متى أكلها الإنسان.. وكيف..؟ هذه الكسرة التي تسد الجوع، وتقيم الحياة.. نكدّ من أجلها ونعمل، نجري وراءها ونسعى، من أجلها نهادن ونحارب، وفي سبيلها نصادق ونعادي.. هذه الكسرة الرخيصة الغالية لا يعرف تاريخها على وجه التحديد إلا الله، لأن بدايتها قرينة بكشف الإنسان لفكرة الرحى في أبسط أشكالها.. مجرد حك حجر فوق حجر لسحق ما بينما من حب.. ولا يسجل التاريخ أن الإنسان وفق إلى فكرة حك الحجارة هذه إلا منذ حوالي 75.000 سنة، ولم يكن حجم الحجارة المستعملة إذ ذاك من الكبر بحيث يسمح بسحق الحب.. ولم يتمكن الإنسان من الوصول إلى الحجم المناسب لهذا الغرض إلا منذ 12.000 سنة مما يمكننا من أن نفترض أن الحبوب كانت تشكل إذ ذاك عنصرا أساسيا من عناصر غذاء الإنسان. والمعروف على وجه التأكيد أن الهنود (الحمر) جنوبي كاليفورنيا Oak Grave Indians. كانوا يسحقون الغلال وحبوب "جوز البلوط"، ليصنعوا من دقيقها نوعا الخبز البدائي منذ 10.000 سنة.. كما أن هناك من الدلائل ما ينبئ بأن سكان البحيرات السويسرية كانوا قد توصلوا حوالي ذلك الوقت إلى بناء أفران بدائية، خبزوا فيها القمح. وما إن تنبه الإنسان إلى أن الحبوب مادة صالحة لصنع الخبز، حتى زاد اهتمامه بعلاج تلك الحبوب، وبخاصة القمح والشعير في المناطق التي كانت تجود بمحاصيلها، كسفوح الجبال في العراق وإيران، وفي جنوبي تركيا، وفي الجليل شمالي فلسطين القديمة.. وتوصل الإنسان إلى درس الغلال وذرها في الهواء للتخلص من فضلاتها، ولاشك أن أول أنواع الخبز الذي عرفته تلك البلاد كان مصنوعا من حب مسحوق عجن بالماء، وخبز على حجر ساخن أو جفف في الشمس. ولعل أول سجل مصور للخبز البدائي هو ما وجده الآثاريون في مقابر قدماء المصريين، وهو سجل يرجع إلى الأسرة الخامسة أي حوالي 2.600 ق.م. وهو مجموعة من الرسوم توضح عملية الطحن، وصناعة الخبز من ساعة نقل الحبوب من مخازنها إلى سحقها على الحجارة، ثم نخلها وخلطها وعجنها، ثم خبز العجين في قدور كبيرة. والمصريون القدماء هم الذين اكتشفوا فكرة تخمير العجين، وهم الذين صنعوا الأفران المتعددة الخلايا التي مكنتهم من خبز عدد كبير من الأرغفة في وقت واحد، بدرجة واحدة.. كما أنهم كانوا أول من فكر في نخل الدقيق وفي فصل الدقيق الأبيض عن الدقيق الأسمر.. فكانوا يصنعون خبز الأسياد من الدقيق الأبيض، وخبز الطبقات الدنيا من الدقيق الأسمر. (مع العلم أن أطباء الجهاز الهضمي اليوم ينصحون بتناول الخبز الأسمر"Pain Intégrale" لما له من منافع صحية). على أن فن الخبز لم يتطور تطورا سريعا إلا في ظل الحضارة اليونانية.. وكان أهل اليونان أول من أضاف مواد مختلفة إلى الدقيق ليصنعوا منه مختلف أنواع الخبز.. وتطور فن الخبز في اليونان، وتقدم بدرجة ملحوظة.. على أن حذق اليونانيين لفن الخبز كان وبالا على بعضهم فيما بعد، إذ أن الرومان كانوا إذا أسروا يونانيا في حروبهم سخروه في الخبز والإشراف على مخابزهم. ومارس أهل روما الخبز على نطاق تجاري واسع، ساعدهم فيه تطوير الطاحون المعروفة باسم طاحون الساعة الرملية Hourglass Mill التي كانت تنتج كمية من الدقيق تجعل ممارسة الخبز على نطاق تجاري أمرا ممكنا. والمعروف أنه – في أيام ولد السيد المسيح عليه السلام – كان في روما ما يعرف بطاحون ومخبز لكل ألفي نسمة من السكان، وأصبح من الممكن لكل من هذه المخابز – فيما بعد – أن يستوعب 50.000 رطل من الدقيق يوميا، وهي كمية كبيرة حتى إذا قيست بما تستطيعه مخابزنا هذه الأيام. وفي أواخر القرن السادس عشر استعمل الخبازون في إيطاليا رغوة البيرة خميرة للعجين، ذلك على الرغم من أن بليني Pliny أشار في كتاباته إلى أن أهل بلاد الغال وأهل إسبانيا استعملوا كخميرة لخبزهم، رغوة البيرة في القرن الأول الميلادي. لم تتغير الأسس التي قامت عليها فكرة صناعة الخبز المخمر منذ عرفها قدماء المصريين في كثير أو قليل.. وكل ما هناك أن تعديلات أدخلت على تلك الصناعة في القرن التاسع عشر وبعده، فظهرت طرق الطحن الآلي، وهي أقدر على تزويد الخباز بدقيق أكثر نقاء، وأنصع بياضا مما عرف الإنسان قبل ذلك، ثم ظهور أنواع "خميرة الخبز" الخاصة التي أصبحت في متناول ربة البيت والخباز جميعا في صورة مادة مضغوطة، قليلها يكفي لتخمير كميات كبيرة من العجين. من المعروف أن أكثر من 90% من الخبز الذي يستهلك في الولاياتالمتحدة تنتجه مخابز آلية، تعمل على نطاق تجاري مذهل. أما بقية ما يستهلك فتنتجه الأفران الخاصة التي يديرها خبازون مهرة، يعتمدون على اليد العاملة في عجن الدقيق، وهي أهم عمليات تحضير الخبز.. وتعتمد المخابز التجارية في أمريكا وأروبا اعتمادا كليا على الآلات. فالدقيق تحمله عربات وتفرغه معدات تعمل بالهواء المضغوط في خزانات ضخمة، حيث يخلط خلطا آليا بالماء وغيره من المواد.. فإذا اختمرت العجينة حملت على حزام متحرك يمر تحت قواطع تجزئه إلى أرغفة متساوية الحجم والوزن، تحمل بعد ذلك آليا إلى الفرن أو المبخرة. إذا قيل أن الخبز قوام الحياة، فإن هذا القول لا يجافي الحقيقة العلمية، إذ لو أخذنا حبة القمح (القمح الطري) وحللناها لوجدنا أنها تحتوي على 12% ماء و12% بروتين، و2% دهن، و70% نشويات و1,8% أملاح و2,2% ألياف والمائة غرام من القمح تكسب الجسم حرارة مقدارها 330 سعرا حراريا. إذا مررت بخباز يدحو (يبسط) رُقاقة فاعلم أنه يمارس مهنة شريفة مارسها الناس قبل مولد المسيح عليه السلام. واعلم كذلك أن مر الزمن لم ينقص من حق الفرد على الدولة أن تهيئ له فرصة العمل الشريف ليكسب لقمة العيش.. فإذا حرمت الظروف هذا الفرد أو ذاك نعمة الحصول على العمل، أو سلبته متعة القدرة على أدائه، فواجب الدولة أن توفر له اللقمة وادامها، دون أن تشعره أنه يستجدي، أو أن أحدا يتصدق عليه. ولست أعرف مقياسا لتقدم الدول خيرا من لقمة العيش، ومدى توافرها للأفراد، وما يلقون من عنت أو يصادفون من يسر وهم يسعون وراءها.. أو حين يقعدهم المرض أو الشيخوخة عن كسبها. ==..==..==..==.. والله الموفق 2015-01-17 محمد الشودري