إذا كان من الواجب على كل مواطن مغربي غيور على بلده وحامل لهمّ تقدّمه السياسي والحضاري وتنميته الاقتصادية أن ينتقد كل مظاهر الفساد السياسي والمالي ويقاوم كل أشكال الظلم والاستبداد التي قد تصدر من أشخاص نافذين في هرم السلطة أو مسؤولين عن تدبير الشأن العام، وهي مظاهر وأشكال موجودة وحاضرة بنوع من النسبية في واقعنا المعاش، فإنه من الواجب على ذلك المواطن كذلك أن يقف وقفة حازمة وصارمة في وجه كل الأفكار والمواقف الشعبية والشعبوية السائدة في دروبنا وأحيائنا وشوارعنا والتي تنهل من ثقافة الريع والفوضى العامة وعدم المبالاة بتطبيق القوانين الوطنية وبهيبة الدولة التي هي من هيبة القوانين. ويبقى من الضروري هنا الإشارة إلى أن المطالبة باحترام هيبة الدولة واحترام القوانين الوطنية بما تشمله من حقوق وواجبات لا يعني بالضرورة الانبطاح لمن تمت تسميتهم بالعفاريت والتماسيح من قبل أحد كبار الشعبويين في البلاد، فالقوانين يجب أن تسري على جميع المواطنين ب"كبارهم" و"صغارهم"، واحترامها يعني احترام الذات الوطنية واحترام المجتمع الذي نعيش في خضمّه ونتقاسم فيه مع أفراده نفس الانشغالات كما يجب أن نتقاسم فيه معهم نفس الموارد والمكاسب المادية والمعنوية، فالدولة لا تتشكّل فقط من المؤسسات التمثيلية والتدبيرية كرئيس الدولة والوزراء والبرلمان وغيرها من المؤسسات التي تمارس أدوارا وظيفية حسب المفهوم المعاصر للدولة، وإنما تتشكّل كذلك من مجتمع مدني ومن الشعب الذي يعتبر ركنا أساسيا من أركان وجود الدولة بل إنه يعتبر _بحكم نفس المفهوم المعاصر للدولة_ منبعا أصليا للتشريع. وما الحكام إلا انعكاس مباشر للشعوب ولطبيعتها، فإذا كان الحكام والمسؤولون عن تدبير أمور الدولة فاسدين أو مقصّرين في حق بلدانهم فذلك لأن محكوميهم يستحقون ما هم عليه من أوضاع، وأما إذا كان الحكام مصلحين ونزيهين ومتفانين في تحقيق مصلحة بلادهم ومصالح مواطنيها فذلك لأنهم نتاج لشعوب صالحة وبناءة وعاملة ومجتهدة في محيط تسود فيه ثقافة المساواة في الحقوق والواجبات وتسود فيه قيم الحرية والعدالة الاجتماعية، إذ أن البنية الثقافية للمجتمعات هي الموجّه الأساس والداعم لاختياراتها وهي السبيل الذي يجعلها تقبل أن يتولى أمورها حكام فاسدون ومستبدون أو تنتفض عليهم وتضع بدلا منهم آخرون أفضل منهم بتعريف الفكر السياسي المعاصر الذي يضع المواطنة الحقة فوق كل الاعتبارات، وكم من توازنات حصلت بفعل الطبيعة الانسانية والمجتمعية التي فرضت توجّه الشعوب إلى الإصلاح بشكل هادئ أو بثورة عارمة في حالة وقوف الحكام ضد إرادتهم، بينما تجد من الصعب على الحكام _إن كانوا مصلحين_ أن يتجّهوا بشعوبهم إلى الإصلاح لو لم تكن لدى تلك الشعوب ثقافة سائدة تقبله وتسعى وراءه، بل إن الكوابح الأولى لكل إرادة فوقية للإصلاح (إرادة الحاكم) تنطلق دائما من محيطها الضيق (من بطانة الحاكم) حيث تسعى إلى محاصرتها ومنع نفاذها داخل شرايين المجتمع قبل أن يصل مفعولها إلى أفراده في مختلف بقاع الدولة، مثلها في ذلك كمثل الفطريات التي تتشكل حول الأشجار في الغابة لأن المحيط الفطري أو البدائي للغابة هو الذي يجعلها تنمو بشكل تلقائي وتصنع منظومتها المتشعّبة والملتفة حول جذور الشجرة. وبهذا فإن الشعب المغربي يبقى مطالبا اليوم ، إن أراد أن يكون إصلاحيا_ بأن يثور على نفسه وعلى عاداته السيئة وتقاليده البدائية المشينة ثورة ثقافية شاملة من شأنها انتشاله من مظاهر الفوضى العارمة والريع والفساد المعيشي بكل أشكاله، وهذه ضرورة ملحة لا بديل له عنها إن هو أراد أن يلتحق بركب المجتمعات المتحضرة التي تسود فيها ثقافة العدالة والحرية والمساواة في الحقوق والواجبات، نعم إننا اليوم مطالبون بالانتفاضة في وجه الراشي والمرتشي وفي وجه التهريب وفي وجه احتلال الملك العمومي والبناء العشوائي وفي وجه العنف الأسري والعنف السائد في الأزقة والمدارس والجامعات وفي وجه شراء الأصوات والذمم في الانتخابات وفي وجه كل التصرفات الهدامة والأمراض المجتمعية التي تعيق تقدم الأمم وسلامتها. وفي المقابل تبقى مؤسسات الدولة من جهتها مسؤولة عن التوجيه الثقافي للمجتمع بغية تفادي الجمود الفكري والفراغ الثقافي الذي يسمح للأفكار الهدّامة والنزعات الفوضوية بالانتشار فتصير لازمة لكل أفراد المجتمع بالطبع والتطبّع، كما أنها تبقى مسؤولة عن حماية تعليم الأجيال القادمة في توافق ما بين الهوية المغربية الأصيلة وبين تطور الحضارة والعلوم الانسانية، وفوق هذا لابد لأجهزة الدولة المتمثلة في السلطة العمومية على وجه الخصوص أن تخرج بنفسها من قوقعة الهاجس الأمني الذي يجعل من وزارة الداخلية أم الوزارات فيحمّلها ما يجب أن تتحمله باقي الوزارات من اختصاصات لذلك تجد القياد والباشاوات مثلا مطالبين بالمواجهة مع المخالفين لقوانين التعمير والتهيئة وقرارات المجالس البلدية وقانون الشغل وكل المجالات الحيوية في الوقت الذي يجب على مؤسسات وإدارات أخرى داخل الدولة أن تكون قوية ومحمية بالقوة العمومية اللازمة لتقوم بهذا الدور بدلا منهم. وفي الأخير نرجع دائما، عند الحديث عن الإصلاح، إلى الآية الكريمة من سورة الرعد التي يقول فيها الله عزّ وجلّ: "إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم". صدق الله العظيم.