في الوقت الذي يُعاد فيه إحياء فكرة النفق البحري تحت مضيق جبل طارق، يعود النقاش حول المشروع القديم ليطرح تساؤلات جديدة عن توقيته وأبعاده. فبينما تضعه إسبانيا في واجهة خطابها السياسي والاقتصادي، يثير في المغرب جدلًا هادئًا حول الجدوى والأولويات. المشروع الذي طُرح لأول مرة قبل عقود، يمتد على 42 كيلومترًا منها 27 كيلومترًا تحت البحر، وتقدَّر تكلفته الأولية بين 6 و8 مليارات يورو. غير أن مساره لا يزال في مرحلة الدراسات، وسط غياب التزامات مالية واضحة، وتحديات تقنية وجيولوجية كبيرة تطرح أكثر من علامة استفهام. وبينما تواصل الرباط استثمارات ضخمة في الموانئ والقطارات السريعة والربط الجوي، يبقى التساؤل مطروحًا حول ما إذا كان النفق يمثل إضافة حقيقية لموقع المغرب الاقتصادي، أم أنه رهان بعيد المدى يخدم بالدرجة الأولى حسابات مدريد. الموانئ تسبق النفق النقاش حول النفق لا يمكن فصله عن التحولات الكبرى في الموانئ المغربية، وفي مقدمتها ميناء طنجة المتوسط. هذا الأخير لم يعد مجرد مشروع وطني، بل تحول إلى مركز إقليمي لإعادة شحن البضائع، بأرقام تجاوزت عشرة ملايين حاوية و142 مليون طن من البضائع في 2024، متفوقًا لأول مرة على ميناء الجزيرة الخضراء الإسباني. لكن نجاح الميناء لا يفسَّر بمعزل عن البنية المحيطة به. شبكة الطرق السيارة التي تتجاوز 1,800 كيلومتر جعلت منه جزءًا من منظومة متكاملة تربطه بالمراكز الصناعية الكبرى كالدار البيضاء والقنيطرة. ومن هذه العقد، ينطلق القطار فائق السرعة "البراق" ليمنح الربط بعدا إضافيا، مختصرا المسافات بين الشمال والوسط في أقل من ثلاث ساعات. هذه الصورة تكشف أن المغرب يمتلك بالفعل شبكة نقل فعالة ومتعددة القنوات، وهو ما يجعل أي مشروع جديد مطالبا بتقديم قيمة مضافة واضحة بدل تكرار المسارات القائمة. فاتورة غير محسوبة غير أن السؤال لا يتوقف عند فعالية البنية الحالية، بل يتجه مباشرة إلى كلفة النفق والمخاطر المحيطة به. فالمشروع يمر في منطقة زلزالية عميقة تصل إلى أكثر من 300 متر، وسط طبقات رسوبية معقدة تزيد من صعوبة التنفيذ. وتظهر تجارب مشابهة عالميًا، مثل نفق المانش بين فرنسا وبريطانيا، أن التقديرات الأولية غالبا ما تتضاعف. المانش كلّف أكثر من 15 مليار دولار بأسعار التسعينات، رغم أن ظروفه الجيولوجية أقل تعقيدًا من مضيق جبل طارق. وهنا يبرز عنصر التمويل. فمدريد لم ترصد سوى 1.6 مليون يورو لدراسة جديدة في 2025، وهو رقم لا يعكس استعدادا ماليا لمشروع بهذا الحجم. أي تنفيذ فعلي سيعتمد بالضرورة على دعم الاتحاد الأوروبي وربما مؤسسات تمويلية دولية. بالنسبة للمغرب، هذه الأرقام تفتح سؤالا أوسع: هل من الأجدى توجيه 7 أو 8 مليارات يورو إلى مشروع محفوف بالمخاطر، في وقت يمكن للمبلغ نفسه أن يمول تمديد القطار فائق السرعة إلى مراكش وأكادير بما يربط 70% من السكان بالشبكة السريعة، أو أن يرفع الاستثمارات في الطاقة المتجددة ليجعل المغرب مصدرا رئيسيا للكهرباء الخضراء نحو أوروبا؟ البعد السياسي ومثلما تعقّد الأرقام الحسابات، فإن السياسة تضيف طبقة أخرى من التعقيد. فالنفق ليس مجرد مشروع هندسي، بل ورقة جيوسياسية بامتياز. بالنسبة لإسبانيا، يشكل فرصة لإعادة تموقعها داخل الاتحاد الأوروبي كبوابة رسمية نحو إفريقيا، ويمنح جنوبها المهمش استثمارات جديدة وفرص تشغيل. كما يتيح لها منافسة فرنسا وإيطاليا على النفوذ في الضفة الجنوبية للمتوسط. أما في المغرب، فالمقاربة أكثر براغماتية. أي نفق سيُدار ضمن ترتيبات طويلة الأمد في مجالات الأمن والجمارك والتشغيل، وهو ما يطرح سؤال السيادة في ظل استمرار ملفات خلافية مثل سبتة ومليلية واتفاقيات الصيد البحري. ومع أن الرباط لا تغلق الباب أمام المشروع، إلا أنها تدرك أن موقعها الاستراتيجي يجعل القرار النهائي بيدها، ما يمنحها ورقة تفاوضية مهمة. بهذا المعنى، يظهر أن المشروع يخدم أولا حاجة إسبانية رمزية واقتصادية، في حين يتعامل المغرب معه كخيار بعيد المدى، يمكن التفكير فيه إذا توفرت الشروط التقنية والمالية والسياسية، لكنه ليس أولوية في الوقت الراهن أمام دينامية البنى التحتية القائمة.