كما يقول مارسيل موس: "عارضوا ولا تدمروا الخصم." وكما يذكر هابرماس، السياسة ليست نزاعًا بين أشخاص، بل صراعًا داخل فضاء عمومي تُنظمه الخطابات. بين البناء والإقصاء، يترنح المشهد السياسي المغربي بحثًا عن توازن ديمقراطي.
لقاء يفتح النقاش من جديد في مساء يوم الأربعاء 10 شتنبر 2025، كان المغاربة على موعد مع لقاء تلفزيوني خاص لرئيس الحكومة، عزيز أخنوش، بثّ على القناتين الأولى والثانية. لقاء جاء في لحظة فارقة، ليس فقط لكونه يرصد حصيلة أربع سنوات من العمل الحكومي، بل لأنه أعاد إلى الواجهة النقاش حول طبيعة السياسة في المغرب: هل هي ساحة للبناء والتصارع الديمقراطي، أم فضاء للإقصاء والهدم؟
أزمة ثلاثية الأبعاد منذ 2021
من المهم التذكير أن حكومة عزيز أخنوش لم تواجه أزمة ظرفية عابرة، بل تسلمت مهامها منذ البداية في خريف 2021 على إيقاع أزمة ثلاثية الأبعاد: أزمة غذاء، أزمة طاقة، وأزمة اقتصاد. وهي أزمة غير مسبوقة اجتمعت لأول مرة بهذا الشكل لتفرز إحدى أعقد اللحظات في تاريخ المغرب وفي العالم. ورغم هذا السياق العالمي المأزوم الذي رافق ميلادها، مضت الحكومة في تنفيذ برامجها، وعلى رأسها تنزيل ركائز الدولة الاجتماعية، والانكباب على الملفات الملحّة لحماية القدرة الشرائية وضمان استمرارية الإصلاحات.
لقد بادرت الحكومة منذ اللحظة الأولى إلى اتخاذ إجراءات استعجالية لحماية المواطن من تقلبات الأسعار، وفتحت الحوار الاجتماعي في وقت كان مسدودًا، لتعيد الاعتبار للمسار التفاوضي كأداة لتدبير الأزمات وصيانة السلم الاجتماعي.
لغة بعيدة عن البوليميك
في اللقاء الأخير، قدّم أخنوش نفسه بصفته رئيس حكومة يقود فريقًا حكوميًا متجانسًا، لا مجرد زعيم حزب. أجوبته كانت هادئة وصريحة، بلغة مبسطة يفهمها المواطن، بعيدًا عن لغة الأرقام الجامدة أو المصطلحات التقنية التي تنفّر الجمهور.
لقد اختار رئيس الحكومة أن يخاطب المغاربة بلغة تحمل صدقًا ووضوحًا، متجنبًا الانجرار إلى البوليميك السياسي الذي صار عنوانًا لبؤس الممارسة الحزبية. فالمعركة الحقيقية ليست معركة تصريحات أو ملاسنات، بل معركة ضد هدر الزمن الديمقراطي، حيث الخاسر الأكبر هو المواطن المغربي نفسه.
السياسة كفضاء عمومي: هابرماس حاضر
يرى الفيلسوف يورغن هابرماس أن القليل جدًا من السياسة يُختزل في صراعات بين أشخاص أو أحزاب، لأن السياسة في جوهرها هي ساحة للنضال العام، تُدار داخل فضاء عمومي تُنظمّه الخطابات، حيث تُمارَس السلطة والقوة من خلال النقاش المؤسس.
في هذا الأفق، يظهر أن رهانات الحكومة لا تتعلق بشخص أخنوش، بل بطبيعة الخطاب الذي يسيطر على الفضاء السياسي: خطاب الإنجاز والإصلاح أم خطاب الشعبوية والتيئيس؟ لقاء أخنوش جسّد بوضوح رغبة في أن يكون النقاش مؤسساتيًا وعموميًا، مؤسسًا على ثقافة النتائج لا على لغة التشويه والهدم.
المعارضة بين التصارع والإقصاء
لكن المفارقة التي برزت مع هذا اللقاء، هي أن بعض أطراف المعارضة اختارت منطقًا آخر: تحويل الخصم إلى عدو وجودي. وهو ما وصفه كارل شميت بالانتقال من الخصومة السياسية إلى العداوة المطلقة. النقد المشروع تحوّل في بعض الأحيان إلى فعل انتقامي قائم على الكراهية، هدفه إقصاء الرجل لا مساءلة برامجه.
هذا الانزلاق يُفقِر الديمقراطية ويقوض التوازن المؤسساتي. فكما أوضحت شانتال موف في نظريتها حول الديمقراطية التصارعية، الديمقراطية تحتاج إلى صراع قوي لتبقى حيّة، لكن الصراع يجب أن يكون بين خصوم يتنافسون على البرامج والأفكار، لا بين أعداء يسعون لإلغاء بعضهم البعض. وهنا تتأكد راهنية قولة مارسيل موس: "يجب على الأفراد أن يعرفوا كيف يعارضون دون أن يدمروا بعضهم البعض."
نحو صراع ديمقراطي لا عداء شخصي
الديمقراطية لا يمكن أن تزدهر إلا إذا تحوّل الصراع السياسي إلى تنافس مشروع على البرامج والأفكار، لا إلى عداوة شخصية تهدف إلى إفناء الخصم. هذا هو جوهر السياسة الديمقراطية: تحويل العداوة إلى خصومة، والخصومة إلى تنافس على خدمة الصالح العام.
وبقدر ما تحتاج الحكومة إلى معارضة قوية ومسؤولة لتقويمها ومساءلتها، فإن المعارضة نفسها تحتاج إلى الانضباط لقواعد اللعبة الديمقراطية، حتى لا تتحول إلى عامل إضعاف للديمقراطية بدل أن تكون رافعة لها.
الحاجة إلى نقاش مؤسس
الفضاء السياسي المغربي يحتاج اليوم إلى نقاش مؤسس وهادف، يقوم على وضوح الرؤية والبرامج والتصورات، وعلى ثقافة النتائج والإنجازات. النقاش الذي يُثري الديمقراطية ليس ذاك القائم على تصفية الحسابات، بل ذاك الذي يضع المواطن في صلب الاهتمام.
لقد برز أخنوش في اللقاء كرجل دولة يتصرف وفق منطق المصلحة الوطنية، حريص على الانسجام الحكومي والتعاون بين الحلفاء، بعيدًا عن نزعات الهيمنة الحزبية. حكومة بلا حزب قائد، بل قائد حكومة يعمل على تأمين التماسك الداخلي لتحقيق الإصلاحات في زمن قصير ومعقد.
خاتمة
إن لقاء الأربعاء 10 شتنبر لم يكن مجرد جرد لحصيلة حكومية، بل كان مناسبة لاختبار جدية الفعل السياسي المغربي. حكومة وُلدت في سياق عالمي مأزوم، ومعارضة جزء منها يصر على تحويل الخصومة إلى عداوة.
في النهاية، يبقى الدرس الأعمق أن الديمقراطية لا تستقيم إلا بقدرة الفاعلين على تحويل الصراع إلى تنافس مشروع، لا إلى حرب وجودية. فكما قال مارسيل موس: "عارضوا ولا تدمروا الخصم."، وكما يعلّمنا هابرماس، السياسة ليست سجالاً بين أشخاص، بل صراعًا داخل فضاء عمومي تُنظمّه الخطابات.
إن مستقبل الديمقراطية المغربية سيتحدد وفق هذا الخيار: إما بناء ديمقراطية تصارعية تُثري التعددية وتُعزز ثقافة النتائج، أو الوقوع في فخ ديمقراطية إقصائية تُهدر الزمن وتُقزّم السياسة إلى نزاع شخصي.