الجزائر وصناعة الوهم الكبير في "غيتو تندوف" بين حصار الهوية وإستثمار المعاناة    المنتخب النسوي يواجه تنزانيا استعدادا لكأس إفريقيا 2025    بحضور الأميرة لمياء الصلح.. فوضى تنظيمية خلال حفل كاظم الساهر ومسرح محمد الخامس يتحول إلى "حمام بلدي"    "أولاد يزة 2" يفوز بالجائزة الثانية في مهرجان الإذاعة والتلفزيون بتونس    قتيلة وجرحى في غارة إسرائيلية بلبنان    بورصة البيضاء تنهي الأسبوع بأداء جيد    موجة حر شديدة تجتاح منطقة البلقان مع تسجيل درجات قياسية    كاتس: خامنئي تفادى الاغتيال بالاختباء    الصين تؤكد اتفاقا تجاريا مع أمريكا    ضوء خافت يشع من العقل أثناء التفكير.. والعلماء يبحثون التفسير    الحسيمة ضمن مناطق الخطر الأقصى في نشرة إنذارية جديدة لحرائق الغابات    أمن وجدة يحجز 10 آلاف و820 قرصا طبيا مخدرا    رمسيس بولعيون يكتب.. المحقق شورطان.. قصة مواجهة العري الإداري في العروي    المغرب يتقدم ب 5 مراتب في مؤشر السلامة والأمن    لماذا يخاف مغاربة المهجر من الاستثمار بالمغرب ويقتنون العقار فقط؟    أزمة أدوية حادة تثير قلق المستهلكين والجمعيات الحقوقية تدق ناقوس الخطر    سوريا ولبنان تستعدان للتطبيع مع "إسرائيل"    بتوجيهات ملكية سامية.. الوزيرة بنعلي تقود أول ثورة إصلاحية مؤسساتية في القطاع العام وتظفر بشرف تنفيذ أول إصلاح سيادي    الوداد في مونديال الأندية.. خيبة الأمل والفشل: كيف قضى أيت منا على طموحات الوداديين؟    300 ألف طلب في ساعة على سيارة "شاومي" الكهربائية رباعية الدفع    محمد مدني: دستور 2011 نتاج وضعية سياسية توفيقية متناقضة    مونديال الأندية.. الهلال يتأهل إلى دور ال16 والريال يتصدر بثلاثية نظيفة    أمير المؤمنين يهنئ ملوك ورؤساء وأمراء الدول الإسلامية بمناسبة حلول العام الهجري الجديد 1447    توقعات طقس الجمعة بالمغرب        الوداد الرياضي ينهزم أمام العين الاماراتي    قرب تصنيف "البوليساريو" منظمة إرهابية من طرف واشنطن: تحول سياسي كبير يربك حسابات الجزائر    الوراد يشخص إخفاق الوداد بالمونديال    غوتيريش: ميثاق الأمم المتحدة ليس "قائمة طعام" بحسب الطلب    رحيل مأساوي يهز الرياضة النسوية.. وفاة لاعبة نهضة بركان مروى الحمري في حادثة سير بالخميسات    المغرب يحقق "معجزة صناعية" مع الصين بالجرف الأصفر: مصنع مغربي-صيني يضع المملكة في قلب ثورة البطاريات العالمية    المغرب يعزز نموه الاقتصادي عبر 47 مشروعًا استثماريًا بقيمة 5.1 مليار دولار    الذهب يتراجع مع صعود الدولار وترقب بيانات التضخم الأمريكية    كيوسك الجمعة | الاتحاد الأوروبي يتمسك بدعم شراكته الإستراتيجية مع المغرب    بوغطاط المغربي | حصري.. قرار جديد للقضاء الألماني يُثَبِّت نهائيا قانونية تصنيف محمد حاجب كعنصر إرهابي ويرفض الطعن    الوداد يسقط في اختبار العالمية: حضور باهت أساء لصورة كرة القدم المغربية    النرويجي هالاند نجم مانشستر سيتي يبلغ مئويته الثالثة في زمن قياسي    أكاديمية المملكة و"غاليمار" يسدلان ستار احتفالية كبرى بآداب إفريقيا    حفل كاظم الساهر في "موازين" .. فوضى تنظيمية تسيء للفن والجماهير    كاظم الساهر في موازين: ليلة اهتز فيها التنظيم قبل الموسيقى -صور خاصة-    "سيكوديل" يناقش التنمية البشرية    النقل الطرقي يدخل مرحلة الرقمنة الشاملة ابتداء من يوليوز    إصلاح شامل لقطاع السكن والتعمير في المغرب عبر وكالات جهوية متخصصة    قوانين جديدة للمركبات والدراجات في المغرب    دعم إقليمي متزايد لمغربية الصحراء من قلب أمريكا اللاتينية    حفل أسطوري لويل سميث في موازين 2025    مجلس الأمن يدين مجزرة الكنيسة بدمشق    وزارة الثقافة توزع أزيد من 9 ملايين درهم على 177 مهرجانا وتظاهرة خلال سنة 2025    ضجة الاستدلال على الاستبدال    تعيين بنجلون مديرا للمركز السينمائي        طفل في كل فصل دراسي مولود بالتلقيح الصناعي ببريطانيا    احذر الجفاف في الصيف .. هذه علاماته وطرق الوقاية منه    دراسة تحذر: انتكاسات كبيرة في برامج التلقيح تعرض الأطفال لخطر الأمراض القاتلة    التوفيق : تكلفة الحج تشمل خدمات متعددة .. وسعر صرف الريال عنصر حاسم    وزير الأوقاف: خدمات واضحة تحدد تكلفة الحج الرسمي وتنسيق مسبق لضبط سعر الصرف    وزارة الأوقاف تحدد موعد قرعة الحج        







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



انتحار
نشر في البوصلة يوم 19 - 10 - 2009

" ربُّ خُذني إلَيْكَ ، فَقَد تَأخَّر القبرُ عَنّي .. و تَعبتُ .." قالَ هذا لِنفسِهِ بانكِسارٍ تَجَلّى في تَقطيبٍ حالِكٍ يَستَبِدُّ بِوَجهِهِ المُدلَهِم بِغُبنٍ مُلازِمٍ ..و أَضافَ مُتَبَرِّمًا :"تَعِبْتُ فَقَد سَئِمتُ عذاباتي تَتناوَبُني في العُمرِ الذي هُوَ لِلْخَيْبَةِ .."وَضَعَ يَدهُ على صَدرِهِ كَأَنَّهُ يُواسي قَلبًا زُجاجِيًّا آذَتهُ الأَيامُ كَثيرًا و لَم يَرحَمْهُ الأَنامُ يَومًا ، تَنَهَّدَ عن صَدرٍ حَرِجٍ مُتَمتِمًا بِأَسًى فادِحٍ : "كَم قَد اِرتاعَت ، يا رَبُّ ، نَفسي ، فَحَتّى مَتى؟
" ثُمَّ وَمَضَ بَريقٌ غريبٌ في عَيْنَيْه و قالَ :" إذا تَأَخَّرَ القبرُ فَلِمَ لا أُسرِعُ إِلَيه ؟" .. أَبْهَرَتهُ الفِكرةُ رغمَ قَسوَتِها فَقام مُسرعًا وَهوَ يُرَدِّد : "لا تُؤجِّل مِيتَة اليَومِ إلى الغَدِ ".. أَسرَعَ نَحوَ الطريقِ التي خَمَّن أنَّه سَيَجدُ المَوتَ فيها . أكَّدَ لِنفسِهِ مُتأَلِّما و مُشجِّعا في نَفسِ الوقتِ : "هَؤُلاء الذئاب مَلَلتُ قُبحَهُم فَما رأيتُ يَومًا واحدًا هانئًا مَعَهُم ، و المالُ عزَّ فَعَزَّ مَعه الأصحابُ حتى الحبيبَةُ غَدَرت ، و لا عَمَلَ فَلا أَحد يَقبَلُني فَأنا فَلاحٌ أَطرَدَهُ القَحطُ و الجَرادُ المُلَوَّنُ مِن أرضِه فأَطرَدَهُ الناسُ مِن دُنياهم . فَلِمَ أُضايِقُهم ؟ أَلَسْتُ عِبئًا عَلَيهم ؟ فَلأَتْرُكها لَهُم لِيَمرَحوا و يَلهُوا.."
سَارَ بِخفَّةٍ و لَكن بِرَهبَةٍ بَدَأَت تَسري في جِسمِهِ .. اِستَعَدَّ لِعبورِ الطريقِ المُزدَحِمةِ بالسياراتِ و ضجيج مُحَرِّكاتِها و مُنَبِّهاتها لا تطغى على ضوضاءَ أُخرى بداخِلِهِ ..تَساءَلَ فَجأَةً :" و لِمَ يَحذَرُ مُنتَحِرٌ ؟ أَلَيسَ يَبحَثُ عن المَوتِ .. ؟" و نَظَرَ في العرباتِ المارةِ بِسُرعَةٍ و تابَعَ مُتَنَوِّعَ أشكالِها و ألوانِها و فَكَّرَ :"هَل تَصلُحُ إِحداها لِلمَوتِ ؟ "خاطَبَ نَفسَه مُشتَرٍطًا :" لا يَجب أن يَكون سائقها امرأَةً . لقد داسَت إحداهُنَّ قلبي فلا تَدوس أُخرى جَسَدي .." و لكنَّه سرعانَ ما تراجَعَ :" لَعلَّ السيارةَ لا تَقتُلني فأعيش مَشلولا أو مَبتورَ الأطرافِ و هؤلاء لَم يقبَلوني سليمًا فَما تُراهُم فاعِلين بي و أنا كَذلكَ ؟ ثُمَّ إِنّي سأُصبِحُ عاجزًا ساعتَها حتى على المَوتِ .." أسرَعَ عِندَ فُرصَةِ ابتعادِ السياراتِ يَقطَعُ الطريقَ بل لَم يَتَرَدَّد عن العَدْوِ عندما لاحَظَ اقتِرابَ سَيارةٍ بِسرعَةٍ مفاجِئَةٍ .. ولَعَن سائقَها الأهوجَ و أَلحَقَ اللعنَةَ بِسِبابٍ :" اللعينُ يُريدُ قَتلي .. "
واصل سيرَهُ بَعد أن استعاد هُدوءَ تَنفسه فَوصَل إلى سكةٍ حَديدِيَّةٍ مُمتَدَّةٍ على الأرضِ في سُكونٍ و اطمِئنانٍ ، و فَكَّرَ الرجُلُ :" أَلَيسَ القطارُ وسيلةً مضمونَةَ النتائج ؟ رأيتُ هذا يَحدُثُ كثيرًا في الأفلام .. نَعم هُو القطارُ .." و لكنَّه تَخيَّل الصورةَ فَبَدَت له فَظيعَةً جِدًّا وهو يَرى جَسَدَه مُتناثِرًا بَيْنَ العجلاتِ و العرباتِ و الطريقِ فَاستَبعَدَ الفِكرَةَ قائِلا لِنَفسِهٍ : " لَقد عِشتُ حَياتي كُلَّها مُعذَّبًا أَفَلا أستَحِقُّ ميتَةً أَكثَرَ رحمَةً ؟ "
و مضى نحوَ الأمامِ و سارَ بُرهَةً فَمَرَّ على قنطرة فَوقَ النهرِ الذي يَشُقُّ أطرافَ المدينَةِ و تَوَقّفَ لِيَرتاحَ فَقَد أَتعَبَه المشيُ و أَرهَقَهُ الهمُّ . و نَظَرَ في الماءٍ المُتراقِصِ و ظلَّ يَنظرُ مَلِيًّا ثُمَّ قال بَعدَ حينٍ بِصَوتٍ مُتَهَدِّجٍ تَتجاذَبُهُ انفِعالاتٌ شَتَّى:" وجدتُ الحَلَّ ، إِنَّه الماءُ : أَلَيْسَ مَصدرَ الحياةِ ؟ فَلِمَ لا يكونُ مَصدَرَ المَوتِ أيضًا ؟ إِنَّه لطيفٌ : سَيُحيطُ بالجسمِ في رِفقٍ و يَكتُم أنفاسي في لِينٍ " هكذا فَكَّرَ مُشجعًا نَفسَهُ .. و أضافَ بِعَزمٍ : "الآن ". و امتَدَّت يداهُ بِحَرَكَةٍ عَفوِيَّةٍ في جِيوبِهِ فَوَجَدَ بَقِيَّةً حَقيرَةً مِن مالٍ ، أخرَجَهُ و فَكَّر في أنَّه ذاهِبٌ إلى مَكانٍ لَن يَحتاجَ فيه إلى ذَلِكَ الشيءِ فَألقاهُ جانبَ القنطَرَةِ وَ قال كَمَن يُخاطِب جَمعًا حِذوَه: " أَلستُم تُريدونَ المالَ ؟ فَلتَأخُذوهُ . "
و مَضى يَتَخَيَّلُ سقوطَهُ في الماءِ و أَحسَّ بِرعدَةٍ و قشعريرَةٍ و هوَ يَرى اختِناقَهُ و احتِباسَ الهواءِ في صَدرِهِ و خَمَّنَ أَنه سيتخبطُ بِيَدَيْه و قَدَمَيْهِ و لَعَلَّهُ سيطلُب المساعَدَةَ ، فَأحَسَّ بِخَجَلٍ مِن خَوفِهِ و قَد تَجَلّى لَهُ .. صمت حينًا مِنَ الدهرِ، ثُمَّ أَشرَقَ وَجهُهُ بِنورٍ جَديدٍ إذ التَمَعَت في ذِهنِهِ فِكرَةٌ جَديدَةٌ ، جَديدَةٌ تَمامًا :" مَاذا لَو يُحاوِلُ مِن جَديدٍ أَن يَتَصالَحَ مَع الحَيَاة ؟" . أَعجَبَتْهُ الفكرَةُ و قال لِنفسِه :" لابَأسَ مِن المُحاوَلَةِ .. ثُمَّ إنَّني أستَطيعُ الانتحارَ إِن فَشِلتُ هَذهِ المرةَ ." أَحَسَّ بِطُمَأنينَةٍ وهوَ يَعدِلُ عَن الارتِماءِ في الماءِ الذي أَصبَحَ ساكنًا تَحتَهُ كَأنَّما قَد خابَ أَملُه في استقبالِ هذا الضيفِ في أَعماقِهِ . التَقَطَ المالَ الذي كانَ قَد ألقاه و أَخَذَ طريقَ العودَةِ و بَدَأت طُبولٌ لِلفَرَحِ تَدُقُّ في مسامِعِه فَتصم أُذنَيهِ عن دَوِيِّ الحياةِ مِن حوله .. و التقطت عيناه الكليلتان بالفرحَةِ ، الدنيا مِن حَولِهِ فَرآها جَميلةً فزادَت فرحَتُهُ لأنَّه لَم ينتَحِر و استنشَقَ الهواءَ بِمِلءِ صدرِهِ فَوَجَدَهُ نَقِيًّا صافِيًا رغم تَلوثه بِدُخانِ السياراتِ و الأنفاسِ الموبوءَةِ و أسعَدَتهُ الحياةُ بُرهَةً إِذ رأى في وجودِهِ نِعمَةً لا ينبغي التنازُلُ عَنها بِسُهولَةٍ ..و أخذ يُحدِّثُ نفسَه بِصَوتٍ مُرتَفِعٍ كَأَنَّهُ بِمُفرَدِه في الكَونِ فَقَال :" أما المرأَةُ فسَأَتَّخِذُ غيرها ، و أما العَمَلُ فسأعودُ إلى الأرض أزرعُها بِعزمي و أَسقيها بِعَرَقي و أَمّا الناسُ فَسَيَكونُ صَبري صَخرَةً تُحطِّمُ دناءَتَهم .." و ارتفع الدوِيُ عالِيًا عالِيًا في أُذُنَيْه مِثلَما ارتَفَعَ هُوَ عَن الدنيا من حَولِهِ فَطارَ سابِحًا في أحلامِه و اقتَرَبَ في سَيرِهِ مِنَ السكةِ الحديدية الثابتَةِ في مكانِها دومًا ، و لَمْ يَنتَبه إلى جَلَبَةٍ شديدَةٍ تَسبقُ كتلةً حديديةً بشعَةَ المنظَرِ و اللون تُقبِل بِجَشَعٍ مُرعبٍ ..
و ارتفَعَت صَرَخاتٌ في الأنْحاءِ القَريبَةِ لِأُناسٍ شاهَدوا جَسَدا تُمزِّقُهُ العَجلاتُ المُتَتابِعَةُ بِشراسَةٍ فَظيعةٍ و تُفَتِّتُهُ فَتَذروا فُتاتَهُ نُثارًا على جَوانِبِ العرباتِ و عَلى الأَرضِ المُحيطَةُ ،اِنتَفَضَ الرجالُ يَضطَربونَ في أَماكِنهم إذْ لَم يَعرِفوا تَمامًا ما الذي يُمكِنُ ُفِعلُهُ ، أَمّا النسوةُ فَأسرَعنَ يُشِحْنَ بِوُجوهِهُنَّ عَن ذَلك المنظَر حتى لا يَرينَ المَوتَ المُتَناثِرَ و يُخفينَ أَعيُنَ الصبيانِ بِهَلَعٍ و لَكنَّ صَيحَةً مَبتورةً كانَت قَد بَلَغَت كُلَّ الآذان .
..........................
فيصل الزوايدي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.