تحت عنوان: معركة الملوك الثلاثة في الصحراء منذ اللحظة الأولى لإعلان الاستقلال في خطاب 7 مارس 1956، رسم الملك الراحل محمد الخامس ملامح مشروع استكمال الوحدة الترابية، قائلا "إننا نشعر بعد هذا البيان أن كل ما قمنا به وحققناه سيظل عملاً ناقصاً ما دام تراب وطننا مفكك الأوصال مبعثر الأجزاء... وإن هذا ليحدونا أن نجعل في طليعة ما سنقوم به العمل على توحيد هذا التراب المقدس وردّ الأشياء إلى نصابها والمياه إلى مجراها". كانت هذه الكلمات أكثر من تصريح سياسي؛ كانت عقيدة وطنية تؤسس لمرحلة جديدة عنوانها "التحرير الكامل للوطن"، فالمعركة في نظر محمد الخامس لم تنته برحيل المستعمر الفرنسي، بل كانت في طورها الثاني: استعادة الأقاليم الصحراوية التي ظلت تحت الاحتلال الإسباني. في خطاب العرش لسنة 1958، أعلن محمد الخامس بوضوح أن "استرجاع إقليم طرفاية" كان خطوة أولى نحو الهدف الأكبر: تحرير الأقاليم الصحراوية وجمع الشمل بسكانها. بلغ التفاعل بين الملك محمد الخامس والصحراء ذروته في خطابه بمحاميد الغزلان سنة 1958، حين التقى بقبائل الصحراء وأعيانها، مستحضراً روابط البيعة والولاء التي ربطت سكان الصحراء بالعرش العلوي منذ قرون. قال الملك الراحل، في خطابٍ أصبح جزءاً من الذاكرة الوطنية: "إننا سنواصل العمل بكل ما في وسعنا لاسترجاع صحرائنا وكل ما هو ثابت لمملكتنا بحكم التاريخ ورغبات السكان... وهكذا نحافظ على الأمانة التي أخذنا أنفسنا بتأديتها كاملة غير ناقصة، ألا وهي ربط حاضرنا بماضينا." مراسلة إفني... الدبلوماسية في خدمة الوحدة الترابية ولم يكن الملك محمد الخامس قائداً ميدانياً فقط في معركة التحرير، بل كان أيضاً رجل دولة محنكاً يمزج بين الدبلوماسية والحزم. ففي رسالته إلى الجنرال فرانكو بتاريخ 17 غشت 1960، عبّر بوضوح عن أن قضية إفني قضية مغربية خالصة، لا يمكن ربطها بأي تفاوض حول الانسحاب الإسباني. قائلا في تلك الرسالة التاريخية:"إن إفني جزء لا يتجزأ من التراب المغربي... فلا غرابة أن تستأثر باهتمامنا وتبقى من مشاغل الرأي العام حتى تعود إلى حظيرة الوطن المغربي." بهذا الخطاب، وضع جلالته الأساس الدبلوماسي للمطالبة القانونية والسياسية بالصحراء، ممهداً الطريق أمام المراحل اللاحقة لاسترجاعها. الحسن الثاني..صانع الملحمة حظيت قضية الصحراء المغربية مكانة مركزية في فكر الملك الحسن الثاني، لم تكن في فكره مجرد نزاع حدودي أو مسألة سيادة، بل ملحمة وطنية تداخل فيها التاريخ بالشرعية، والسياسة بالعاطفة الوطنية. في كتاب ذاكرة ملك يستعرض الملك الراحل البدايات الأولى لتشكل الموقف المغربي من قضية الصحراء، منطلقاً من سنة 1963، سنة حرب الرمال بين المغرب والجزائر. في تلك المرحلة الدقيقة، كان المغرب يسعى جاهداً لتصفية الاستعمار واستكمال وحدته الترابية، بينما تمسّك الرئيس الجزائري أحمد بن بلة باتفاق أديس أبابا الذي دعا إلى الإبقاء على الحدود الموروثة عن الاستعمار، متجاهلاً عمق الروابط التاريخية التي تشد المغرب إلى صحرائه. منذ تلك اللحظة، بدأ الحسن الثاني يدرك أن معركة المغرب لم تكن فقط دبلوماسية أو عسكرية، بل حضارية وسياسية في آن واحد، هدفها تثبيت دولة حديثة قوية دون الانجرار إلى منطق الحرب. فقد آمن بأن الحق التاريخي والقانوني في الصحراء هو أقوى من لغة السلاح، مستشهداً بوقائع البيعة التي قدّمها باشا تندوف للمغرب سنة 1953، قبل نفي الملك إلى المنفى، وهو ما رسّخ في وجدانه قناعة بأن الصحراء كانت دوماً امتداداً طبيعياً للمملكة. بعد الاستقلال، واجه المغرب تحديات إقليمية معقدة، في ظل صراع على الزعامة بينه وبين الجزائر، ومحاولات خارجية لتقويض استقراره. ومع ذلك، انتهج الحسن الثاني سياسة خارجية متوازنة، تمزج بين الانفتاح والتبصر، فقاد بلاده لاحتضان مؤتمر الدارالبيضاء سنة 1961، الذي مهّد لقيام منظمة الوحدة الإفريقية، وشارك بقوة في مؤتمر بلغراد لحركة عدم الانحياز، كما جعل من المغرب صوتاً مسموعاً في القمم العربية ومساهماً في حل النزاعات الإقليمية. في مقابل ذلك، كانت المنطقة تشهد تحولات سياسية جذرية، أبرزها انقلاب معمر القذافي سنة 1969 في ليبيا، الذي أطلق خطاباً عدائياً ضد الأنظمة الملكية. إلا أن الحسن الثاني، بعقليته المتزنة، لم ينجر إلى الاستفزازات، مدركاً أن الاستقرار هو أفضل رد على الفوضى، وأن المعركة الحقيقية هي معركة بناء الدولة لا هدمها. شكل شهر أكتوبر 1975 المنعطف التاريخي الحاسم في مسار الصحراء المغربية، عندما أعلن الحسن الثاني عن تنظيم المسيرة الخضراء، التي أبهرت العالم بسلميتها وتنظيمها ودلالتها الرمزية. ففي خطابه الشهير يوم 16 أكتوبر، قائلا:"لم يبقَ شعبي العزيز إلا شيء واحد... أن نقوم بمسيرة خضراء من شمال المغرب إلى جنوبه، ومن شرقه إلى غربه، لنلتحق بالصحراء ولنصل الرحم مع إخواننا هناك." وفي اليوم الموالي، عشية انطلاق المسيرة، خاطب الأمة قائلاً:"غداً إن شاء الله ستخترق الحدود... ستطؤون أرضاً من أراضيكم، وستلمسون رملاً من رمالكم، وستقبّلون أرضاً من وطنكم العزيز." لم يكن الحسن الثاني زعيماً يراهن على العواطف، بل رجل دولة يوازن بين المبادئ والمصالح. ففي لقائه بالجنرال فرانكو سنة 1971 بمدريد، عرض جلالته صيغة للتعاون تراعي مصالح إسبانيا الاستراتيجية في جزر الخالدات، وتشجع على الشراكة الاقتصادية والعسكرية، لكنه اصطدم بعناد النظام الإسباني وعدم قدرته على قراءة المستقبل. ومع ذلك، ظل الملك متمسكاً بمسار الحكمة، إلى أن جاءت سنة 1979 لتشهد استرجاع إقليم وادي الذهب، بعد انسحاب موريتانيا. في خطاب العرش لعام 1981 قال بصرامة:"إن استرجاعنا للصحراء أمر تم وانتهى... فالصحراء صحراؤنا ولسنا مستعدين للتخلي عنها."وفي خطاب ثورة الملك والشعب لعام 1991، عبّر جلالته بصدق ودفء إنساني عن عمق الروابط التي تجمع العرش بالشعب الصحراوي:"لقد استفتيت قلبي مراراً بعدما استفتيت الألوف من أبناء الصحراء... ووجدت في عيونهم ما يشعر به قلبي: أن الصحراء مغربية فعلاً."ثم أضاف:"الصحراويون كلهم مغاربة، ونحن المغاربة كلنا صحراويون." قضية ملك وشعب في خطبه السامية، حرص الملك محمد السادس على ترسيخ أن قضية الصحراء ليست قضية الحاكم وحده، بل قضية كل المغاربة. ففي افتتاح البرلمان سنة 2013 قال جلالته: "إن قضية الصحراء ليست فقط مسؤولية ملك البلاد، وإنما هي قضية الجميع: مؤسسات الدولة، والمنتخبين، والمجتمع المدني، والإعلام، والمواطنين كافة." وأكد في خطاب المسيرة الخضراء لسنة 2014 أن الصحراء "قضية وجود وليست مسألة حدود"، معبّراً عن قناعة ملكية راسخة بأن وحدة التراب المغربي تمثل جوهر الهوية الوطنية، وليست موضوعاً للتفاوض أو المساومة. وقد عبّر الملك عن هذا الترابط في خطاب المسيرة لسنة 2017 حين قال:"إن القاسم المشترك بين خطاب محاميد الغزلان والمسيرة الخضراء هو العهد الموصول الذي يجمع العرش بالشعب حول وحدة الوطن، وفي مقدمتها الصحراء المغربية." وحدة لا تقبل التجزئة أكد الملك محمد السادس مراراً أن الوحدة الترابية جزء من الهوية الوطنية وحق تاريخي غير قابل للتفريط، كما ورد في خطاب المسيرة سنة 2004، حين اعتبر أن الدفاع عنها "يأتي في صلب بناء مغرب وحدوي ديمقراطي وتنموي." وفي 2021 جدد جلالته تأكيده أن "مغربية الصحراء حقيقة ثابتة لا نقاش فيها بحكم التاريخ والشرعية وبإرادة أبنائها واعتراف دولي متنامٍ." معيار العلاقات الخارجية في خطاب ثورة الملك والشعب لسنة 2022، وجّه جلالته رسالة صريحة إلى شركاء المغرب قائلاً: "إن ملف الصحراء هو النظارة التي ينظر بها المغرب إلى العالم، وهو المعيار الواضح الذي يقيس به صدق الصداقات ونجاعة الشراكات." بهذه العبارة، حوّل جلالته القضية إلى بوصلة للدبلوماسية المغربية، يحدد عبرها مواقف الدول من وحدة المملكة وسيادتها. الجدية والحكم الذاتي: رؤية للحل والتنمية منذ طرح مبادرة الحكم الذاتي سنة 2007، أكد جلالته أنها "لن تكون إلا في إطار السيادة المغربية الكاملة والدائمة"، واصفاً المقترح بأنه أقصى ما يمكن للمغرب تقديمه لحل النزاع. وقد حظيت المبادرة باعتراف أممي وُصفت معه ب"الجدية والمصداقية"، وهو ما عزز موقع المغرب كفاعل مسؤول يسعى لحل سياسي واقعي ومستدام. وفي خطابه الأخير سنة 2023، ربط جلالته مفهوم الجدية المغربية بالدفاع عن الوحدة الترابية، معتبراً أن ما تحقق من اعترافات دولية وفتح القنصليات بالعيون والداخلة هو ثمرة "العمل الجاد والمشروع الوطني المتين". التنمية في الصحراء.. تجسيد للوحدة في الميدان لم يكتفِ الملك محمد السادس بتأكيد السيادة السياسية، بل جعل من التنمية رهاناً لترسيخ الانتماء. فقد أطلق منذ اعتلائه العرش مشاريع كبرى في مجالات البنية التحتية، الصيد البحري، الطاقات المتجددة، والتعليم، والسياحة. وفي خطاب 2015، وصف جلالته النموذج التنموي للأقاليم الجنوبية بأنه "دعامة لترسيخ إدماجها النهائي في الوطن الموحد وتعزيز إشعاعها كمركز اقتصادي وصلة وصل مع إفريقيا." كما أطلق سنة 2023 رؤية طموحة لتحويل الواجهة الأطلسية للصحراء المغربية إلى فضاء للتكامل الاقتصادي والإشعاع القاري، داعياً إلى تطوير الموانئ، والربط البحري والبري، وبناء اقتصاد بحري تنافسي يخدم ساكنة المنطقة. مواطنة متجددة وانخراط شعبي يظل أبناء الصحراء في صلب المعادلة الوطنية، وهو ما أكده جلالته في خطب عدة، مشيداً بالمشاركة الواسعة لسكان الأقاليم الجنوبية في الانتخابات، باعتبارها "تجديداً للبيعة الدائمة للعرش العلوي المجيد"، ودليلاً ديمقراطياً على تشبثهم بمغربيتهم ومشاركتهم الفاعلة في بناء وطنهم.