انتخابات يوم بيوم نورالدين مفتاح يكتب: أنا أشك إذن أنا «مشدود»! نور الدين مفتاح نشر في 18 ديسمبر 2025 الساعة 12 و 21 دقيقة مشروع قانون تنظيمي مغربي أصرّ على مغربة كوجيطو ديكارت: «أنا أشك إذن أنا موجود» ليصبح: «أنا أشك إذن أنا مشدود»! بالطبع «مشدود» بالدارجة. والتشكيك هنا يتعلق بنزاهة الانتخابات المقبلة بحيث إن المادة 51 مكرر تتوعد بحبس من سنتين إلى خمس سنوات وبغرامة من 5 إلى 10 ملايين سنتيم كل «من قام أو ساهم أو […] نور الدين مفتاح [email protected]
مشروع قانون تنظيمي مغربي أصرّ على مغربة كوجيطو ديكارت: «أنا أشك إذن أنا موجود» ليصبح: «أنا أشك إذن أنا مشدود»! بالطبع «مشدود» بالدارجة. والتشكيك هنا يتعلق بنزاهة الانتخابات المقبلة بحيث إن المادة 51 مكرر تتوعد بحبس من سنتين إلى خمس سنوات وبغرامة من 5 إلى 10 ملايين سنتيم كل «من قام أو ساهم أو شارك... في نشر أو إذاعة أو نقل أو بث أو توزيع إشاعات أو أخبار زائفة بقصد التشكيك في صدقية ونزاهة الانتخابات».
لم يكن هذا الأمر مجرد وجهة نظر سياسية يمكن الاختلاف معها، ولكنه كان صفعة قوية أيقظت الغافلين عن تطور مجال الضبط في الحقل العام، وعن الترجمة الفعلية لهذا التصور عبر القانون إلى الحد الذي احتك فيه هذا الضبط مع عنصر أساسي من ركائز الديموقراطية وهو حرية التعبير.
ومن هول هذا المقتضى، تحولت ردود الفعل إلى سلاح السخرية، وقالوا إن الناس شكوا في كل شيء حتى في الرسل ورسالاتهم وفي خالق الكون، وأن الله عز وجل أورد في كتابه العزيز شك الأنبياء ومنهم إبراهيم عليه السلام: «وإذ قال إبراهيم ربّ أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي»! ونقول إن من سيبحث عن الطمأنينة بعد الانتخابات في المغرب سيجدها في سجن عكاشة بعد قضائه سنتين حبسا على الأقل إذا لم يؤمن بنزاهة الاستحقاقات النيابية.
بدا الأمر أكثر من سوريالي. وتوقع الجميع أن تنتهي هذه القصة حين يعرض الأمر على البرلمان، وعرض القانون التنظيمي خلال جلسة طويلة امتدت لسبع ساعات، فكانت النتيجة تعديلا بسيطا لم يجتث المشكل من جذوره، أي أن الداخلية لم تقبل إلا استبدال كلمة تشكيك بكلمة مساس! وأصبحت الفقرة المعدلة كالتالي: «يعاقب بنفس العقوبة كل من قام بأي وسيلة بما في ذلك شبكات التواصل الاجتماعي أو شبكات البث المفتوح أو أدوات الذكاء الاجتماعي أو أي منصة إلكترونية أو تطبيق يعتمد على الأنترنيت أو الأنظمة المعلوماتية بصناعة محتوى يشتمل على مضمون كاذب أو مزيف يقصد به المساس بنزاهة وصدق العمليات الانتخابية».
صراحة لم أستوعب لحد الآن المغزى من هذا المقتضى الذي أعطى رنة عامة لهذا القانون تجنح للزجر الناجم عن خوف غير مبرر. المغرب عرف في كل تاريخه انتخابات من مختلف الأشكال، ولم تشكل أبدا محطاتها حتى في السنوات الرصاصية أي تهديد للنظام العام. فالمزور كان يزور باطمئنان، والمندد كان يندد حتى يشفي الغليل وينتهي الأمر. وبعد هذا عرفنا انتخابات أقل سوءا بكثير، ولكنها لم تخل من تشكيك مشروع، أحيانا يكون صائبا، وأحايين أخرى يكون مجانبا للصواب، والفيصل بالطبع يكون هو الطعن والقضاء.
والغريب أن هذا الموضوع الذي يبدو ظاهريا أنه حماية للقائمين على العمليات الانتخابية في بلد نام، تناسوا أن الانتخابات في أقوى الديموقراطيات لا تكسب مصداقيتها إلا بقوة النقاش العمومي، بما فيه التشكيك في كل شيء إلى أن يثبت العكس. وإلا بماذا سنصف ما قام به الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب عندما شكك في الانتخابات التي سقط فيها أمام جو بايدن سنة 2021، وأقام الدنيا ولم يقعدها، فلو كان في المغرب مع هذا القانون لكان في سجن العرجات. وهذا قام به غيره في حملة السيدة كلينتون، وخلال انتخابات بوش ضد آل غور، والشيء الوحيد الذي تدخل فيه القضاء هو اللجوء إلى العنف والهجوم على الكابيتول، وهذا شكل مسلسلا طويلا ضد ترامب ولكن لم يمنعه من الترشح للرئاسة ثانية والفوز بها.
إن القضية في نظري أكبر من مادة في مشروع قانون، إننا إزاء تحول يعكس موازين قوى جديدة مختلفة تماما عن الموازين التي تمخض عنها دستور 2011، وهذا التحول يبرز بجلاء في الأدوار التي ما فتئت تتعاظم لوزارة الداخلية. وأول هذه التمثلات هو إشراف الوزارة هذه المرة على الانتخابات بعدما تم ذلك خلال حكومتين بعد الدستور الجديد تحت إشراف رئاسة الحكومة. وقد أورد رئيس الحكومة الأسبق عبد الإله بن كيران، بأسلوبه، كيف أن وزير الداخلية في عهده دعا زعماء الأحزاب السياسية للتشاور بخصوص التحضير للانتخابات، فرفع ابن كيران الأمر إلى جلالة الملك الذي رد الأمور إلى نصابها واعتبر أن الإشراف على الانتخابات من اختصاص رئاسة الحكومة. وهكذا كان أمر المشاورات مع الدكتور سعد الدين العثماني أيضا، واليوم نحن مع السيد عبد الوافي لفتيت كوزير للسيادة في مواجهة الأحزاب السياسية.
وقد بدا للمتتبعين أن المشاورات حول القوانين كادت تكون شكلية، وأن أمورا حاسمة مرّت مرور الكرام، كالقاسم الانتخابي الفريد من نوعه في العالم الذي أقرّ في ظروف سياسية معلومة وتم الاحتفاظ به، والتقسيم الانتخابي الذي يتضمن الكثير من اللاعدالة في تقسيم الدوائر، وغير هذا كثير. ولكن الأهم هو أن الداخلية التي كانت آلة تنظيمية للإشراف الميداني على الانتخابات عادت لتصبح مهندسا لهذه الانتخابات، بل متوعدة منذ الآن بالويل والثبور من سيشكك أو سيمس بهذه العملية المفروض أنها أكثر العمليات التي تستوجب المساءلة والنقد والمراقبة وحتى الحق في المبالغة. إنها اللحظة التي تصل فيها الديموقراطية إلى أقصى تجلياتها في التعبير عن الإرادة الشعبية، وبالتالي فهي تستحق أن تحاط بكل الضمانات وليس بكل الاحتياطات الضبطية.
وإذا تكلمنا عن موازين القوى، فالقضية أيضا أكبر من مجرد استرجاع الإشراف على الانتخابات، فالتحول بدأ منذ جائحة كورونا، وقد فرضت تداعيات الوباء تمددا للضبط أصبح فيه الفاعل الرئيسي هو وزارة الداخلية بما تملكه من انتشار ترابي لا يضاهى، وأصبح الحجر الصحي وإجراءات الحماية في الفضاء العام من اختصاص الولاة والعمال والقياد والباشاوات والمقدمين والشيوخ، والأخيرين لا يوجدان في أي تنظيم إداري عبر العالم، ولكنهم فعّالون في إدارة تراقب كل شيء. وقد اختلط هذا الاستثناء الذي عاشه العالم بنوع من التراجع في الحريات العامة، مع استثناء مغربي وهو الإسلام السياسي الذي كان يعيش آخر سنة من وجوده في الحكومة بعدما عمر لمدة عقد كامل، وهو شيء غير مسبوق في المملكة.
لابد أن نشير إلى أن واحدة من أهم ركائز العهد الجديد في بداياته كانت هي تكسير الصورة الهيمنية لوزارة الداخلية التي طبعت الحياة السياسية في المملكة منذ الاستقلال، وكان إعفاء إدريس البصري أكبر من تخلي عن خديم من خدام الدولة، ولكنه كان إشارة إلى طي صفحة كانت ترمز لعهد سابق كامل، وبالفعل تحولت الوزارة في حد ذاتها إلى وزارة ضمن الوزارات، ودخلتها بروفايلات تقنية واقتصادية وسياسية بعيدة عن الأمن كالميداوي وجطو والعنصر وغيرهم. ولم يعد هناك ذلك الوزير القوي، إلا أن ضرورات التحول العام قادتنا إلى العودة للوزارة القوية حتى وإن طويت صفحة الوزير/الصدر الأعظم.
عندما تم إنجاز مهمة الإطاحة بالإسلاميين بصناديق الاقتراع، كانت جل النخب التي قامت بذلك تحمل إحساسا بأن مهمتها انتهت قبل حتى أن تبدأ الولاية الحكومية، ولذلك، كان هذا التغول في الأغلبية قد أتاح اندفاعا مصلحيا يأكل ولا يشبع، فانتشر الفساد وتضاربت المصالح وتحول الخطر من تغلغل إسلامي في مفاصل الدولة إلى فصيلة من النخب التي أسقطت آخر «البارشوكات» بين الشعب والمؤسسات، وهنا بدأت الداخلية تسترجع هيمنتها.
فحين انفجرت فضيحة دعم استيراد الماشية تم تكليف الداخلية بملف إعادة تشكيل القطيع الوطني. والداخلية هي التي تقود بناء السجل الاجتماعي الموحد، وهي التي تتولى جوانب الاستهداف والتسجيل والمراقبة في ملف الحماية الاجتماعية، وهي التي ضيَّقَت التدبير اللامركزي بإحداث شركات التنمية المحلية، وقيادة برامج التنمية الترابية والمشاريع العمرانية الكبرى كالسكن والنقل الحضري والتهيئة والمدن الذكية، بل وصلت إلى الرياضة أيضا من خلال الشركة الجهوية للرياضة، حيث يصبح الاستثمار واستغلال الملاعب والصفقات الرياضية في يد الولاة والعمال وغير خاضع لرقابة المجالس المنتخبة.
هكذا تتشكل آلة عملاقة هي «أم وزارات» بملامح جديدة وتدخلات مختلفة وزحف واثق نحو ملء ما تعتبره الدولة فراغا قاتلا تتركه نخب إما غير مطمئنة لولائها أو موالية وجشعة، ولعل هذا ما أنتج ذات سنة قبل الربيع العربي «حركة لكل الديموقراطيين»، ولكنه اليوم يعطي هذا النموذجَ الذي تتقلص فيه سلطة المنتخبين وتتقوى سلطة الإدارة إلى حدود تجاوز المجال التنموي والرياضي، لتطال الحريات العامة وحرية التعبير. فهل هذا الاتجاه يخدم فعلا الانتقال الديموقراطي والجهوية الموسعة وأفق احتضان المملكة لإقليم يتمتع بالحكم الذاتي؟ أم أنه يعيد القوة للقبضة المركزية بدعوى أنها أكبر ضامن للاستقرار؟