الحلقة الثانية: النسوية في المغرب والمغارب بين الاستيراد والتجذر: أي طريق لتحرير المرأة؟ العرائش أنفو العلمي الحروني الحلقة الثانية الحلقة الثانية من حلقات (النسوية: بدايات وتطورات وآفاق) عنوانها: النسوية في المغرب والمغارب بين الاستيراد والتجذر: أي طريق لتحرير المرأة؟. تناول موضوع النسوية في المغرب والمغارب يطرح الأسئلة التالي:هل يمكن للنسوية، بوصفها خطابا للتحرر والدفاع عن المرأة، أن تنقل من سياقها الحضاري الأصلي إلى مجتمعات مغايرة دون أن تفقد معناها أو تتحول إلى أداة اغتراب ثقافي؟ أم أن كل محاولة لتحرير المرأة لا تستقيم إلا إذا انطلقت من تاريخ المجتمع وبنيته الأسرية ومنظومته القيمية والرمزية الخاصة؟ وإلى أي حد تعد النسوية الإسلامية، كما النسوية اليسارية في العالم الإسلامي، امتدادا لنموذج غربي تشكل في سياق صراعه الخاص مع الكنيسة والحداثة، أكثر مما هي تعبير عن مسار داخلي نابع من تطور الاجتماع الإسلامي وتاريخه؟ وهل يمكن بناء خطاب نوسي تحرري عبر استنساخ مفاهيم جاهزة مثل الجندر والصراع الجندري، أم أن أي نسوية فاعلة مشروطة بالالتصاق بالهوية الثقافية، وبأنماط الأسرة والقرابة وكذا بالمرجعيات القيمية التي تشكل بنية المجتمع المعني؟ وكيف يتيح استحضار نماذج محلية، كالعلاقات التاريخية بين الجنسين في المجتمع الأمازيغي بمنظور ابن خلدون، تفكيك محدودية الرؤيتين اليسارية والإسلامية في المغرب، وفتح أفق لفهم نسوي متجذّر يمهد لتحليل أطروحات معاصرة، مثل أطروحة إيمانويل طود حول الجذور الاجتماعية للصراعات النسوية في الغرب؟ أولا – النسوية في المجتمعات الإسلامية نتاج تاريخي غربي ومشرقي مستورد يظهر من خلال تتبع نشأة النسوية في الفكر الغربي أنها لم تنشأ كحركة تحريرية مجردة، إذ يعتبرها هذا الفكر استجابة تاريخية لصيرورة فكرية ودينية وفلسفية، تميزت بتراكم تصورات دونية عن المرأة في التراث المسيحي واليوناني وفلسفات التنوير. فقد وضعت المرأة، منذ أرسطو وأفلاطون ثم في اللاهوت الكنسي، في موقع النقص والشر والغواية، وتكرس هذا التصور في الفلسفة الحديثة عبر ثنائيات العقل/المادة، حيث ألحقت الأنثى بالمادة والجسد، وأُقصيت عن العقل والفاعلية التاريخية. ومن هنا، لم تكن النسوية الغربية سوى رد صراعي على بنية دينية ميتافيزيقية معادية للمرأة، انتهى، خصوصا مع سيمون دي بوفوار، إلى الدعوة لتفكيك الأنوثة نفسها ورفض الأسرة والأمومة وتعويض البيولوجيا بمفهوم الجندار بوصفه بناء اجتماعيا محضا. وبهذا المعنى، ليست النسوية مفهوما كونيا محايدا، فهي نتاج سياق حضاري غربي محدد، تشكل مع المسيحية والحداثة والعلمنة. وعليه، فإن انتقال هذا المفهوم إلى العالم الإسلامي، سواء في صيغته الإسلامية أو اليسارية، لم يكن إلا استيرادا لنموذج صراعي جاهز، أعيد توطينه لغويا ورمزيا دون استحضار الشروط التاريخية والمعرفية التي أنتجته. فالنسوية الإسلامية، كما النسوية اليسارية في السياق الإسلامي والعربي والمغاربي فيما يهمنا، استوردت المفهوم وأدواته (الجندر والصراع و تفكيك النص ونزع القداسة)، ثم حاولت تبريرها إما دينيا أو أيديولوجيا، بدل الانطلاق من سؤال داخلي نابع من تاريخ الاجتماع الإسلامي نفسه. ثانيا – اكراهات بناء نسوية بالاستنساخ وضرورة الالتحام بالهوية يفضي هذا التحليل إلى نتيجة مركزية مفادها أن النسوية لا تبنى بالاستيراد ولا بالاستنساخ، لأن قضايا المرأة ليست مجرد حقوق قانونية أو مطالب رمزية، إذ هي نتاج طويل للعلاقات بين الجنسين داخل بنية الأسرة وأنماط القرابة والتقسيم الاجتماعي للعمل وكذلك أنساق القيم والتمثلات الثقافية. وهو ما نبه إليه المفكر المخضرم عبد الوهاب المسيري حين اعتبر "أن النسوية الغربية، بما هي تعبير عن مرجعية مادية، تنتهي إلى تمركز أنثوي حول الذات، وإلى عالم صراعي يفكك الإنسان والأسرة والمجتمع معا". في هذا السياق، يصبح استيراد النسوية الغربية، سواء بصيغتها الليبرالية أو الراديكالية أو الجندرية، نوعا من الاغتراب الثقافي، لأنها تسقط نموذجا ولد من صراع الكنيسة والحداثة على مجتمعات لم تعرف هذا الصراع أصلا، أو عرفته بصيغ مختلفة. فكما أن النسوية الإسلامية التأويلية وقعت في مأزق توظيف مفاهيم غربية مع محاولة تأويل المصطلحات الإسلامية وتفريغها من محتواها الظاهر والباطن، فإن النسوية اليسارية في المجتمعات الإسلامية وضمنها المغاربية بدورها استنسخت خطاب الصراع الجندري دون مساءلة/تجاهل بنيات القرابة والأسرة والاقتصاد الرمزي المحلي. تماما كما تجاهلت عدة مزايا موجودة فعليا في الممارسات الحياتية بالمغرب والمغارب بخصوص مدونة الاسرة والإرث وعدة قضايا إيجابية في ما يمكن تسميته ب "مدونة المرأة المغاربية"، فكما تشتت عقل السلطة السياسية بسبب دمج السلطة الدينية في السلطة السياسية وهمما اعتبرته أرضية "تيار اليسار الجديد المتجدد" داخل الحزب الاشتراكي الموحد عنصر نقص في السلطة وليس عنصر اكتمال كما تظنه بعض النخب، وقع تشتت أيضا في العقلين اليسراوي والاسلاموي مع مهمة الاستيراد ومحاولات تأويل غير المؤول. ثالثا- النسوية خارج الصراع: نموذج المرأة في الاجتماع الأمازيغي هنا تبرز أهمية استحضار المقولة الخلدونية الشهيرة حول أن الاجتماع البشري يحدده نمط المعاش والعمران لا الأفكار المجردة. فإذا طبقنا هذا المنظور على ما يمكن تسميته، بحذر علمي، ب "النسوية الأمازيغية"، سنلاحظ أن وضعية المرأة في المجتمعات الأمازيغية التاريخية لم تبن على صراع جندري، بل على تقاسم وظيفي داخل بنية قبلية – قروية، حيث لعبت المرأة أدوارا مركزية في الاقتصاد والملكية والنسب أحيانا والرمزية الثقافية، دون الحاجة إلى خطاب أيديولوجي صدامي. وعلى ذكر ابن خلدون، وجب استحضار توضيحه حول حال المرأة في زمانه حين قال: عندما كانت المرأة في الهند لا تساوي شيئا حيث عندما يموت الرجل يحرق فتحرق معه زوجته… وعندما كان العرب في يدفنون الفتيات مجرد ما يولدن بفكرهم السيء لأن الفتاة تجلب العار وتأتيهم بالنحس.._وعندما كانت المرأة تعزل وحدها في الصين بدعوى أنها نجسة .. في وقتها كان الأمازيغ يضعون التاج على رأس المرأة كملكة وفارسة على ربوع شمال إفريقيا و الملكة "ديهيا" فارسة الأمازيغ مثال لم يأت بمثلها زمان" ومن هذا المنطلق، يمكن استنتاج أن الحركة اليسارية المغربية والحركة الأصولية الإسلامية المغاربية أخفقتا معا في إنتاج تصور نسوي منبثق من التربة المغربية والمغاربية الأمازيغية المنفتحة مع الهويات الأخرى؛ إذ استلهم اليسار النموذج الغربي الناتج عن صرا ع المسيحية بفروعها الثلاثة، البروتستانتية والكاثوليكية والأرثوذكسية، والحداثة، بينما استلهم الإسلاميون نموذجا مشرقيا متأثرا بسياقات فقهية- سياسية لا تعكس بالضرورة خصوصيات الاجتماع المغربي والمغاربي. والنتيجة في الحالتين هي القطيعة مع التاريخ الاجتماعي المحلي، ومع أشكال التوازن التي عرفتها العلاقات بين الجنسين خارج منطق الصراع. في إطار هذا المسار النقدي، ومع شرط المناسبة، تجدر الإشارة إلى أطروحة إيمانويل طود حول النسوية و التاريخ الطويل للعلاقات بين الجنسين، وأصل الصراعات الحالية في فرنسا والغرب، حيث يبرهن أن الصراعات النسوية المعاصرة ليست نتاج "وعي تحرري" مجرد، بل تعبير عن تحولات عميقة في أنماط الأسرة والسلطة والقرابة والتعليم. وهو ما يؤكد، مرة أخرى، أن فهم النسوية، في أي سياق، لا يكون إلا بربطها إلى تاريخ الاجتماع البشري الخاص بكل مجتمع، وليس بتعميم نماذج غربية على مجتمعات مغايرة في بنيتها وهويتها ومسارها التاريخي والحضاري. ( يتبع في الحلقة الثالثة)