* يكمن السؤال الصعب في المجال الديمقراطي، في قدرة الفاعلين السياسيين على حفظ التوازن بين مؤسسات التمثيل والطموحات الشعبية. ذلك أن الإرادة الشعبية بطبيعتها لها مقومات متعددة، فبقدر اعتمادها على مؤسسات الشرعية الإنتخابية قد تنبثق من قنوات مدنية للتعبير عن المواطنة، التي تبرز بشكل ظرفي أو فئوي أحيانا، وهي امتداد طبيعي جدا للمؤسسات ولفضاءات التمثيل، ما دام الجميع منخرط في دينامية وطنية مشتركة. في السياق الوطني الحالي، فإن تعبيرات الشباب المغربي الأخيرة ليست نقيضا للشرعية الديمقراطية، بل إن مضامينها تنخرط بقوة داخل منطق المؤسسات، ولا يمكن قراءتها بعيدا عن الأرضية الخصبة التي وفرتها حكومة أخنوش بشعبيتها الواسعة وبرهاناتها السوسيو_اقتصادية، كحاضنة للتعبير الشعبي وكمحفز حاسم لتوسيع دائرة الحقوق الأساسية. معارضو هذا التحليل من أقصى اليسار إلى الغرف الإسلاموية، الذين يدافعون عن أطروحة الأزمة ويراهنون على إشعال الشارع اليوم … هم أنفسهم الذين دافعوا في الأمس القريب عن "مطلب الملكية البرلمانية" وعن تأهيل الأحزاب وسيادة الدستور والمؤسسات. لكن هؤلاء جميعا سقطوا في أول اختبار، عندما استسلموا للغنيمة السياسية وأكدوا قراءتهم السطحية لمعنى الإصلاح وجديته، فلا مطالب الشباب تهمهم ولا غيرة لهم على أوضاع المجتمع، وأصبح "تسخين الشارع" لديهم فرصة لتدبير التموقعات وليّ ذراع الدولة والإجهاز على المكتسبات الدستورية للأمة. لكن ما الذي تغير بين الأمس واليوم؟ كيف يمكن أن يتحول الإيمان بالمؤسسات إلى سراب؟ ومتى يمكن للشارع أن يحل محل المؤسسات لممارسة الديمقراطية؟ هذه ليست مجرد أسئلة عادية، بل تشكل المدخل الضروري لفهم ما يجري حولنا. من المؤكد أن الحكومات الشعبية لا تغير طرق التدبير فقط، بقدر ما تحدث زعزعة عميقة في حركية الفاعلين وتعري شبكاتهم المصلحية كذلك، وهو ما بدأت تتضح خيوطه في الأيام الأخيرة. حكومة أخنوش التي صنعت مجدها الانتخابي، وفق توافق شعبي موسع حول الأولويات الأساسية للمواطنين، كان لها الأثر المباشر في تحريك المياه الراكدة داخل المشهد السياسي، عبر خلخلة مجموعة من الأضرحة الحزبية والأفكار الأيديولوجية، وكشفت الغطاء عن ملفات ظلت عالقة لسنوات لم يكن المساس بها خيارا سهلا ومتاحا. لذلك فإن هذا التصاعد المثير لسياسة الكراهية ضد الحكومة الراهنة، لا يمكن فهمه بمعزل عن قوة الأجوبة السياسية لحكومة أخنوش … التي جعلت من عناوين "الدولة الاجتماعية" و"التأهيل الاقتصادي" أدوات حاسمة لتحرير طاقات المجتمع نحو التغيير، وسمحت بإنتاج أفق جديد مطابق للتحولات الاجتماعية. هذه الكراهية التي تحولت إلى سلوك عقائدي لدى بعض الأطراف السياسية، تشكل إطارا تفسيريا واضحا لانتشار موجات التحامل والانقضاض الفظيع المناهض لشعبية حكومة أخنوش، في محاولة لبناء شروط احتجاجية غير بريئة، تتغذى في مجموعها من قواميس ضد الدولة وضد الاستقرار وضد الأمن المؤسسي. غير بعيد عن ذلك، فإن مشروعية مطالب التظاهر السلمي للشباب بعفويتها وتطلعاتها، يجب أن تبقى محصنة وأن تكتسب المناعة المطلوبة حتى لا تصبح عرضة للاختراق من قبل تيارات تفضل الاختباء خلف حلول غير دستورية ومطالب جاهزة وانطباعات سريعة. فالصعود الاقتصادي للمملكة في الساحة الدولية أصبح معادلة جيو_استراتيجية صعبة، ولعل الدعوة إلى تبخيس مشاريع البنيات التحتية الكبرى وكثافة اهتمام الإعلام الدولي بهذه الاحتجاجات، لدليل حقيقي على أن هناك تربصات إعدادية تشتغل في الكواليس للنيل من سمعة الممكلة وإبعاد أنظار العالم عن قصة نجاح مغربية في عهد الحكومة الحالية. * باحث في القانون الدستوري وعضو الشبيبة التجمعية