التي تتبناها هذه الحركة، بالانتقال بها من السجال الإيديولوجي إلى إعادة بناء التاريخ، لتختتم المقالة في الحلقة الرابعة بأطروحة أرضية "تيار اليسار الجديد المتجدد" القائم على نسوية متجذرة في المشروع التحرري. الحلقة الأولى: الخلفيات الفكرية للنسوية الغربية و جدل النسوية الإسلامية المعاصرة تعرف النسوية بوصفها منظومة فكرية وحركة اجتماعية-سياسية تضم مجموعة من النظريات والاتجاهات التي تسعى إلى تحقيق المساواة بين الجنسين في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والشخصية. تنطلق النسوية من تشخيص واقعٍ تاريخي ترى فيه أن المجتمعات الإنسانية منحت امتيازات بنيوية للذكور، وأنتجت أنماطا من التمييز والقهر الممنهج ضد النساء، وهو ما يستوجب، بحسب أطروحاتها، مراجعة النظم الاجتماعية والثقافية والاقتصادية السائدة، أو تغييرها جذريا عبر الفعل الجماعي. وبينما تتنوع المقاربات النسوية وتختلف في تفسير أسباب الاضطهاد وحدود المساواة المنشودة، فإن القاسم المشترك بينها يتمثل في السعي إلى إنهاء اللامساواة القائمة على النوع الاجتماعي، وتمكين النساء من المشاركة الحرة والآمنة في المجتمع، سواء عبر إصلاح البنى القائمة أو عبر نقدها ومساءلتها بوصفها نتاجًا لتصورات ذكورية هيمنت على الفكر والتاريخ والمعرفة. انطلقت بدايات تشكل النسوية في الفكر الغربي بوصفها رد فعلٍ تاريخي وفلسفي على تهميش المرأة وإقصائها عن المجالين الفكري والاجتماعي، وهو تهميش تجذر عبر قرون طويلة من التفسيرات الدينية البطريركية، والتصورات الفلسفية التي ربطت العقل بالذكر والجسد بالأنثى. فمن الفلسفة اليونانية التي قدمت المرأة ككائنٍ ناقص أو معاقَب، مرورا بالفكر المسيحي الوسيط الذي كرس صورة المرأة باعتبارها أصل الخطيئة، وصولا إلى فلاسفة الحداثة الذين أعادوا إنتاج الثنائية نفسها بصيغ عقلانية جديدة، تشكلت أرضية ثقافية جعلت اضطهاد المرأة يبدو طبيعيا ومقدسا في آن. وفي مواجهة هذا الإرث، بدأت النسوية كتفكير نقدي يسعى إلى تفكيك هذه المسلمات، واستعادة خبرة المرأة بوصفها خبرة إنسانية كاملة، لا تابعة ولا هامشية، لتعلن، مع سيمون دي بوفوار ، أن المرأة لا تولد امرأة، بل تصاغ اجتماعيا وتاريخيا داخل بنيات يجب مساءلتها وإعادة بنائها. أما النسوية الإسلامية فقد تبلورت في سياقٍ جدليّ مع النسوية الغربية، بوصفها محاولة للإجابة عن سؤال المرأة وقضاياها العادلة داخل المرجعية الإسلامية، وإن لم تتخذ مسارا واحدا متجانسا. وقد تشكل داخلها رأيان أساسيان: رأي إصلاحي يسعى إلى إعادة قراءة النصوص الدينية من داخل المنظومة الإسلامية نفسها، منطلقا من فكرة أن الظلم الواقع على المرأة نتاج تأويلات فقهية ذكورية تاريخية وليس جوهر الدين، وأن القرآن، كمرجعية عليا، قد قرر المساواة الإنسانية بين الجنسين، مع اختلافٍ تكامليّ في الأدوار، وأن استعادة حقوق المرأة تكون عبر تفكيك هذه التأويلات وليس عبر القطيعة مع النص. في المقابل، ظهر رأي رافض أكثر حدة، رأى أن المشكلة تكمن في بنية الخطاب الديني ذاته، فدعا إلى نقد المقدس أو إعادة تعريفه، وتعامل مع النصوص بوصفها منتجات تاريخية قابلة للنقض والتجاوز، وهو اتجاه اقترب في كثير من أطروحاته من النسوية العلمانية، وإن تموضع وصنف تحت مظلة "النسوية الإسلامية" لارتباط نقده أساسا بالإسلام. وبين هذين المسارين، ظل الجدل قائما حول حدود التأويل ومرجعية الإصلاح، وما إذا كانت النسوية الإسلامية مشروع إنصافٍ للمرأة داخل الاجتماع الإنساني، أم إعادة إنتاج للصراع الجنوسي بلغة دينية مختلفة. هكذا يمكن القول بتنوع النسوية، كحركة فكرية واجتماعية تسعى لتحقيق المساواة بين الجنسين، في مقارباتها وتفسيراتها لظروف القهر التي تعيشها المرأة في المجتمعات وخاصة في المجتمعات حيث سيادة الجهل المقدس. ومن بين هذه المقاربات، تتجسد ثلاثة تيارات/مقاربات رئيسية تعكس تصورات مختلفة حول أصل الاضطهاد الذي تواجهه المرأة: النسوية الماركسية والنسوية الإسلامية التأويلية والنسوية الراديكالية. غير أن هذه التيارات تلتقي في فهم مشترك بأن الاضطهاد الذي تواجهه المرأة لا يتعلق بظروف كل من المرأة أو الرجل كأفراد، إذ تجمع على أن ذاك القهر هو نتاج بنى اجتماعية واقتصادية وثقافية معقدة تتطلب تفكيكا جذريا وإعادة بناء، كما أنها وإن كانت هذه المقاربات تتفق عموما على ضرورة السعي نحو عدالة حقيقية تمكن المرأة من حقوقها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية كاملة، فإنها تختلف في تفسير أصل المشكلة. الحركة النسوية الماركسية تركز على العلاقة بين النظام الرأسمالي واستغلال المرأة. وفقا لهذه الرؤية، يعتبر العمل الذي تقوم به المرأة – سواء كان داخل المنزل أو خارجه – عملا غير معوض، حيث تتعرض للاستغلال في سياق علاقاته الطبقية الاجتماعية. بناء على هذا الفهم، ترى النسوية الماركسية أن التحرر الكامل للمرأة لا يمكن تحقيقه إلا من خلال الثورة الاجتماعية والاقتصادية التي تقضي على بنية الرأسمالية وتعزز العدالة الطبقية. من جانب آخر، تتخذ الحركة النسوية الإسلامية التأويلية من النصوص الدينية مرجعية لها لفهم وضع المرأة في المجتمع. هذه المقاربة لا ترفض الدين نفسه، بل تدعو إلى إعادة تفسير النصوص الدينية في ضوء العدالة والمساواة بين الجنسين. فهي تعتبر أن الدين ليس مصدر للاضطهاد، وتركز على التفسيرات الذكورية التي تم تقديمها عبر التاريخ والتي أسهمت في تهميش حقوق المرأة. يسعى هذا التيار إلى تعزيز التأويلات التي تعكس القيم الإنسانية والمساواة، معتبرا أن الدين نفسه يدعو إلى العدالة، لكن تفسيرات بشرية شوهت هذه الرسالة. أما النسوية الراديكالية، فهي تنتقد بنية السلطة الذكورية في المجتمع بشكل جذري. هذه الرؤية ترى أن الأيديولوجيات الدينية، التي ترسخ لأدوار ثابتة للجنسين، تساهم بشكل كبير في إضعاف مكانة المرأة ومحدودية خياراتها. لذا تسعى النسوية الراديكالية إلى إعادة هيكلة المجتمع بشكل جذري، للقضاء على ما تعتبره سلطة ذكورية قائمة ومؤسسة من خلال التقاليد والأيديولوجيات الدينية والاجتماعية. منذ بروزها خلال نهاية القرن التاسع عشر وحتى الآن، تطورت الحركة النسوية من خلال عدة مراحل أساسية متتالية حيث بدأت بالمطالبة بحقوق قانونية مثل حق المرأة في التصويت وحقها في ظروف عمل عادلة، تلتها مرحلة ثانية أكثر عمقا في طروحها بتركيزها على قضية النوع الاجتماعي وما يرتبط به من أبنية التمييز والعنف ضد المرأة في سائر المستويات في المجالين الخاص والعام، ثم عرفت تطورا في المرحلة الثالثة والتي تميزت بوقفة تأملية مع النسوية نفسها، وما تعنيه وما قد تعبر عنه من تمايزات داخلية، كما اهتمت بفكرة "طبقات الاضطهاد"، بمعنى أن النساء قد يعانين من تمييز بسبب الجنس والعرق والطبقة معا. وعرفت اليوم، مرحلة رابعة حيث امتداد لمنهج التنويع والتحرر من أي قوالب نمطية مسبقة مرتبطة بالفكر النسوي في حد ذاته، هذه المرحلة تصفها د. هند مصطفى الشلقاني الباحثة المتخصصة في دراسات المرأة بأنها مرحلة "تمعن في المطالبة بحقوق المهمشين والعابرين جنسيا وتتحدث عن حقوق الرجال والأبناء أيضا في تجاوز القوالب المفروضة عليهم وتتحدث عن استخدام التكنولوجيا الحديثة في تحقيق المساواة". هكذا إذن تطورت الحركة النسوية في المراحل الأربع السالفة الذكر من المطالبة، بخجل، بالحقوق الإنسانية والاجتماعية للمرأة ، وانتهى بها المطاف إلى الحديث عن المساواة والندية المطلقة وإلى محاولة تجاوز تام للرجل في بعض الأحيان. في الحقل السياسي والحقوقي، ارتبط تشكل الحركة النسوية الحديثة تاريخيا بنضالات العمال والتيارات الاشتراكية، ويتجلى ذلك بوضوح في نشأة اليوم الوطني للمرأة عام 1909 في نيويورك بمبادرة من الحزب الاشتراكي الأمريكي. ورغم شيوع ادعاءات تربط المناسبة باحتجاج عاملات مصانع الملابس في نيويورك عام 1857، يؤكد باحثون أن هذه الرواية غير دقيقة، وأنها ظهرت لاحقا في محاولة لفصل يوم المرأة العالمي عن جذوره الاشتراكية. وقد تعزز الطابع الدولي للمناسبة خلال المؤتمر النسائي الاشتراكي في كوبنهاغن عام 1910، حين اقترحت كلارا زتكن ورفيقاتها تخصيص يوم سنوي لنضال النساء من أجل المساواة والحقوق السياسية. وفي عام 1911 شهدت عدة دول أوروبية أول احتفال عالمي واسع شارك فيه أكثر من مليون شخص، وتركزت المطالب على حق التصويت والمساواة في العمل، قبل أن يستقر يوم 8 مارس تدريجيا كتاريخ رمزي عالمي، ليغدو يوم المرأة العالمي محطة مركزية في ذاكرة الحركة النسوية ونضالاتها من أجل العدالة الاجتماعية.