طنجة: سخان ماء يتسبب في حريق.. وتدخل عاجل للوقاية المدنية يجنّب المأساة    احتراق شاحنة على الطريق السيار طنجة المتوسط    الزلزولي يساهم في فوز بيتيس    "أشبال المغرب" يستهلون كأس إفريقيا بفوز شاق على منتخب كينيا    دفاع الجديدة يعود بالتعادل من بركان    منتجو الفواكه الحمراء يخلقون أزمة في اليد العاملة لفلاحي إقليم العرائش    هل بدأت أمريكا تحفر "قبرها العلمي"؟.. مختبرات مغلقة وأبحاث مجمدة    متطوعون ينقذون محاصرين بزاكورة    الدمناتي: مسيرة FDT بطنجة ناجحة والاتحاد الاشتراكي سيظل دائما في صفوف النضال مدافعا عن حقوق الشغيلة    تيزنيت: الاتحاد الوطني للشغل بالمغرب ينظم تظاهرته بمناسبة فاتح ماي 2025 ( صور )    عندما يهاجم بنكيران الشعب.. هل زلّ لسانه أم كشف ما في داخله؟    وزراء خارجية "البريكس" وشركاؤهم يجتمعون في ريو دي جانيرو    في عيد الشغل.. أمين عام حزب سياسي يتهم نقابات بالبيع والشراء مع الحكومة    صادرات الفوسفاط بقيمة 20,3 مليار درهم عند متم مارس 2025    تنفيذ قانون المالية لسنة 2025.. فائض خزينة بقيمة 5,9 مليار درهم عند متم مارس    كلية الناظور تحتضن ندوة وطنية حول موضوع الصحة النفسية لدى الشباب    القهوة تساعد كبار السن في الحفاظ على قوة عضلاتهم (دراسة)    وفاة سبعيني بعد اندلاع حريق داخل منزله بتزوراخت نواحي اقليم الحسيمة    فوائد القهوة لكبار السن.. دراسة تكشف علاقتها بصحة العضلات والوقاية من السقوط    نشرة إنذارية: زخات رعدية وهبات رياح قوية مرتقبة بعدد من أقاليم المملكة    كرة القدم.. برشلونة يعلن غياب مدافعه كوندي بسبب الإصابة    توقيف لص من ذوي السوابق لانتشاله القبعات بشوارع طنجة    لماذا أصبحت BYD حديث كل المغاربة؟    عمر هلال يبرز بمانيلا المبادرات الملكية الاستراتيجية لفائدة البلدان النامية    رحيل أكبر معمرة في العالم.. الراهبة البرازيلية إينا كانابارو لوكاس توفيت عن 116 عاما    المركزيات النقابية تحتفي بعيد الشغل    "تكريم لامرأة شجاعة".. ماحي بينبين يروي المسار الاستثنائي لوالدته في روايته الأخيرة    باحثة إسرائيلية تكتب: لايجب أن نلوم الألمان على صمتهم على الهلوكوست.. نحن أيضا نقف متفرجين على الإبادة في غزة    موخاريق: الحكومة مسؤولة عن غلاء الأسعار .. ونرفض "قانون الإضراب"    الحكومة تطلق خطة وطنية لمحاربة تلف الخضر والفواكه بعد الجني    المغرب يجذب استثمارات أجنبية مباشرة بقيمة 9.16 مليار درهم في ثلاثة أشهر    تقرير: المغرب بين ثلاثي الصدارة الإفريقية في مكافحة التهريب.. ورتبته 53 عالميا    أمل تيزنيت يرد على اتهامات الرشاد البرنوصي: "بلاغات مشبوهة وسيناريوهات خيالية"    معرض باريس.. تدشين جناح المغرب، ضيف شرف دورة 2025    المملكة المتحدة.. الإشادة بالتزام المغرب لفائدة الاستقرار والتنمية في منطقة الساحل خلال نقاش بتشاتام هاوس    عادل سايح: روح الفريق هل التي حسمت النتيجة في النهاية    تسارع نمو القروض البنكية ب3,9 في المائة في مارس وفق نشرة الإحصائيات النقدية لبنك المغرب    فيدرالية اليسار الديمقراطي تدعو الحكومة إلى تحسين الأجور بما يتناسب والارتفاع المضطرد للأسعار    أغاثا كريستي تعود للحياة بفضل تقنيات الذكاء الاصطناعي    دول ترسل طائرات إطفاء إلى إسرائيل    السكوري بمناسبة فاتح ماي: الحكومة ملتزمة بصرف الشطر الثاني من الزيادة في الأجور    توقعات أحوال الطقس ليوم الخميس    دوري أبطال أوروبا (ذهاب نصف النهاية): إنتر يعود بتعادل ثمين من ميدان برشلونة    أكاديمية المملكة تشيد بريادة الملك محمد السادس في الدفاع عن القدس    الدار البيضاء ترحب بشعراء 4 قارات    محمد وهبي: كأس أمم إفريقيا لأقل من 20 سنة (مصر – 2025).. "أشبال الأطلس" يطموحون للذهاب بعيدا في هذا العرس الكروي    طنجة .. كرنفال مدرسي يضفي على الشوارع جمالية بديعة وألوانا بهيجة    فيلم "البوز".. عمل فني ينتقد الشهرة الزائفة على "السوشل ميديا"    مهرجان هوا بياو السينمائي يحتفي بروائع الشاشة الصينية ويكرّم ألمع النجوم    مؤسسة شعيب الصديقي الدكالي تمنح جائزة عبد الرحمن الصديقي الدكالي للقدس    حقن العين بجزيئات الذهب النانوية قد ينقذ الملايين من فقدان البصر    اختبار بسيط للعين يكشف احتمالات الإصابة بانفصام الشخصية    دراسة: المضادات الحيوية تزيد مخاطر الحساسية والربو لدى الأطفال    التدين المزيف: حين يتحول الإيمان إلى سلعة    مصل يقتل ب40 طعنة على يد آخر قبيل صلاة الجمعة بفرنسا    كردية أشجع من دول عربية 3من3    وداعًا الأستاذ محمد الأشرافي إلى الأبد    قصة الخطاب القرآني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العراق الساكن بين اللفظ والمعنى في "حفلة تنكرية "
نشر في طنجة الأدبية يوم 26 - 05 - 2012

" لو حصل أن تهدم نظامنا الاجتماعي ، فإننا سنحتاج إلى قرون لإنشاء نظام آخر...."
دوركهايم
حين قرأت المجموعة القصصية "حفلة تنكرية " للقاص العراقي عامر هشام الصفار، ربطت مقولة " دوركهايم" بما حصل ويحصل في العراق ، ماضيه بحاضره ، فانتبهت إلى أن السارد طبيب جراح في الأصل قبل أن يكون قاصا وساردا ، اجتاحتني متعة ما - رغبة ما - فرجعت إليها ثانية لأنبش بين صفحاتها.
وجدت أن نصوص المجموعة في عموميتها تتوزع مكانيا بين : ستوكهولم - دبي - الأردن - مطار هيثرو ( في إشارة إلى الترحال الدائم وعدم الاستقرار) باريس - ولندن. وهي نفسها الأماكن التي يرتادها العراقيون المبعدون بشكل أو بآخر(المهاجرون - المنفيون - طالبو اللجوء السياسي - ...) وبين العراق الذي يتكرر كلازمة في قصص متفاوتة الطول والقصر، من القصة القصيرة فالقصة القصيرة جدا ، إلى التي لا تتجاوز سطرا أو أقل منه : " عندما تفتحت الورود... تركت النحلة البستان" (ص53٭). فارتأيت أن أبتعد قليلا عن اللغة وأركز على التفاصيل الصغيرة ، تفاصيل حارقة بمفردات رغم ثقلها ، لا تتحمل عبء أكثر من معنى : " تسأله : لماذا يتعب نفسه بهذه البحوث ...؟ " (ص٭9). القصص جاءت أيضا في غالبيتها بعفوية ، وكأنها عن قصد لتعري الكثير من الجوانب المخفية بين لغة السلطة ولغة الفكر. فالسياسيون عادة ما يقومون بتزييف الواقع ، من خلال خلق آخر للتحكم فيه بعد ذلك . كما أن الكثير من القصص مسكونة بالغزو / الاحتلال الأمريكي ، وما خلفه من دمار في كل البنيات الأساسية : سياسية - اقتصادية - اجتماعية وأيضا نفسية .
قصص في عموميتها تحرك ثورة ناعمة وصامتة ضد واقع غير مرغوب فيه ، لتخليص البلد من حمامات الدم التي يسبح فيها ، و أيضا رفض لوهم يبيع الديمقراطية والرفاهة و" التحرر" بالمجان. حرب طاحنة في كل قصص المجموعة بين لغة السرد التي تنتصر للقيم والعدالة والجمال ، ولغة أخرى تنتصر للقبح والسلاح والدم ، مع إعلام موجه ينطوي على الكثير من المغالطات. وضوح للمعنى في قصص ليس همها جمالي بالدرجة الأولى ، بقدر ما هو " إلقاء الضوء على حدث كبير أو صغير" (1)، مع تكثيف وعمق في إستراتيجية السرد التي لا غموض ولا لبس فيها ، وتمرد على البناء التقليدي أحيانا لهذه الإستراتيجية ، لوخز ذهنية القارئ واستفزاز مشاعره ، وفضح مأساة العلماء والمفكرين والمبدعين العراقيين المشتتين في العالم " يذهب لإحدى الجامعات الصينية محاضرا ..." . والأكيد أن السارد لا يتحدث هنا إلا عن هؤلاء الأطباء مثله من ذوي التخصصات العالية الدقة ، وإلا ما معنى أن يحاضر طبيب عراقي في جامعة صينية بالتحديد ، ونحن نعرف أن الصين صاحبة تجربة تفوق آلاف السنين في الطب على الخصوص. إستراتيجية في عموميتها ليست عصية على التحليل ، ولا هي مفتونة بغموض النص ووعورته أو بالمركب والمرموز، نتيجة خبرة طويلة من الكتابة (بدأ يكتب في سن ال15 سنة). والقصد في قصصه يتم داخل سياق إسقاطي لحدث وقع في شوارع لندن أو غيره من الشوارع ، ليبني عليه حدثا آخر وقع في شوارع بغداد أو الموصل ، كما هنا في هذه الثنائية (ص18٭) حيث ينتقل بشخصياته في الحلم من : " بيت بيكاسو وسلفادور دالي وكوكان وهمنغواي ...وحيث الطاحونة الحمراء أو المولان روج... وخليلات بيكاسو والمشي تحت مطر باريس" ، ثم ينتقل في نفس الصفحة ليضع القارئ أمام صورة مشابهة على الضفة الأخرى حيث : " يلتقي الجواهري والسياب والرصافي... ويعرج على شارع أبو نواس الساهر حتى الصباح...". هذا التواصل الروحاني سيتواصل بين الجسد المتواجد في شوارع مالقا الإسبانية والروح المهاجرة في " الباص المفتوح تسير في شوارع الموصل الحدباء" (ص٭12) حيث " النبي يونس وشارع نينوى الجميل" . هو الحلم إذن للانفلات من قبضة الواقع والهروب منه ، حلم لا علاقة له بالزمان أو المكان ، لأن الأمر مختلف هنا بالنسبة لطبيب جراح يعيش حياة مفروض فيها أن تكون ميسورة ، لكنه حب الوطن في الغربة حيث تختفي الفوارق . غربة داخلية يعيشها أبناء العراق ، في وطن يسكنهم ويسكنون فيه رغم بعد المكان. كما أن السارد يحاول في كثير من القصص جعل عملية التحرير من " الديكتاتورية " حجة واهية وباطلة ، بل يثبت أنها عملية إجرامية خالصة بشكل من الأشكال ، وفق تصور ورؤية واقعية ، انطلاقا من أحداث بعينها يسوقها القاص وفق وعي سارد متمكن من آليات اشتغاله ، وبلغة سهلة ومطواعة ، لا لبس فيها ولا مجاز. كما أن انتماؤه للثقافة الغربية وتشبعه ببعض أفكارها (يقيم في إنجلترا منذ سنوات طويلة) ، لم ينسيه ثقافته الوطنية العراقية وقضايا أمته العربية. وهو ما أعطانا نصوصا أدبية أكثر غنى وفنية بمعانيها ورموزها الإنسانية الدالة.
" حفلة تنكرية " وإن كانت في أصلها مجمع من القصص القصيرة جدا ، إلا أنها ممتدة في فكرها وحدودها وفضاءاتها وعمقها الإنساني : " سر العالم في بئر...وسر الانقلابي على شفاه كل الناس" (ص٭65) .السارد هنا يعيد تجربة أطباء عرب كتبوا روايات جميلة جدا ، أخذت بلب القارئ العربي في سبعينيات القرن الماضي. كما أن مغادرته العراق إلى إنجلترا لم تكن مغادرة موطنية بمعناها العام للمغادرة ، فقد رحل من مكان ليحل بالمكان نفسه ، لأن العراق ساكن في وجدانه ، فكيف له أن يتحرر منه حتى لو غادره مكانيا ؟. أفكاره هي الأخرى لا ترحل من السطر الأول في القصة ، إلا لتصادفك في وسطها أو في آخرها دون مراوغة . لغة السارد هي الأخرى ، وفي أكثر من نص كما هي عند جيل دولوز ( جمعتني الصدفة بهما وأنا أقرأ لهما وعنهما معا) ذات فرادة خاصة ، إنها " تتولد بين قولين ، استجابة لحالة سماع ، وليست تعبيرا عن حس رؤيوي ، نسبة إلى البصرية ، إنها السمع القول " والقاص هنا يتعامل مع اللغة كدولوز الفيلسوف نفسه ، " يعاملها كحالة تجسد بنص النص الحقيقي". (2) كما أن القصص منسوجة في أغلبها على غرار ما نقرأ في السير الذاتية عبر متواليات قصصية ، يتعدد الأبطال فيها ويبقى العراق واحدا. وهذا ما يدفعنا إلى مقارنته في بعض الجوانب مع الكاتب الإيطالي أيتالو فالدو صاحب ( مدن غير مرئية) التي ( بين نسجه للمتواليات القصصية في مجموعته القصصية الكبيرة عن شخصية واحدة لجميع قصص المجموعة ، والأمر ينطلي كذلك على القاصة المغربية زهرة الزيراوي ، حيث تتعدد القصص وتتوحد البطلة في مجموعتها "حنين" (3).
السارد يوجد داخل النص كعراقي وكذا خارجه ، بحكم غربته البريطانية. لكنها الرغبة التي تدفع اللغة إلى القول والكتابة. الرغبة في فضح اللعبة داخل موطن النص الذي هو العراق ، فيدفعك دفعا إلى هجرة جمالية اللغة ، أمام هذه المساحات الشاسعة من القبح والألم والطنز الجارح . قبح فرضه واقع الاحتلال والفقر وتمزق الدين الواحد والوطن الواحد ، إلى ملل وأطياف غير متوحدين على شيء جميل : ( شيعة / سنة - مسلمين / مسيحيين - أكراد / عرب - ضد / مع التدخل الأجنبي -....). لكن متوحدين (دون رغبة منهم) على القتل والدم والتصفية الجسدية . بهذا المفهوم تكون نصوصه قد ابتعدت بشكل ما عن كل جمالية ممكنة ، حتى أن اسم بغداد كتبها ممزقة على غير العادة في نص الشبح (ص٭61) " يجيبه الشبح: أنها ب..غ..د..ا..د " في إشارة إلى التمزق الذي تعيشه بغداد كعاصمة والعراق كوطن.
من جهة أخرى نجد تقاطع الأجناس مع بعضها البعض ، كما هو الحال لدى الكثيرين من الفلاسفة بدءا من : أفلاطون - كانط - الفارابي - نيتشه - هايدجر- ... وغيرهما. فأفلاطون كان ناقدا ومنظرا للشعر، والفارابي كان فيلسوفا وطبيبا وموسيقيا ، وهيغل الفيلسوف نفسه كانت له إسهامات في الموسيقي والعمارة والشعر. فلا عجب إذن أن تكون للدكتور عامر هشام الصفار، الطبيب الجراح الأخصائي في الجلطة الدماغية ، إسهامات في الكتابة السردية والقصة القصيرة على وجه التحديد ، بصفتها الأكثر تداولا في عالم السرديات ، إن لم نقل هي " لغة العالم مستقبلا " (4) بحكم أن كل الأشياء تتجه نحو تصغير أشكالها بدءا من الحواسيب إلى السيارات ، وغيرها من حاجيات الإنسان المعاصر.
جيل دولوز هو الآخر كان فيلسوفا ، لكنه مارس النقد ، كما أن تجربة الكتابة السردية والشعرية مارسها المحامون والأطباء والمهندسون والفلاسفة ، ولنا في الفيلسوف المغربي عبد الله العروي مثلا . والهجرة من مهنة إلى أخرى و من جنس أدبي إلى آخر ليست وليدة اليوم ، فها هو الشاعر المغربي حسن نجمي يحط في مرسى الرواية ، ويفوز بجائزة الكتاب لموسم 2012 عن روايته " جيرترود" ، ومن قبله هاجر الشاعر المغربي محمد الأشعري مؤقتا ( ترأسا معا اتحاد كتاب المغرب) إلى عالم الرواية وفاز بجائزة " البوكر العربية " عن روايته " القوس والفراشة " سنة 2011م ، مناصفة مع الروائية السعودية رجاء عالم عن روايتها " طوق الحمام" كأول امرأة عربية تفوز بهذه الجائزة. فلا عجب إن وجدنا بين أدينا مجموعة قصصية موسومة ب"حفلة تنكرية " لطبيب جراح .
كما أن الصفار كقاص وسارد هنا ، يعيد السرد إلى سياقه الاجتماعي والثقافي في بيئته العراقية الحالية الموبوءة ، فيتعامل بكل صدق ومصداقية مع النصوص دون مجاملة أو مواربة و( دون جدران مانعة) ، لأنه يتحمل هنا مسؤولية قضية ، فالكتابة عنده انتصار للأقانيم الثلاثة ، كما يسميها الدكتور محمد بودويك (5) : الحق - الخير- الجمال. وهما المغيبان لفترة من الزمان في بلاد الرافدين. كما أن الكتابة عنده موقف من الحياة وصرخة في وجه القبح والدمار والموت ، الذي شل الحركة في بغداد الرشيد ، معقل الحب والأدب والجمال والموسيقى في أوج الدولة العباسية. وهو يحن هنا إلى جمال الماضي في حضرة قبح الحاضر. الكتابة في هذه النصوص حفر في الواقع ، لاقتلاعه من جذوره والتخلص منه نهائيا ، كي لا تصبح مجرد حشو كتابي ذابل. كما أن الكتابة عنده انتصار للحياة بدل الموت وللجمال بدل القبح ، وهي في الأخير موقف من الأحداث الجارية في بلده العراق ، لكنه موقف مسئول ومقنع ، يعكس رأيا سياسيا واضحا تشع منه فتنة اللغة ، رغم كل المرارات التي تتخلل النصوص. وهذا يحيلنا إلى طرح التساؤل ما الأدب مرة أخرى ، إن لم تكن له علاقة بالمجتمع والحياة والمبدع والمتلقي ؟ (6) . فالسارد في كثير من قصصه يعبر عن مواقف إيديولوجية "عامة في الحياة " بحكم ارتباطه بالإنسان العراقي خاصة والعربي عامة ، في الحياة و المجتمع ، من بطالة وفقر وتهميش وتهرب ضريبي وهزال في الأجور ، حتى وهو محال على المعاش كما في قصة " الموظف" .
جمل السارد جاءت واضحة ولا تحتاج إلى تأويل ، والمعاني فيها غير قابلة للتجزيء أو التشظي. قصص تتخذ منحى واحدا مهما اختلف الزمان أو المكان في بلاد الرافدين ، لذا يجب التعامل معها بحذر شديد. لا يهرب من معنى في كتابة قصة ، إلا لكي يعود إليه في أخر متواليات. نصوص في مجملها واقعية ، لكنها لا تعكس الواقع كما هو ، بل تحوله إلى رموز وصيرورة حياتية ، فالهجرة من العراق لم تكن فعلا إراديا ، بل فرضته ظروف أقوى منه ، يقول السارد : " كان الشقاء مكتوب على جبينه ". وأيضا في قصة (محاضرة ) " تركت العراق على مضض" (ص٭72). قصص تتواتر وراء بعضها البعض ، لتعطينا في الأخير واقعا عراقيا مؤلما ، هو الذي حرك القلم بين أنامل السارد ليبدع نصوصا واعية ومسئولة ، لكنها أيضا قلقة ومغتربة وأحيانا غارقة في الطنز الجارح ، لكن مسئول ونفعي / يخدم القصة والقضية معا. يقول في هذا المعنى : " لقد مارست حقي في انتخاب رئيس وزراء بريطانيا " (ص35٭) لتليها جمل أكثر مرارة : " غلقت باب السياسة وممارستها للأبد...ربما انهزمت..." (ص36٭) وأيضا في قصة العقال العربي : " صارت غترة عقاله ، شالا للنشاء الأوروبيات "(ص٭66).
نصوص السارد متحركة زمنيا لكنها ثابتة مكانيا في العراق ، رغم أنها كتبت بعيدا عنه ، جوهرها حبه للبلد الذي جاء منه مهاجرا. كما أن كتابته ليست نمطية ، فهي تتغير من نص لآخر دون أن تكشف عن نظامها الخاص ، من خلال تموضعها في " الحد الفاصل بين الكلام والصمت" (7). فتبدو الكتابة أبعد من اللغة ذاتها في بعض النصوص ، بين عالمين / مكانين : العراق المهاجر منه وبريطانيا المهاجر إليها. برزخ يعيش فيه السارد بين حلم العودة إلى وطنه " تركت العراق وقتها مؤملا نفسي العودة في حالة تحسن الظروف..." (ص14٭)، وممارسة الحياة بكل طقوسها الغربية ، عالم لا هو بالمتخيل ولا هو أيضا بالواقعي ، هو مساحة من الحلم معلقة بين نصوصه المتفرقة على البياض .
في "حفلة تنكرية "يعلمنا السارد كيف تكون الغربة مسؤولية ، لأنه ليس كغيره من المغتربين الذين وصلوا إلى أرض الضباب ، على إثر مرورهم بين فكي القرش الأبيض ، بعد مغامرة الحياة أو الموت في زرقة المياه العميقة . هو حالة فردية ، لا يشكو من عوز أو خصاصة أو تهميش ، فالدولة المضيفة في حاجة إلى خبرته كطبيب جراح ، كما هي بحاجة إلى كل الطاقات المهاجرة. لكن هجرته الأولى لم تمنعه من الهجرة في الاتجاه المعاكس ثانية بروحه ووجدانه ، من خلال نصوص يمارس فيها حقه كاملا كمواطن عراقي منتسب إلى وطن آخر، يمارس فيه حياته ومهنته ، و يحتاجه كل المرضى من كل الجنسيات ، حتى ممن أساءت إلى وطنه أحيانا.
لم يكن هاجسه التجريب الجمالي في الكتابة القصصية ، بقدر ما شخص حياة أناس يعيشون في القاع الاجتماعي و" الكادحين ملح الأرض وصانعي التاريخ " كما يسميهم الدكتور محمد بودويك (8) ، فيعلن السارد انحيازه لهموم هؤلاء المسحوقين وغيرهم. قد لا يكون معني بواقع معين ، لكن هذا لم يمنعه من الغوص فيه.
العنوان في حد ذاته "حفلة تنكرية " ورغم بساطته وغربته الاجتماعية كونه عادة غربية ، إلا أن توظيفه هنا كان توظيفا إسقاطيا على واقع حدث فوق أرض العراق بشكل أو بآخر، مختلف عن الحفلات التي تقام في الغرب ، لكن مقصد يته واضحة لا لبس فيها. أشخاص ملثمون أو بصفاتهم الواضحة قد يكون مجلس الأمن أو الأمم المتحدة ، أو دول ساهمت بشكل مباشر أو غير مباشر فيما حدث على أرض العراق ، لتخليصه من الديكتاتورية " حيث أكلت قنبلة ذكية نصف الجسر في الساعات الأولى من بدء "التحرير" (ص70٭) في قصة (الجنرال) ، ومن ثم إعادته لنقطة الصفر. والعنوان هنا ، يمدنا بمفتاح شفرة لتفكيك ليس النص وحده فقط ، الذي أخذ منه العنوان ، بل لفهم ما يجري في المجموعة بأكملها ، ومن ثم إسقاطه على العراق ، كأرض ووطن وأيضا كهوية وعمق روحي للسارد ، يستمد منه أفكار نصوصه. كما أن معجمه جاء مطابقا لنتاج واقع اجتماعي، سواء في المهجر أو الوطن . قوي وذو طابع سياسي في الغالب ، حتى حضور الخيال في بعض قصصه ، لا يعدو أن يكون حضورا وظيفيا.
نصوص المجموعة أيضا تبدو بسيطة ، لكنها كبساطة الشاعر اليوناني العظيم يانيس ريتسوس ، تحتفي بالصمت والانتصار لليومي في مواجهة الرؤيوي المنفلت من عقاله (9) ، في شوارع بغداد الحاضرة في نصوصه / الغائبة في كينونته بعيدا عن القوانين المحددة للمعنى.
" حفلة تنكرية " هي مجمع من النصوص " متطورة تستطيع أن تتجاوز حدودها " (10) وأخرى " تتماشى مع المنطق البيولوجي الطبيعي المادي حيث لا انفصام بين اللغة والفكر والواقع" (11) تحاول بكل الوسائل اقتحام " العلبة السوداء" للمتلقي العربي الذي يعرف كل ما جرى ويجري في العراق بماضيه وحاضره ويومياته ، نصوص تتفاعل مع محيطها. وهو هنا يبتعد قدر الإمكان عن نظرية اللعب اللغوي ، فتأتي جمله صادمة لاطمة. لأن المعرفية الخلفية ضرورية لإنتاج النص ، كما يقول بذلك الدكتور محمد مفتاح (12) ، يسوق نصوصه وفق استراتيجيات تعبيرية خاصة ، قليلا ما يعتمد لغة استعارية ، لكن في المقابل يعتمد مؤشر البياض ، ليشارك القارئ في إنتاج النصوص معه ، وأيضا لإعطائه فرصة التأويل في ظل تتمة واضحة المعالم.
لذلك نجد السارد ينح منحى واقعيا في قصصه ، وكأني به هنا يأتي فقط ليفند ما جاء على لسان" ف. شلوفسكي" من أن " الأقصوصة فكرة ضبابية " (13). كما أن الكتابة عند السارد موقف من الحياة ، وصرخة في وجه القبح والدمار والموت ، الذي شل الحركة في عاصمة الرشيد ، معقل الحب والأدب والجمال والموسيقى منذ الدولة العباسية ، قصص تفيض حبا وحنينا لهذا الماضي الجميل ، وحفر في الواقع لاقتلاع هذا القبح الساكن فيه والتخلص منه نهائيا. الكتابة في "حفلة تنكرية " ترجمة لموقف من الأحداث الجارية في بلده ، وهو موقف مسئول ومقنع ، تعكس رأيا سياسيا واضحا وشجاعا ، وما جدوى الكتبة إذن إن لم تكن كذلك ؟. لكن ما ذكرنا لن ينسينا أيضا فتنة لغوية واضحة المعالم ، رغم كل ما تحمله المجموعة من مرارات.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.