تجر خلفها "تلة" صغيرة من الأسمال البالية وتلتحف معطفا فقد لونه الأصلي منذ زمن طويل، تفوح منه رائحة الرطوبة والشارع. إنها "سيدة الأسمال"، كما يسميها البعض، وجه مألوف في شوارع طنجة، تجوب الأرصفة جيئة وذهابا، تحتمي بتلك "الخردة" العفنة من برد الليل، لكن لا أحد يعرف قصتها الحقيقية، ولا كيف قادتها أقدار الحياة من دفء بيت محتمل إلى هذا العراء القاسي. هذه المرأة، التي ترفض الحديث وتكتفي بتمتمات غير مفهومة، ليست سوى "رأس جبل الجليد" لظاهرة متنامية تؤرق عاصمة البوغاز؛ ظاهرة لم تعد تقتصر على المتشردين الكلاسيكيين، بل باتت تشمل جيلا جديدا من ضحايا الإدمان والهشاشة النفسية، الذين حولوا الفضاءات العامة، إلى ملاجئ مفتوحة. ويصف اسماعيل العشيري، الناشط الجمعوي المتخصص في حماية الطفولة، هذا المشهد بمرارة، معتبرا أن "تلك المرأة التي نراها يوميا هي الشاهد الصامت على فشلنا الجماعي"، مضيفا أن المدينة لا تواجه مجرد أزمة سكن، بل تواجه "انهيارات نفسية واجتماعية عميقة، حيث لم يعد الشارع في طنجة مجرد مكان للمبيت، بل أصبح فضاء لتصريف أزمات الإدمان والمرض العقلي بعيدا عن المؤسسات العلاجية". وفي الوقت الذي تتناسل فيه القصص المأساوية في أزقة المدينة، تغيب الأرقام الدقيقة التي يمكن أن تؤطر حجم الكارثة، فالمغرب لا يزال يعتمد رسميا على إحصائيات المندوبية السامية للتخطيط التي تعود لعام 2014، والتي حصرت عدد الأشخاص بدون مأوى في حوالي 7200 شخص وطنيا، بينما تبدو الظاهرة في طنجة اليوم أكبر بكثير مما تعكسه الأرقام القديمة، مما يجعل الفاعلين أمام "نقطة عمياء" إحصائيا تعيق رسم استراتيجيات دقيقة. وأمام هذا الوضع، تبدو البنية التحتية للاستقبال في طنجة محدودة رغم الجهود المبذولة، إذ يوفر "مركز الإدماج الاجتماعي سيدي بوعبيد"، الذي يعد أحد أهم ثمار المبادرة الوطنية للتنمية البشرية وافتتح في 2021، حوالي 56 سريرا للراشدين، ورغم أهميته القصوى وجودة خدماته التي تشمل الإيواء والتغذية، إلا أنه يظل عاجزا عدديا عن استيعاب "جيش" المشردين الذين يملؤون جنبات المدينة ليلا. ويعلق العشيري على هذه الفجوة قائلا إن توفر مدينة مليونية مثل طنجة على بضع عشرات من الأسرة للراشدين هو أمر "يطرح أكثر من علامة استفهام"، مشيرا إلى أن "المراكز موجودة، لكن وتيرة السقوط في الشارع أسرع بكثير من وتيرة الإدماج". وتلجأ السلطات بانتظام، خاصة مع انخفاض درجات الحرارة كما حدث مطلع دجنبر 2025، إلى تنظيم حملات لجمع الأشخاص في وضعية الشارع وإيداعهم في مؤسسات الرعاية الاجتماعية، وهي حملات تصفها التقارير الرسمية ب"الإنسانية والوقائية"، لكن المتابعين ينظرون إليها بعين النقد لكونها حلولا مؤقتة. ويشرح العشيري هذه المعضلة ل"طنجة 24″ موضحا أن المدينة تدور في حلقة مفرغة، حيث تقوم الحملات الموسمية أو الأمنية ب"تنظيف" الواجهة لفترة قصيرة دون معالجة الجذور، وبمجرد أن ينتهي البرد أو تخف الحملة، يعود هؤلاء الأشخاص إلى نفس الزاوية ونفس الرصيف، لغياب علاج حقيقي للإدمان ومواكبة نفسية طويلة الأمد. وبين تلك المرأة التي تجر أسمالها بصمت، والجهود الرسمية التي تحاول احتواء الوضع بإمكانيات محدودة، تظل شوارع طنجة مسرحا مفتوحا لمعاناة إنسانية تنتظر حلولا تتجاوز "الإيواء الظرفي" إلى "الإدماج المستدام".