نزار بركة يعلن عن الإبقاء على دورة المجلس الوطني للحزب مفتوحة لإعداد لائحة أعضاء اللجنة التنفيذية    خدمات قنصلية.. تعميم المنظومتين الإلكترونييتن الخاصتين بتحديد المواعيد والتمبر الإلكتروني    بيدرو سانشيز، لا ترحل..    الدرهم يتراجع بنسبة 0,46 في المائة مقابل الأورو    توابل بني ملال تحصد التميز بمعرض الفلاحة    معرض الفلاحة بمكناس يستقطب أزيد من مليون زائر    الجهود الدولية تتكثف من أجل هدنة غزة    احتجاج أبيض.. أطباء مغاربة يطالبون بحماية الأطقم الصحية في غزة    كأس الكونفدرالية.. اتحاد العاصمة الجزائري ينسحب من مواجهة نهضة بركان    نهضة الزمامرة تفوز على الفتح الرباطي    جمباز الجزائر يرفض التنافس في مراكش    صاحب السمو الملكي ولي العهد الأمير مولاي الحسن يترأس بالرباط الجائزة الكبرى لجلالة الملك محمد السادس للقفز على الحواجز للمباراة الرسمية للحرس الملكي    الزمالك سبقو نهضة بركان لفينال كأس الكاف    مقايس الامطار المسجلة بالحسيمة والناظور خلال 24 ساعة الماضية    طنجة.. توقيف شخص لتورطه في قضية تتعلق بالسرقة واعتراض السبيل وحيازة أقراص مخدرة    لتخفيف الاكتظاظ.. نقل 100 قاصر مغربي من مركز سبتة    محكمة لاهاي تستعد لإصدار مذكرة اعتقال ضد نتنياهو وفقا لصحيفة اسرائيلية    نجوم مغاربة تحت رادار "البارصا"    "البيغ" ينتقد "الإنترنت": "غادي نظمو كأس العالم بهاد النيفو؟"    الكاتب والباحث لحسن مقبولي يشارك بكتابه الجديد في معرض كتاب التاريخ للجديدة    اتفاق جديد بين الحكومة والنقابات لزيادة الأجور: 1000 درهم وتخفيض ضريبي متوقع    الفيلم المغربي "كذب أبيض" يفوز بجائزة مهرجان مالمو للسينما العربية    اعتقال مئات الطلاب الجامعيين في الولايات المتحدة مع استمرار المظاهرات المنددة بحرب إسرائيل على غزة    بيع ساعة جَيب لأغنى ركاب "تايتانيك" ب1,46 مليون دولار    توقعات أحوال الطقس غدا الإثنين    نصف ماراطون جاكرتا للإناث: المغرب يسيطر على منصة التتويج    بلوكاج اللجنة التنفيذية فمؤتمر الاستقلال.. لائحة مهددة بالرفض غاتحط لأعضاء المجلس الوطني        دراسة: الكرياتين يحفز الدماغ عند الحرمان من النوم    الدورة 27 من البطولة الاحترافية الأولى :الحسنية تشعل الصراع على اللقب والجيش الملكي يحتج على التحكيم    توقيف مرشحة الرئاسة الأمريكية بسبب فلسطين    حصيلة ضحايا القصف الإسرائيلي على عزة ترتفع إلى 34454 شهيدا    التاريخ الجهوي وأسئلة المنهج    طنجة "واحة حرية" جذبت كبار موسيقيي الجاز    الفكُّوس وبوستحمّي وأزيزا .. تمور المغرب تحظى بالإقبال في معرض الفلاحة    تتويج الفائزين بالجائزة الوطنية لفن الخطابة    شبح حظر "تيك توك" في أمريكا يطارد صناع المحتوى وملايين الشركات الصغرى    المعرض الدولي للفلاحة 2024.. توزيع الجوائز على المربين الفائزين في مسابقات اختيار أفضل روؤس الماشية    خبراء "ديكريبطاج" يناقشون التضخم والحوار الاجتماعي ومشكل المحروقات مع الوزير بايتاس    نظام المطعمة بالمدارس العمومية، أية آفاق للدعم الاجتماعي بمنظومة التربية؟ -الجزء الأول-    مور انتخابو.. بركة: المسؤولية دبا هي نغيرو أسلوب العمل وحزبنا يتسع للجميع ومخصناش الحسابات الضيقة    الحبس النافذ للمعتدين على "فتيات القرآن" بشيشاوة    هيئة كبار العلماء السعودية: لا يجوز الذهاب إلى الحج دون تصريح    المغرب يشارك في الاجتماع الخاص للمنتدى الاقتصادي العالمي بالرياض    صديقي: المملكة قطعت أشواط كبيرة في تعبئة موارد السدود والتحكم في تقنيات السقي    سيارة ترمي شخصا "منحورا" بباب مستشفى محمد الخامس بطنجة    مهرجان إثران للمسرح يعلن عن برنامج الدورة الثالثة    رسميا.. نزار بركة أمينا عاما لحزب الاستقلال لولاية ثانية    خبراء وباحثون يسلطون الضوء على المنهج النبوي في حل النزاعات في تكوين علمي بالرباط    ابتدائية تنغير تصدر أحكاما بالحبس النافذ ضد 5 أشخاص تورطوا في الهجرة السرية    السعودية: لا يجوز الحج في هذه الحالة.. ويأثم فاعله!    قبائل غمارة في مواجهة التدخل الإستعماري الأجنبي (8)    الأمثال العامية بتطوان... (584)    انتخابات الرئاسة الأمريكية تؤجل قرار حظر "سجائر المنثول"    كورونا يظهر مجدداً في جهة الشرق.. هذا عدد الاصابات لهذا الأسبوع    الأمثال العامية بتطوان... (583)    دراسة: التمارين منخفضة إلى متوسطة الشدة تحارب الاكتئاب    بروفيسور عبد العزيز عيشان ل"رسالة24″: هناك علاج المناعي يخلص المريض من حساسية الربيع نهائيا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الانتحارِ الإيثاريّ أو الغيريّ!
نشر في البوصلة يوم 11 - 08 - 2010

هل حقًّا الشّعراءُ والأدباءُ والفلاسفةُ هم شهودٌ على حضاراتِ وثقافاتِ عصورِهِم؟
وهل يكونُ يكونُ لهم آثارٌ واضحةٌ وبصماتٌ جليّةٌ على العصرِ نفسِهِ؟
وهل يكونُ لآثارِهِم صدًى إيجابيًّا في أزمنةٍ لاحقةٍ، تفيدُ البحْثَ والتّنقيبَ والتّحليلَ في شتّى مجالاتِهِ الثّقافيّةِ؟
ألا يمكنُ أن يكونَ لشخصيّاتِهم وغراباتِهم وقعٌ سلبيٌّ في بلورةِ فكرٍ ما؟
كأنّي أُقْدِمُ على جنديٍّ أو شرطيٍّ؟ إنّما أُقْدِمُ على ربٍّ غفور!. بهذهِ الكلماتِ أسْلمَ الرّوحَ أبو حيّان التّوحيديّ البغداديّ (923- 1023)، فكيفَ يكونُ مُلحِدًا وزنديقًا قائلُ هذهِ الكلماتِ؟
إنّهُ شيخُ الصّوفيّةِ وفيلسوفُ الأدباءِ، عاشَ يتيمًا مكروهًا مِن عمِّهِ، وصارعَ شظفَ العيْش بطموحِهِ الواسعِ واعتدادِهِ الشّديدِ بنفسِهِ، فامتهنَ حرفةَ الوراقةِ ونسْخ الكتب، ممّا أكسبَهُ درايةً واسعةً وروايةً لثقافةِ عصرِهِ، وقلَمًا سيّالاً يُبهرُ القارئ بحذاقةِ لغتِهِ الأنيقةِ وتوظيفِها بلباقةٍ فيما يرمي إليه، لكنّهُ كانَ دائمًا ناقمًا على عصرِهِ يائسًا مِن مجتمعِهِ، بسببِ نارِ القدْح الّتي اتّهمتْهُ بالزّندقةِ والإلحادِ، والتهمتْ نورَ مدْحِهِ، فعايشتْهُ الإحباطاتُ والإخفاقاتُ المتواصلةُ وتجاهُلُ المحيطينَ بهِ مِن أدباءَ ومؤرّخينَ ووزراء، وبرَعَ في جزالةِ مؤلّفاتِهِ وتنوّعِها وتناوُلِها شتّى ميادينِ الحياةِ الّتي عاصرَها، بأسلوبٍ شيّقٍ مشحونٍ بفكرِهِ العميق، وتركَ إرثًا نفيسًا في مجالاتِ الأدبِ واللّغويّاتِ والتّصوّفِ والفلسفةِ والنّوادرِ والأخبارِ السّياسيّةِ والفكريّةِ والاجتماعيّةِ، لكن؛ ما نظرتْ إليهِ عينٌ مُنصِفَةٌ، لأنّهُ كتَبَ بأسلوبٍ ساخرٍ فاضحٍ وناقِدٍ مُرٍّ، بعيدًا عن المُحسّناتِ البديعيّة، ممّا أثارَ حنَقَ الكثيرينِ مِن آرائِهِ ومواقفِهِ، وقد تقلّبَتْ عليهِ الأيّام والأعوامُ، ففرَّ إلى التّصوّفِ عساهُ ينعَمُ بالعزاءِ والسّكينةِ ويُخفّفُ مِن معاناتِهِ ومتاعبِهِ، وقالَ متحدّثًا عن نفسِهِ:
فلقد فقدتُ كلَّ مؤنِسٍ وصاحبٍ ومرافقٍ ومشفقٍ، ووالله لربّما صلّيتُ في الجامع فلا أرى مَن يُصلّي معي، فإنِ اتّفقَ فبقّالٌ أو عصّار، أو ندّافٌ أو قصّاب، ومَن إذا وقفَ إلى جانبي أسدرَني بصنانِهِ وأسكرَني بنتْنِهِ، فقد أمسيتُ غريبَ الحالِ غريبَ اللّفظِ، غريبَ النّحلةِ غريبَ الخلقِ، مُستأنِسًا بالوحشةِ قانِعًا بالوحدة، مُعتادًا للصّمتِ مُلازِمًا للحيرة، مُحتمِلاً للأذى يائسًا مِن جميعِ مَن ترى"!
لقد بلغَ بهِ صراعُ الأضدادِ حدًّا عميقًا كادَ ينتهي بهِ إلى الانتحارِ، لكنّهُ لمْ يجرؤْ على الانتحارِ الجسديِّ، وإنّما انتحرَ أدبيًّا، إذ أنقذَهُ التّصوّفُ وإيمانُهُ بشرفِ النّفسِ الإنسانيّةِ، واعتقادُهُ الرّاسخُ بضرورةِ الانقيادِ للنّفس النّاطقةِ بدلاً مِن الصّامتة، وعِوضًا عن ذلك، جسّدَ الانتحارَ في حياتِهِ بشكلٍ دراميٍّ، حين حوّلَ صدى فكرةِ الانتحارِ مِن نفسِهِ إلى كتبِهِ، فجمَعَها وأحرقَها بعدَما تجاوزَ التّسعينَ مِن عمرِهِ، لأنّهُ لم يرَ في كُتبِهِ منفعةً عندَ مَن لا يعرفُ قدْرَها.
هل حقًّا الشّعراءُ والأدباءُ والفلاسفةُ هم شهودٌ على حضاراتِ وثقافاتِ عصورِهِم؟
وهل يكونُ يكونُ لهم آثارٌ واضحةٌ وبصماتٌ جليّةٌ على العصرِ نفسِهِ؟
وهل يكونُ لآثارِهِم صدًى إيجابيًّا في أزمنةٍ لاحقةٍ، تفيدُ البحْثَ والتّنقيبَ والتّحليلَ في شتّى مجالاتِهِ الثّقافيّةِ؟
ألا يمكنُ أن يكونَ لشخصيّاتِهم وغراباتِهم وقعٌ سلبيٌّ في بلورةِ فكرٍ ما؟
أبو حيّان التّوحيديّ هوَ نموذجٌ متميّزٌ مِنَ التّراثِ القديمِ حولَ ظاهرةِ الانتحارِ، ولكن انتحارًا بشكلٍ مغاير، فهذا النّمطُ يُدعى بالانتحارِ الغيْريّ أو الإيثاريّ، الّذي أطلقَ مصطلحَهُ عالمُ الاجتماع الفرنسيّ "إميل دوركهايم"، وأسوقُ أمثلةً لهذا النّوع مِن الانتحارِ الإيثاريّ أو الغيريّ!
الفيلسوفُ الفرنسيُّ لويس التوسير، هو أحدُ معلّمي الفكرِ المعاصر، وصاحبُ المشروعِ المعروفِ لتجديدِ الماركسيّة، وقد مُنحَ درجةُ الدّكتوراه على مُجمَلِ أبحاثِهِ كحدَثٍ جامعيٍّ فريدٍ، إلاّ أنّهُ اتُّهِمَ بأنّه أفسدَ الفلسفةَ الفرنسيّة، وفي سيرتِهِ التّحليليّةِ والمُعلَنةِ، تكلّمَ عن ثقافتِهِ الضّحلة نسبيًّا لزملائِهِ، لأنّهُ لم يقرأ إلاّ القليلّ، وما عرفَ إلاّ سبينوزا وباسكال وأفلاطون، بينما زملاؤُهُ تفوّقوا عليه ثقافةً، فقرؤوا هيغل وكانت وهيديغر وهوسرل والوضعيّين المنطقيّين والقائمة طويل، ونتيجةً لنوباتِ الكآبةِ وعزلتِهِ الطّويلةِ، فقد أدّتْ بهِ إلى مأساةٍ دفعتْهُ إلى خنْقِ زوجتِهِ هيلين وقتلِ مَن أحبَّ، ليحميَها مِنَ الآلامِ الّتي كان يُقاسي منها، لأنّهُ لم يجرؤْ على قتلِ نفسِهِ!
أمّا الشّاعر جوته الّذي طالما راودَتْهُ فكرةُ الانتحارِ في نزوعِهِ الشّديدِ إليها، فقد تغلّبَ على فكرةِ الانتحارِ مِن خلالِ شخصيّةِ فيرتر المختلَقةِ في روايتِهِ المشهورةِ "آلام فيرتر"، كما استطاعَ أن يتغلّبَ على حبِّهِ البائسِ اليائسِ لحبيبتِهِ شارلوته كستنر سنة 1774، مُتخطّيًا بذلكَ آلامَهُ بوصفٍ شنيعٍ.
لكن؛ وللأسفِ تحوّلتِ الرّوايةُ إلى كتابٍ مرشدٍ عصريٍّ للانتحارِ، ممّا حدا بالسّلطاتِ الحكوميّةِ والمؤسّساتِ الكنسيّةِ منعَ تداولِهِ أو ترجمتِهِ، فأقدَمَ الأسقفُ مايلاند على شراءِ جميع النّسخ المترجَمةِ للّغةِ الإيطاليّة، وكذلكَ وليُّ عهدِ الدّنمارك منَعَ ترجمةَ الكتابِ واسع الانتشارِ في بلادِهِ، لكن، كانَ كلُّ ذلكَ قد تمَّ بعدَ فواتِ الأوان، وقد انتشرَ كتابُ جوته، واتّسعتْ موجةُ انتحارِ القرّاءِ بدلاً مِن انتحارِ الشّاعر!
ولكن جان بول سارتر الفيلسوفُ الفرنسيُّ (1905 – 1980)، فقد كانَ روائيًّا وكاتبًا مسرحيًّا وكاتبَ سيناريو، وناقدًا أدبيًّا وناشِطًا سياسيًّا، وهو صاحبُ المقولةِ الشّهيرةِ "السّلامُ هو الحرّيّة"، وهو صاحبُ النّظريّةِ الوجوديّةِ حولَ أهمّيّةِ وجودِ الإنسانِ، وأهمّيّةِ هذا الوجودِ عندَ تحديدِ أهدافِهِ وغاياتِهِ، وذلكَ مِن خلالِ كتابِهِ الشّهيرِ "الكون والعدم" عام 1943، حولَ علاقةِ الفرْدِ بنفسِهِ وبالمجتمعِ وبالكوْن، وبأهمّيّةِ إدراكِ الحرّيّةِ واستخدامِها بشكلٍ صحيحٍ ونافعٍ، كي ينتقلَ مِنَ العدمِ واللاّشيء إلى كائنٍ حيٍّ، وإلى مشروعٍ لهُ قيمتُهُ المميّزة، فكانَ مناصِرًا لحرّيّةِ الإنسانِ ومدافِعًا عن حقِّهِ في الحياةِ الكريمةِ، وقد أثارتْ فلسفتُهُ الوجوديّةُ جدَلاً، ومُنح جائزة نوبل، لِما كانَ لهُ مِن تأثيرٍ كبيرٍ على الوسطِ السّياسيِّ والثّقافيِّ الغربيِّ والعرّبيِّ في تلك الفترة، وفي صناعةِ الفِكرِ الغربيِّ في الشّرق، إلاّ أنّ تقلّباتِهِ الفكريّةَ اللاّحقةَ، ومواقفَهُ مِن قضايا العالم وثوْراتِ الشّعوبِ، أخذتْ تُظهِرُ الغموضَ الّذي يكتنفُ شخصيّتَهُ، وبسببِ شعورِهِ بالخواءِ الرّوحيّ، جعلَ يقتلُ الوجوديّةَ بتنكّرِهِ لها، كما قتلتْهُ الوجوديّةُ روحيًّا، وكانَ انتقامُ سارتر مِنَ الوجوديّةِ انتقامًا ثأريًّا، وقد جاءَ انتحارُ سارتر الفكريُّ قبلَ رحيلِهِ، فتنكّرَ للوهْمِ ورؤيا للحقيقةِ المتجسّدةِ بالإيمان بالخالقِ نسْفًا للوجوديّة، وانتحارًا للفكرةِ الّتي مضى على الاشتغالِ بها كلَّ عمرِهِ!
أخيرًا، هل كانَتِ إبداعاتُهم بوعيٍ تامٍّ وإدراكٍ للنّفسِ والمجتمعِ، أم أنّ الأمرَ نوعٌ من الفانتازيا الآنيّةِ، مِن أجلِ إرواءِ متعةِ التّأليفِ لديهم؟
^^^^^^^^^^^^^^^^^
آمال عوّاد رضوان
فلسطين


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.