في عيد الشغل.. أمين عام حزب سياسي يتهم نقابات بالبيع والشراء مع الحكومة    صادرات الفوسفاط بقيمة 20,3 مليار درهم عند متم مارس 2025    تنفيذ قانون المالية لسنة 2025.. فائض خزينة بقيمة 5,9 مليار درهم عند متم مارس    "كان" الشباب: المنتخب المغربي ينتصر على كينيا ويشارك الصدارة مع نيجيريا قبل المباراة المرتقبة بينهما    أمطار طوفانية تغمر زاكورة.. وسيول كادت تودي بأرواح لولا تدخل المواطنين    الشرطة الإسبانية تعتقل زوجين بسبب احتجاز أطفالهما في المنزل ومنعهم من الدراسة    كلية الناظور تحتضن ندوة وطنية حول موضوع الصحة النفسية لدى الشباب    القهوة تساعد كبار السن في الحفاظ على قوة عضلاتهم (دراسة)    فرنسا.. ضبط 9 أطنان من الحشيش بعد سطو مسلح على شاحنة مغربية قرب ليون (فيديو)    فوائد القهوة لكبار السن.. دراسة تكشف علاقتها بصحة العضلات والوقاية من السقوط    نشرة إنذارية: زخات رعدية وهبات رياح قوية مرتقبة بعدد من أقاليم المملكة    كرة القدم.. برشلونة يعلن غياب مدافعه كوندي بسبب الإصابة    الكاتب الأول إدريس لشكر في تظاهرة فاتح ماي بالدارالبيضاء : البلاد «سخفانة» سياسيا ولا بد لها من ملتمس رقابة لإنعاشها    لماذا أصبحت BYD حديث كل المغاربة؟    توقيف لص من ذوي السوابق لانتشاله القبعات بشوارع طنجة    ملعب "الحسن الثاني".. تفاصيل إطلاق "الأشغال الكبرى" ب3 مليارات درهم    اجتماع كبار ممثلي الأمن في دول "بريكس" بالبرازيل    عمر هلال يبرز بمانيلا المبادرات الملكية الاستراتيجية لفائدة البلدان النامية    موخاريق: الحكومة مسؤولة عن غلاء الأسعار .. ونرفض "قانون الإضراب"    علم إسرائيل يغضب نقابة بالمحمدية    المركزيات النقابية تحتفي بعيد الشغل    رحيل أكبر معمرة في العالم.. الراهبة البرازيلية إينا كانابارو لوكاس توفيت عن 116 عاما    اتحاد إنجلترا يبعد "التحول الجنسي" عن كرة القدم النسائية    "تكريم لامرأة شجاعة".. ماحي بينبين يروي المسار الاستثنائي لوالدته في روايته الأخيرة    حضور قوي للقضية الفلسطينية في احتجاجات فاتح ماي والنقابات تجدد التنديد بالإبادة والمطالبة بإسقاط التطبيع    باحثة إسرائيلية تكتب: لايجب أن نلوم الألمان على صمتهم على الهلوكوست.. نحن أيضا نقف متفرجين على الإبادة في غزة    المغرب يجذب استثمارات أجنبية مباشرة بقيمة 9.16 مليار درهم في ثلاثة أشهر    تقرير: المغرب بين ثلاثي الصدارة الإفريقية في مكافحة التهريب.. ورتبته 53 عالميا    الحكومة تطلق خطة وطنية لمحاربة تلف الخضر والفواكه بعد الجني    تراجع طفيف تشهده أسعار المحروقات بالمغرب    أمل تيزنيت يرد على اتهامات الرشاد البرنوصي: "بلاغات مشبوهة وسيناريوهات خيالية"    المملكة المتحدة.. الإشادة بالتزام المغرب لفائدة الاستقرار والتنمية في منطقة الساحل خلال نقاش بتشاتام هاوس    معرض باريس.. تدشين جناح المغرب، ضيف شرف دورة 2025    عادل سايح: روح الفريق هل التي حسمت النتيجة في النهاية    العثور على جثة مهاجر جزائري قضى غرقاً أثناء محاولته العبور إلى سبتة    تسارع نمو القروض البنكية ب3,9 في المائة في مارس وفق نشرة الإحصائيات النقدية لبنك المغرب    الإسباني لوبيتيغي يدرب منتخب قطر    السكوري بمناسبة فاتح ماي: الحكومة ملتزمة بصرف الشطر الثاني من الزيادة في الأجور    أغاثا كريستي تعود للحياة بفضل تقنيات الذكاء الاصطناعي    دول ترسل طائرات إطفاء إلى إسرائيل    الإعلان في "ميتا" يحقق نتائج أرباح ربعية فوق التوقعات    فيدرالية اليسار الديمقراطي تدعو الحكومة إلى تحسين الأجور بما يتناسب والارتفاع المضطرد للأسعار    توقعات أحوال الطقس ليوم الخميس    أكاديمية المملكة تشيد بريادة الملك محمد السادس في الدفاع عن القدس    الدار البيضاء ترحب بشعراء 4 قارات    محمد وهبي: كأس أمم إفريقيا لأقل من 20 سنة (مصر – 2025).. "أشبال الأطلس" يطموحون للذهاب بعيدا في هذا العرس الكروي    طنجة .. كرنفال مدرسي يضفي على الشوارع جمالية بديعة وألوانا بهيجة    فيلم "البوز".. عمل فني ينتقد الشهرة الزائفة على "السوشل ميديا"    مهرجان هوا بياو السينمائي يحتفي بروائع الشاشة الصينية ويكرّم ألمع النجوم    مؤسسة شعيب الصديقي الدكالي تمنح جائزة عبد الرحمن الصديقي الدكالي للقدس    حقن العين بجزيئات الذهب النانوية قد ينقذ الملايين من فقدان البصر    اختبار بسيط للعين يكشف احتمالات الإصابة بانفصام الشخصية    دراسة: المضادات الحيوية تزيد مخاطر الحساسية والربو لدى الأطفال    التدين المزيف: حين يتحول الإيمان إلى سلعة    مصل يقتل ب40 طعنة على يد آخر قبيل صلاة الجمعة بفرنسا    كردية أشجع من دول عربية 3من3    وداعًا الأستاذ محمد الأشرافي إلى الأبد    قصة الخطاب القرآني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تمجيد اللبس
نشر في العلم يوم 14 - 05 - 2009

في هذا العدد، لا تخطئ العين الفاحصة لمسات وبصمات الناقد خالد بلقاسم (رئيس تحرير المجلة) من حيث طبيعة لغته النقدية التي تمتح من الحقلين الصوفي والفلسفي، ومن حيث اختياراته التي تؤاخي بين الشعر والفكر. ورد في مقدمة العدد أن الحاجة للشعر كالحاجة إلى الفكر. «إنها ضرورة وجودية... وصون هذه الضرورة وتأمين حيويتها تحد متجدد، يقتضي دوما بناء الوعي بهذه الضرورة من موقع مفتوح، وإيقاظ الإحساس بالحاحها، والسعي لتحويلها إلى اشتغال يومي وفي زمن ينبذ الشعر والفكر ويرسخ وهم انتسابهما إلى منطقة الفائض، أو منطقة الملحق والثانوي والهامشي، زمن بوجه تقني، أضحت مفهومات ملساء عديدة تخترق الثقافة الحديثة، وتوجهها بمنأى عن المناعة الفكرية؛ «وتكمن خطورة هذا الاختراق في كونه ينزع بمباركة تكنولوجية، قيمه على حساب مفهومات ذات سلالة شعرية وفكرية باذخة. لهذا «فثمة تمجيد للسطحي ? لا بمعناه الفلسفي الذي يماهيه بالعمق كما لدى بعض المفكرين- وتمجيد للسريع والنفعي.... وهناك نزوع لاستبدال الضحالة بالعمق» يبقى الشعر انطلاقا من مادته الأساس أي اللغة، وبناء على ما تنطوي عليه معرفته، هو موقع لتخصيب الفكر وحماية السؤال.
في الحوار الممتع استدرج كل من حسن نجمي وبلقاسم عبد الفتاح كيليطو للحديث عن زمن البدايات عن الشعر والقراءات وعن المسار التعليمي والأكاديمي وتمفصلات المشروع القرائي عند كيليطو.
جاء في المقدمة التي وضعها المحاوران للحوار أن عبد الفتاح كيليطو «اسم مضيء في المشهد النقدي العربي المعاصر، من خلال إرسائه لآليات جديدة في القراءة. تأسست على مفهوم أساسي في التعامل مع المقروء. وهو مفهوم الإبعاد. إبعاد القراءة عن كل ما يمكن أن يحد من لانهائيتها». وتم التركيز على أن قيمة كيليطو لا تتحدد في وضعيته في المشهد النقدي العربي المعاصر، وحسب، وإنما، من وضعيته في تاريخ القراءة، فنادرون هم الكتاب الذين تدمجهم القراءة في تاريخها»؛ وفي نظري فكوكبة النقاد المبدعين التي ينتمي لها كيلطو تشمل نجوما لامعة في سماء النقد نذكر منها باشلار، وجون بير رتيشار، ورولان بارت، وطودوروف، وبورخيس... وبالرغم من شجرة أنسابه المتشعبة، فقد تمكن كيليطو من أن يؤسس لذاته هوية مختلفة «فلا نعثر له على شبيه».
يجعلنا كيليطو الذي انتبه أحد الالمعيين على أن اسمه يشير إلى الذي يقرأ باكرا كما جاء في الحوار qui lit tôt، ويمكننا أن نقرأ اسمه بطريقة أخرى، ونقول الذي يقرأ كل شيء qui lit-tout ... يجعلنا «ننتبه إلى حيرة خبت فينا، ونعثر على الغرابة نائمة في الألفة وعلى الأسرار محجوبة في العادة. مع كيليطو يكف الجزئي عن أن يبقى جزئيا. فهو يمكن النصوص من بوحها الخاص معولا على المباغتة والإدهاش والالذاذ.
يصعب اختزال الأفكار التي تضمنها الحوار؛ الذي جاء على شكل حكاية؛ ف كيليطو وهو يكتب أو يتحدث لا يغادر الحكاية؛ وقد قدم لنا الحوار صورة شخصية له «بورتريه» رسم بعناية؛ يعكس هدوءه. وصدقه الذي جعل المحاورين يرتابان ويلتبس الأمر عليهما لدرجة أنهما أثناء الحوار عثرا على عنوان له وهو «تمجيد اللبس». ويعكس أيضا قدرته الخارقة على التأمل واقتناص الغرابة من المألوف والعادي.
قدم كيليطو نفسه في بداية الحوار طفلا عاش وسط كتب جده على غرار طودوروف الذي عاش وسط مكتبة وقد سبق لبورخيص في سيرته أن تحدث عن طفولته وسط الكتب. في الكتاب لاحظ غياب الكتب لتحضر فقط القراءة والحفظ، أما في المدرسة العصرية لاحظ في درس الفرنسية الصور على الجدران، فارتبطت لديه الصورة باللغة الفرنسية. وارتبط لديه الشعر بالمحفوظات. فالشعر الذي يصاحبنا هو الذي نحفظه عن ظهر قلب، هو الأبيات التي تسكننا , وتساءل كيليطو إذا ما كان الشعراء المعاصرون يحفظون أم لا؟ في الثانوية اكتشف عالم الأدب من خلال لقائه الحاسم مع المنفلوطي. فلقاء كيليطو بالأدب العربي والأدب الأوربي كان عبر المنفلوطي الذي ترجم عن الفرنسية دون أن يعرفها. يشير كيليطو إلى أن العقوبة بكتابة نص مرات عديدة بالفرنسية كان لها دور كبير في تعلم الفرنسية لأنه كان لا يغش. وقد تعلم الفرنسية في الخزانة الأمريكية عن طريق ترجمات لكتب أمريكية وانجليزية. كان يود متابعة تعليمه في الجامعة بالألمانية غير أن الألمانية لم تكن تدرس بالكلية. فاختار الفرنسية لأنه كان يعتقد أنه يتقن العربية لكن أثناء سنوات الإجازة صدم صدمة غيرت وهم تمكنه من العربية والفرنسية
معا، فقد كان يحصل على نقاط ضعيفة جدا وكان ينجح بأعجوبة. بعد الإجازة قرر العودة إلى دراسة اللغة العربية فسجل نفسه في «شهادة الأدب المقارن» وهي شهادة صعبة للغاية، من موادها النحو والعروض والنقد القديم والفلسفة، كان يدرسهم في مادة النقد القديم الأستاذ المرحوم امجد الطرابلسي وهو من العلماء الكبار بالعربية «كان ينطلق في دروسه من مطالبتنا بقراءة جهرية للنصوص المدروسة ليقوم أخطاءنا اللغوية. ومع أننا كنا حاصلين على الإجازة، فغالبا ما كان يصحح لنا أكثر من خطأ أثناء قراءة كل سطر» هكذا تبخر أيضا وهم كيليطو بمعرفته اللغة العربية، وما تعلمه كيليطو خلال هذه الدروس هو التواضع. أنجز دبلوم الدراسات العليا حول موضوعة القدر في روايات فرانسوا مورياك لكنه يبدو أنه غير مقتنع بما قدم خصوصا بعد قراءته لبارت وطودوروف وجنيت الذين مكنوه بعد فوات الأوان من اكتشاف طرق جديدة في القراءة. استمع كيليطو لمحاضرة ألقاها رولان بارت بجامعة محمد الخامس بالرباط في بداية السبعينيات ولم يستطع أن يفهم حرفا من كلام بارت. فتخيل آنذاك أنه لن يستطيع أبدا أن يستوعب النقد الحديث. لم يتحرر من هذه العقدة إلا بعد أن بدأ يدرس في شعبته
الفرنسية باعتباره أستاذا مساعدا، ويشير كيليطو إلى أن إدخال المناهج الحديثة للجامعة المغربية لم يتم من قبل الأساتذة وإنما من قبل الطلبة «في شعبة الفرنسية» الذين ألزموا الأساتذة بتدريس المناهج الحديثة ، ناقش كيليطو أطروحة الدكتوراه حول المقامات تحت إشراف محمد اركون بفرنسا. بعد إنهائه مساره الاكاديمي ألحت عليه الكتابة، أول نص نقدي احتفظ به يعود إلى سنة 1975 بعنوان مقدمة لدراسة المقامات نشر في STUDIO ISLAMIKA ثم نشر مقالات أخرى في مجلة آفاق عام 1976. أول كتاب له هو «الأدب والغرابة» ويعود فضل إنجازه إلى الحاح محمد برادة عليه ويرى كيليطو أن أجمل ما في هذا الكتاب هو عنوانه لأنه اكتشفه لوحده. فيما باقي عناوينه الأخرى كانت بتواطؤ مع عبد السلام بنعبد العالي، وعبد الكبير الشرقاوي، وعبد الجليل ناظم. هذا الكتاب أصبح اليوم مقررا في المدرسة، و كيليطو يبدي انزعاجه من الكتب المقررة لأنها تصبح مكروهة. وينفر منها المتعلم فقط لأنها جزء من المقرر. ويظهر أن كيليطو يتنكر لهذا الكتاب فهو يقول «لا يمكنني اليوم أن أكتب مثل هذا الكتاب، فهو ينطوي على أشياء لم أعد أفهمها».
كيليطو قارئ للروايات والنصوص السردية وقد ساعدته هذه القراءات في طريقة تناوله لما يدرس، ولديه طريقة في القراءة تتلخص في إمكانية الكتابة عن كتاب دون أن تقرأه كله، فهو حين قرأ المعري والجاحظ ينتبه لسطر أو سطرين أو بيت أو فقرتين ويكفيه هذا للكتابة. وقد تجلى ذلك في القراءة المتأنية العميقة لبيتي أبي تمام المشهورين «نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ، ما الحب إلا للحبيب الأول». وبالمناسبة فقد أعطيت البيتين لطلبتي في المركز التربوي الجهوي فتوصلوا تقريبا للنتائج نفسها لكن بطريقة متفرقة. وقلت في نفسي ان كيليطو يفكر بطريقة عقل جمعي فهو يجمع ما تفرق في غيره. ومن هنا قوة تركيزه وعمق تأملاته.
عرف كيليطو باشتغاله على السرد العربي القديم ولم يهتم بالشعر إلا لماما لكن لو طلب منه أن ينجز أنطولوجيا للشعر العربي فإنه سيقتصر فيها فقط على العظماء والكبار سيبدأ بلامية العرب للشنفرى. ومعلقة امرئ القيس، وقصيدة أبي نواس التي يصف فيها صورة كسرى على كؤوس الخمرة، وسيختار بيتي أبي تمام «وطول مقام المرء في الحي مخلق... لديباجته فاغترب تتجدد». وسيختار المتنبي لأن كل ما قاله جيد، وسيختار أشعار المعري.
في نهاية الحوار أثارتني فكرة حول الصداقة حينما سئل عن الصداقات التي يعتز بها فقال: «عموما عندما يتقدم الإنسان في السن، يغدو إيقاع يومه سريعا، وتنقضي الأيام بعجلة لافتة خلاف الشباب. الملل مرتبط بالشباب، ومع تقدم السن يمحي الإحساس به أو يضعف... وما يبقى لا يتعدى علاقات عابرة مع أشخاص نحبهم ويحبوننا أتذكر قولا مشهورا لأرسطو: «يا أصدقائي ليس هناك أصدقاء» إن الدرس الذي استفدته من هذا الحوار الشيق هو أن التفرد والإبداع في القراءة يستلزم إبعاد أوهام المعرفة والاعتكاف على القراءة بدربة ومراس. لا مكان لموهبة مزعومة تغذيها أوهام أحكام قارة وثابتة.
في الباب الثاني من المجلة الموسوم «أراض شعرية» تلاقت مجموعة من الأسماء من اليونان الشاعر «ميلتاتوكا كاراشاليو» بقصيدة تحت عنوان «اللبس الأقصى للون» ومن إيطاليا دوناتيلابزوتي (شجرة الكلام) ترجمها عن الإيطالية المترجم المقتدر الرداد الشراطي، ومن البرتغال كازيمورذي بريطو (قصائد) ترجمها عن الفرنسية الرداد الشراطي ومن سوريا نوري الجراح (ايقاع بالسرد) ومن ليبيا مفتاح العمري (نساء النثر) ومن فلسطين جهاد هديب (غرباء) ومن السعودية أحمد الملا (أغنية) ومن المغرب كل من لطيفة المسكيني (برازخ الاعراف) ومحمود عبد الغني (أبواب كل شيء) وعبد الدين حمروش (سهران كفوهة بندقية) ومحسن أخريف (الطريق) وعبد اللطيف الوراري (الودائع). أما في باب «مؤانسات الشعري» فقد تناول الناقد خالد بلقاسم بالدراسة والتحليل ديوان ايروتيكا لسعدي يوسف مؤكدا على أن للشعر وشيجة بالايروسية تسوغ له اتخاذها موضوعا للبناء وتمكنه من الاقتراب من هذا الموضوع، خلافا لخطابات أخرى لا تقوم إلا بحجب الموضوع وهي تتجرأ على الحديث عنه من الخارج. وقد توقف الناقد عند لحظات عديدة في الديوان محللا صورة الموج التي لها علاقة وطيدة بالايروسية. فالموجة
أسعفت منظري هذا الموضوع في رصد العلاقة بين جسد الرجل وجسد المرأة لما تتيحه من تداخل بينها أو تلاشي أحدهما في الآخر. فالشعر في ديوان ايروتيكا «هو كتابة على عتبة الحدود لأن البوح يتعارض مع الايروسية. والكتابة في هذا الديوان كما يقول بلقاسم تنتسب إلى سلالة شعرية اشتغلت بالجسد. وهناك وشيجة تشد هذا العمل إلى ديوان بالعنوان نفسه للشاعر يانيس ريتسوس. وأن هذه الوشيجة لا تكشف عن التدخلات النصية فحسب، وإنما تكشف في الآن ذاته عما يميز الكتابة التي تشتغل على الايروسية.
وفي دراسة ثانية بعنوان «شعرية المكان الوثني وكتابة المحو» سعى نبيل منصر إلى تقديم مشروع محمد بنيس التأملي حول الحداثة الشعرية، مبينا أن طريقة محمد بنيس لم تكن هي طريقة ادونيس، وأن سؤال الحداثة لديه، بالرغم من إيحاءاته المتعددة لم يكن سؤالا نهضويا لذلك لم يغرق محمد بنيس في حجج الشعرية العربية القديمة، واتجه بفعل التراكم نحو استخلاص مبدئها الناظم، من خلال فرضية الكبت التي عطلت دراسة الشعرية قديما. وجعلت الشاعر يتقدم بفرضية الشعرية المفتوحة.
«لقد سعى محمد بنيس نحو ترسيخ مفهوم الماضي المتعدد الذي يسمح للكتابة باختراق كل الأزمنة والتأسيس لحداثتها الأخرى في النص والنظرية» فالمكان الوثني يكشف عن برنامج نظري وخصائص كتابة مستدعاة من تجربة شخصية مفتوحة. وهو ما يمكن تكثيفه حسب نبيل مصر ضمن المبادئ النظرية التالية: حرية الإقامة في حدود الخطر وانمحاء الأصل والحقيقة صيرورة، والعودة إلى الأثر والاحتفاء بالعناصر.
أما الدراسة النقدية الثالثة الموسومة «بالكتابة ومواجهة الموت»، قراءة في ديوان «قبر هيلين» للشاعر المهدي اخريف فقد سعى فيها الناقد المحجوب الشوني إلى قراءة هذا الديوان مستحضرا باقي عناصر التجربة الشعرية لدى اخريف الممتدة في الزمن والمتشعبة في المرجعيات مستحضرا فعل الترجمة لدى الشاعر خصوصا علاقته الفريدة بالشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا «فيد الشاعر تكتب أثره الشخصي وهي تترجم آثارا إبداعية لأجساد أخرى. جسده ينتج شعرا بعد أن سكنه مجهول لغات أجنبية، وشعر غريب... من هنا يصطدم قارئ شعره بضفاف غموض لا يدرك حدودها تماما إلا الشاعر. ذلك أنها نابعة من صراع مستمر مع اللغة / اللغات باعتبارها أداة مريحة للتعبير بوضوح ويقين كما هو الأمر في التصور التقليدي بل كمسكن وجودي وأصلي للالتباس والصراع والفراغ».
حاول الشوني أن ينفذ للديوان من عنوانه. فقبر هيلين «قصيدة طويلة يتم بناؤها النصي وتخيلها بأسئلة فنية ومعرفية حاسمة. والعنوان خاصة منه كلمة قبر تضعنا في صلب تقليد كتاب مسيحي عريق، استطاع الرومانسيون وكبار شعراء الحداثة الشعرية في فرنسا (ملارمي) أن يفرغوه من حمولته الدينية ليصير في الإبداع الأدبي أو الموسيقي باب المجهول الأكبر أمام الشاعر ليختبر بالكتابة هشاشته وقوته معا إزاء الأبد. فالقبر الشعري يستقبل حياة الشاعر في إبداعه، روحه الحقيقية أو حياته الثانية. وقد توقف الناقد عند الهوية الملتبسة لاسم هيلين وعن مواجهة الموت في اللغة.
لقد تزامن صدور الديوان مع مرور 90 سنة على ميلاد الطيارة الفرنسية هيلين بوشر التي ماتت في حادث مروع، وإن هذه الأخيرة كانت متيمة بمغني الطانغو كارلوس كارديل (الارجنتيني) الذي أبكى بورخيص وأمه وهما يتابعانه ذات مساء في سهرة أقامها في الولايات المتحدة الأمريكية.
خلص الناقد في قراءته إلى أن «كتابة القبر الشعري» في الشعر العربي المعاصر، لا تزال شكلا فنيا يحتفي بالفراغ. والغياب ويسائله ويمنحه تجليا محدودا فهناك «قبر من أجل نيويورك» لأدونيس وقبر ابن عربي لعبد الوهاب مودب.
أما الشاعر الذي أقام في بيت المجلة فهو الشاعر الإيطالي «ماريو لودسي» (1914-2005) له عدة أعمال شعرية وله اهتمامات ثقافية أخرى ، في شعره احتفاء لافت بأسرار الطبيعة ،احتفاء ينطلق من بناء لغوي يحمل وشوم ذات قلقة وقد اختار هذا الشاعر منطقة الغموض الشعري أقام فيها ، وفيها تضاعفت غربته.
أما يوميات البيت فقد تنوعت وتعددت مما يدل على دينامية وحيوية داخل هذا البيت وقد لفت نظري حضور الجوائز ( عبد الفتاح كيليطو ? محمد بنيس : جائزة العويس) ووفيات الشعراء الكبار ( محمود درويش ?سركون بولس ? علي الحداني ) .
وقد شمل الباب الأخير من المجلة «أعمال من اللانهائي» متابعة نقدية دقيقة لمجموعة من الإصدارات الحديثة ، فقدم المحجوب الشوني كتاب صنعة الشعر لبورخيص بترجمة صالح علماني، وقدم رئيس بيت الشعر الشاعر نجيب خداري كتاب الشعر الحديث في المغرب ليوسف النوري ، كما قدمت مجموعة من الدواوين نشرتها دار النهضة ببيروت لشعراء مغاربة. «هناك تبقى» محمد بنيس، «أجنحة بيضاء...في قدمي» محمد الأشعري، «على انفراد» حسن نجمي، «كم بعيد دونكيشوط» محمود عبد الغني، «لا أكاد أرى» عدنان ياسين، «ليلة سريعة العطب» عائشة البصري. وقدم أيضا الديوان الأخير للشاعر محمد بن طلحة «قليلا أكثر»، و»أعمال المجهول» لنبيل منصر، « وطير الله» للزجال المقتدر مراد القادري.
هذا العدد من المجلة غني بالمواد ومتنوع يمتاز باللغة النقدية الهادئة التي تحاور النصوص بطريقة فعالة معتمدة مرجعيات راسخة في المشهد النقدي الغربي وتوظفها بطريقة منتجة. ويبدو أن المجلة بدأ يتسع صدرها لتصبح مسرحا لتعدد الأصوات.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.