ماذا يريد العالم من الليبيين؟ مئات المقالات كتبت في الصحف والمواقع والمدونات العربية والأجنبية عن ليبيا وشعبها منذ انطلاق شرارة الاحتجاج الشعبي الأولى التي قابلها القذافي وابنه المدلل وزبانيته الآخرون بالويل والنار قبل أن يهربوا مدحورين. المثير للاستغراب في جزء مما كتب لم يكن تلك الحملة التشويهية الظالمة ضد الثوار الليبيين ومجلسهم الانتقالي، فذلك كان ضمن محاولة يائسة لنصرة الظالم وخوفا من الهزات الارتدادية لسقوط القذافي على أطراف عديدة، بل المستغرب هو ما ظهر في الكتابات والتصريحات من حديث عن غموض ومستقبل حالك وفتنة داخلية سيواجهها الشعب الليبي بعد سقوط العقيد المطارد. هؤلاء ليسوا بالطبع خائفين أو مكترثين لحال ليبيا والليبيين، لأن ذلك لا يهمهم ولم يكن يهمهم من عقود مضت، بل هو كلام يحمل أكثر روح التشفي والتمني، فهم لا يرون فتنة ولا حربا أهلية بل يتمنون حدوث ذلك فقط ليقولوا للناس أرأيتم أننا كنا على حق عندما كنا نقف في صف القذافي وكتائبه ضد الثوار، بل حتى انتقادهم لتدخل قوات النيتو من أجل نصرة الشعب الليبي الذي استبيح دمه في لحظة غضب يائس لم يكن يراد منه شيء آخر غير استغلال عواطف الرأي العام العربي الذي تربى على سياسات ديماغوجية غوغائية منافقة. اللليبيون لم ينفضوا أيديهم بعد من غبار المواجهة المسلحة التي فرضها عليهم زعيمهم الثوري فإذا بالكتابات تترى متوقعة أسوأ السيناريوهات للشعب الليبي، حتى أصبحت الصورة، على هذا الشكل، شعبا ضائعا وذئابا بشرية تنهش ثرواته واقتتالا داخليا بين مكونات المجتمع الليبي وأجانب يعيثون في البلد نهبا وسلبا وجماعات مسلحة تتنوع بين القاعدة الإقليمية والقاعدة المحلية ورواجا كبيرا للأسلحة بمختلف أنواعها، باختصار لا شيء يبعث على التفاؤل في نظر هؤلاء. نصحني أحد القراء الكرام قبل فترة قصيرة ألا أتفاءل بشأن الوضع في ليبيا وضرب لي موعدا بعد شهرين (على أكثر تقدير) من سقوط قلعة باب العزيزية متوقعا أن يسقط المجلس الانتقالي بالضربة القاضية، بل أكثر من ذلك فقد كتب أن (المحللين الغربيين كلهم أجمعوا على أن تصبح ليبيا صومال ثانية). الأيام بيننا طبعا، لكني لا أريد أن أحصر نفسي في زاوية التفاؤل والتشاؤم لأن ذلك لا يعنيني ولا يقدم من الحال شيئا ولا يؤخر، بل كل ما كنت أراه في الشأن الليبي من سنين كثيرة مضت هو أن تحين لحظة زوال نظام القذافي ليحصل الشعب الليبي المقهور على حرية وكرامة حباه الله بهما وقرر العقيد أن يحرمه منهما عقودا طويلة. لن أعود إلى مناقشة حكاية الاستعانة بالأجانب والكفار وحلف النيتو لأن ذلك لن يفيد من به صمم ولا يريد أن يرى التدخل الغربي وامتصاص ثورات وخيرات باطن الأرض العربية إلا في ثوار ليبيا بينما الحقيقة الصارخة تقول إن الغرب في كل مظاهره وأشكاله لم يغادر يوما البلاد العربية ولم يقف أحد من الحكام العرب في وجهه لا عند الاستقلال ولا بعده. ماذا يراد لليبيا الجديدة أن تكون؟ القذافي لم يندحر تماما بعد، لكننا نريد من ليبيا أن تتحول بين عشية وضحاها إلى جنة خضراء، الناس فيها إخوان متحابون لا غل ولا خلاف بينهم. التصريحات الخلافية بين فصائل المعارضة الليبية صارت أمرا محرما وتعثر التوصل إلى اتفاق حول حكومة وحدة وطنية صار خطيئة كبرى من شأنها أن تقود البلد إلى مصير مجهول. نظام القذافي لم يلفظ أنفاسه الأخيرة بعد لكننا مع ذلك نريد من الليبيين أن ينافسوا السويديين والنرويجيين في هدوئهم واستقرار نظام الحكم عندهم وديمقراطيتهم. وهنا أيضا لن أناقش أحدا لأقول له إن المصاب بوعكة قاسية لا يمكنه أن يتعافى إلا بطريقة تدريجية شيئا فشيئا، ولا يمكن لأحد أن يقرأ عليه الفاتحة لأنه تأخر قليلا في التعافي أو أصابته انتكاسة، فأطياف المعارضة الليبية (سابقا) مشكلة من بشر يمثل فيهم الطموح والتنافس من أجل الوصول إلى الحكم أمرا بديهيا طبيعيا وغريزيا أيضا. لكن دعونا فقط ننظر قليلا حولنا ونعقد مقارنة بين ليبيا وبلدان عربية أخرى كثيرة. وحتى لا أتيه بين الدول أكتفي بالحديث عن بلدي ولكل قارئ عربي آخر أن يسقط ذلك على بلده. نعتب على الثوار الليبيين أنهم يتقاتلون ويتنافسون على السلطة وأنهم لم ينجحوا في ظرف شهرين أو اكثر في تشكيل حكومة وطنية، ولا في تنظيم انتخابات حرة ونزيهة وديمقراطية، ولا في تحويل ليبيا إلى جنة يعيش فيها الليبي معززا مكرما. كم سنة مضت على استقلال الجزائر من ربقة الاستعمار الفرنسي؟ نحن متوجهون إلى الاحتفال بالذكرى الخمسين لهذا الحدث المشهود، خمسون سنة وليس شهرا أو شهرين ولا سنة أو سنتين ولا حتى عقدا أو عقدين، خمسون سنة والجزائريون في غالبيتهم لا يزالون يعتقدون أنهم لم يسترجعوا بعد حريتهم التي سلبها منهم نظام يعرف أنه ينتمي إلى الأسرة الثورية التي حررت البلد من الاستعمار. كتب التاريخ الرسمية لا تزال تعلّم التلاميذ أن عبان رمضان شهيد وأن العقيدان سي الحواس وعميروش شهيدان، ولا تقول لهم إن الذين قتلوا الشهيد عبان رمضان هم رفاقه في النضال الذين صاروا بعد الاستقلال يحكمون البلد، ولا تقول لهم إن الشهيدين سي الحواس وعميروش قتلا في ظروف غامضة وبقي رفاتهما محجوزا داخل قبو قيادة الدرك الجزائري لأزيد من عشرين سنة ثم أفرج عن جثتيهما ليعاد دفنها في مقبرة الشهداء من دون أن يحاسب أحد أو يحاكم على ذلك، بل إن الذين فعلوا بهما ذلك والذين شاركوا والذين تستروا على هذا الفعل ظلوا جميعا ضمن علية القوم ومحسوبين على فئة المناضلين الشرفاء والمجاهدين الأبطال. متى شهدت الجزائر انتخابات ديمقراطية ونزيهة حملت إلى سدة الحكم رجالا أو نساء اختارهم الشعب ومارسوا حكمهم؟ منذ السنتين الأوليين اللتين تلتا الاستقلال والجزائريون ينامون ويستيقظون على طائفة من الحكام يتقاتلون بينهم ويتناوبون على الحكم بعيدا عن أعين ورغبة الشعب. خمسون سنة لم يتمكن الجزائريون فيها من اختيار حكامهم بطريقة ديمقراطية ونزيهة، حكام متسلطون وكارهون لشعبهم وطبقة سياسية مرجفة لا يهمها إلا أن تظل في السلطة أو محتمية تحت جناحيها. ضحكت كثيرا عندما سمعت مسؤولين في الحكومة الجزائرية يشترطون على المجلس الانتقالي الليبي أن يشكل حكومة تمثل جميع الليبيين مقابل الاعتراف به كسلطة شرعية وممثلا وحيدا للشعب الليبي، ولم يتلاش هذا الكلام من الهواء حتى سارع أهل الحكم في الجزائر إلى إعلان اعترافهم بالنظام الليبي الجديد، والغريب أن الإعلان جاء علنا من الولاياتالمتحدة وحتى قبل أن يتحقق شرط تأسيس الحكومة الوطنية الممثلة لكافة أطياف ومناطق ليبيا. ومن يسمع مثل هذا الشرط لا يساوره شك أبدا في أن خمسين سنة من الاستقلال لم تسمح بعد للنظام بتشكيل حكومة يجد فيها كل الجزائريين أنفسهم. نعيب ونعيّر ثوار ليبيا على تهافتهم من أجل اقتسام غنائم البلد ونهب ثرواتها، ولم نستح من قول هذا ونحن نرى النظام الحاكم في الجزائر يعيث في خيرات البلد فسادا ونهبا، وغالبية الشعب تعاني حالات من الغربة الذاتية والفقر و(الميزيرية)، نظام بنى لنفسه جدارا عازلا وجعل بينه وبين الشعب حاجزا ماديا من خلال إقامة منطقة محمية يعيش فيها رجالاته وأهاليهم ومن لف حولهم، ومعنويا من خلال بذل كل الحيل والخدع من أجل إبقاء الشعب بعيدا عن مصدر القرار. ألا يحق لنا بعد هذا أن نتوجه إلى مداخل بيوتنا فنكنسها ونترك الليبيين يتوّجون ثورتهم بنصر مبين ويبنون مستقبلهم كما يحلو لهم، فإن نجحوا فطوبى لهم وإن أخفقوا فلن يكونوا أسوأ من جيرانهم وأشقائهم ولا من عقيدهم.