المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي.. تقديم نتائج مشروع دراسة مكتب العمل الدولي المتعلقة بالتقييم الاكتواري لمنظومة التعويض عن فقدان الشغل بالمغرب    "الأسرة وأزمة القيم" بين حقوق الإنسان الكونية والمرجعية الدينية    الدرهم المغربي يتقدم مقابل الأورو    الصين تطور أول نظام للهيدروجين السائل المركب بالسيارات من فئة 100 كيلوغرام    مشهيد بديع.. عاصفة شمسية تنير السماء بأضواء قطبية    الإمارات ترفض دعوة نتنياهو    الخوف من القذافي وإلغاء مقابلة شارون..كريشان يكشف كواليس محاورته لزعماء دول    مذكرة توقيف تلاحق مقدم برامج في تونس    بطولة فرنسا: الحارس نافاس يعلن رحيله عن باريس سان جرمان    نهضة بركان بغيابات مؤثرة يتحدى الزمالك المصري في رحلة البحث عن لقبه الثالث..    توقعات أحوال الطقس اليوم الأحد بالمغرب    طانطان.. البحرية الملكية تقدم المساعدة ل59 مرشحا للهجرة السرية    مراكش.. عرض "قفطان 2024" في نسخته الرابعة و العشرين يبرز غنى وأصالة القفطان المغربي    "اليوتيوبر" المالكي يسلم نفسه إلى الأمن    بعد إلغاء حفل توقيع رواياته.. المسلم يعد جمهوره بجولة في المدن المغربية    خريبكة .. افتتاح فعاليات المهرجان الدولي للسينما الإفريقية في نسخته ال24    شاب نواحي الحسيمة ينهي حياته بربط نفسه بجذع شجرة    دول الاتحاد الأوروبي بين مطرقة شعوبها وسنداد البيت الأبيض الأمريكي    الهلالي يشارك في الاجتماع الاستثنائي للمجلس العالمي للتايكوندو بكوريا الجنوبية..    زلزال قوي يضرب إيران    غوتيريش يدعو إلى "وقف فوري لإطلاق النار" في غزة    البطولة الوطنية.. ترتيب أندية القسم الثاني    تحديد موعد مباراة المغرب وزامبيا في تصفيات "المونديال"    المغرب يتوفر على 6 مختبرات للكشف عن الجريمة الرقمية (مسؤول مكتب الجريمة السبرانية في الفرقة الوطنية)    مطالب بوقف "التطبيع الأكاديمي" بين المغرب وإسرائيل    عائلات المغاربة المحتجزين بتايلاند تنتقد صمت الحكومة    يوسف النصيري يوقع الهدف ال 15 له في الدوري الإسباني هذا الموسم    بعد استغلالها لمصالحه الشخصية.. الوزاني يسحب سيارة الجماعة من مستشار بالاغلبية.. ومضيان يثمن القرار    مصممة أزياء: القفطان يجسد رمز عظمة وغنى تاريخ المغرب العريق    مركز متخصص في التغذية يحذر من تتناول البطاطس في هذه الحالات    مطالب نقابية بإقرار منحة لعيد الأضحى    النسر الأخضر الرجاوي يحوم في سماء الملعب الكبير بأگادير ويصطاد غزالة سوس أربعة مرات    سيطرة مغربية في "الترياثلون الإيكولوجي"    مجلس الأمة الكويتي … المأزق بين السلطة التنفيذية والتشريعية    ثلاثة وزراء ثقافة يكرّمون أحمد المديني رائد التجريب في الأدب المغربي    عائلات "المغاربة المحتجزين بتايلاند" تنتقد صمت أخنوش وبوريطة    ماذا يقع بالمعرض الدولي للكتاب؟.. منع المئات من الدخول!    النخبة السياسية الصحراوية المغربية عنوان أطروحة جامعية بالقاضي عياض    انعقاد الدورة ال12 لمهرجان الدولي "ماطا" للفروسية من 17 إلى 19 ماي    انتخاب الريفية فاطمة السعدي عضوا بالمكتب السياسي لحزب الأصالة والمعاصرة    طوابير تنتظر المسلم في معرض الكتاب    العنف الغضبي وتأجيجه بين العوامل النفسية والشيطانية!!!    الأمثال العامية بتطوان... (596)    انطلاق المهرجان الدولي للفروسية "ماطا" بمنطقة "بن مشيش"    القيادة العامة للقوات المسلحة الملكية تكشف تفاصيل مناورات "الأسد الإفريقي"    جماعة طنجة تساهم بنحو 13 مليون درهم لتطوير وتوسيع مطار ابن بطوطة الدولي    اضطرابات في حركة سير القطارات بين الدار البيضاء والقنيطرة    كونفدرالية الصيادلة تشتكي "مستشفى الشيخ زايد" بالرباط وتطالب بفتح تحقيق في توزيعه الأدوية    القضاء المغربي يصدر اول حكم لصالح مواطنة اصيبت بمضاعفات صحية بسبب لقاح كورونا    الخطايا العشر لحكومة أخنوش!    الصين: 39,2 مليار دولار فائض الحساب الجاري في الربع الأول    المغرب يسجل 26 إصابة جديدة ب"كورونا"    الشركات الفرنسية تضع يدها على كهرباء المغرب    المغرب..بلد عريق لا يبالي بالاستفزازات الرخيصة    الأمثال العامية بتطوان... (595)    بتعليمات ملكية.. تنظيم حفل استقبال أعضاء البعثة الصحية لحج موسم 1445 ه    هل يجوز الاقتراض لاقتناء أضحية العيد؟.. بنحمزة يجيب    سابقة بالمغرب .. حكم قضائي يلزم الدولة بتعويض متضررة من لقاح كورونا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بعض مني القط أسود الذي يتحوّل جنيّا
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 07 - 05 - 2012

حيفا مدينة يشهد كل من زارها بأنها من أجمل مدن الدنيا ، كونها تقوم على سفح جبل يطلّ مباشرة على البحر الأبيض المتوسط دون أن يفصلهما سهل ساحلي ، بحيث تطلّ على البحر أينما كنت . في هذه المدينة ولد الدبلوماسي الإعلامي الكاتب واصف منصور ، وبعد أقلّ من ثلاث سنوات طرده الصهاينة رفقة أسرته وأكثر من نصف شعبه الفلسطيني ليصبحوا لاجئين . . أي مجموعة من البشر لا تملك مأكلا ولا ملبسا ولا مأوى . ويصمدوا لكل ذلك ويفجّروا أطول ثورة عرفها التاريخ .
عاش واصف منصورحقبة اللجوء كاملة ، العيش في العراء ثم في الخيام ثم في بيوت أشبه بالقبور ، ويحدّثنا عنها بأدق التفاصيل . وعاش حقبة الثورة كمناضل سياسي وإعلامي وعسكري على مختلف الساحات ، ويحدّثنا عن دروبها ودهاليزها . وبما أن القدر ساقه إلى المغرب حيث قضى فيه ضعف ما قضى في فلسطين ، طالبا جامعيا ومدرّسا ومناضلا طاف كل نواحي المغرب مبشّرا بقضيته ، والتقى ورافق غالبية رجال ونساء السياسة والفكر والأدب والفن والإعلام المغاربة . في هذه الحلقات يحدّثنا فيما يشبه التقارير المفصلة عن حياة المغرب السياسية والإجتماعية والثقافية والإقتصادية على مدار سبع وأربعين سنة .. هذه الحلقات التي ستتحوّل لاحقا مع إضافات وتنقيحات إلى كتاب سيصدر قبل نهاية هذه السنة إن شاء الله .
لم أستمع في طفولتي إلى قصص الجدّات التي تدور حول الخوارق والأساطيرمن مثل الغول والعفاريت والقط الأسود الذي يتحول في الليل إلى جنيّ ، ويسمى القط باللهجة الفلسطينية ( بس ) . ووصل الحال برواة هذه القصص أن قالوا بأن أحد الأهالي وجد ذات ليلة قطا أسودا مقعيا في وسط الطريق ، دون أن يتزحزح من مكانه كما هي عادة القطط عندما يقترب منها الناس ، فلما انتهره قائلا ( بس ) صرخ في وجهه القط الأسود ( وإذا ما بسّيتش ؟ ) .
لم أستمع لهذه القصص لأسباب عدة في مقدمتها أن أبي وأعمامي كانوا متعلمين ، وجلّهم ذوو توجه علماني لا يؤمنون بهذه الخرافات ويرفضون أن تروى على مسامعنا . والسبب الثاني أن هناك قصصا أخرى كانت تعوّضنا عن هذه الحكايات ، قصص أدبية كان يرويها والدي أبو عاطف ، وحكايات حماسية كان يرويها جدي أبو حسن ورواة آخرون .
وجدي أبو حسن هو الشخصية المحورية الأولى في ليل المخيم . وقد كان رحمه الله رجلا متوسط الطول ، أبيض البشرة محمرّها ، ذا عينين خضراوين ، ثا قب النظرات حاد القسمات ، اكتسب من طبيعة قريتنا الجبلية شيئا من القسوة تمثلت في عشقه لكل ما يعتبره رجولة أو (مرجلة ) حسب تعبيره ، والتي هي في نظره القدرة على مصارعة الرجال والاشتباك معهم بالعصي والحجارة واليدين ، والتغلب عليهم . وكان رحمه الله يحرص على أن يعلّمنا أصول وقواعد الاشتباك ، من قبيل : إذا أردت أن تتقاتل مع أحد ، لا تسبّه أو تصرخ عليه وأنت متّجه إليه لكيلا يأخذ حذره ويسبقك إلى الضرب ، وهو أمر كان يحذّرنا منه قائلا ( الضربة للسابق) . ويقول : لا تخا فوا من الجعجاع الذي يعلي صوته ويتعمّد حمل عصى كبيرة جدا أو حجرا كبيرا جدا ، فمثل هذا في نظره جبان إذا هجمت عليه سيهرب.ولم يكن هذا يعني أنه يقبل أن تضرب خصمك من الخلف ، فهذا في نظره غدرلا يليق بالرجال . ولم يكن عدوانيا إذ كثيرا ما أشبعنا ضربا لمجرد أن أحد الأهالي اشتكى منا . لكنه كان يرفض الظلم ويكره المتكبّرين ويحتقر
الأذلاء والمتعاملين مع البوليس
ولا أنسى أنه ذات يوم في بداية عطلة الصيف عام 1961 ناداني فأسرعت إليه كما يقتضي الواجب ، فوجدته يجلس على كرسي واطيء من القش في حوش الدار ، وقال بلهجة حازمة : صرت الآن رجلا ، فقلت له نعم . فقال لي : هل تعلم ماذا يعني ذلك ؟ فقلت : أن أقوم بكل ما تتطلبه الدار بشريا وماديا . فقال : صحيح ، ولكن أهم من ذلك أن تعرف أنه في غياب أبيك وأعمامك للعمل وفي غيابي أنا فأنت تقوم مقامنا ، فإذا صادف أن سمعت وأنت في باب الحوش صوت أية أمرأة أو ضحكتها يجب أن تعاقبها ، وإذا تقاتلت أثنتان منهما يجب أن تعاقبهما الإثنتين . فقلت متسائلا : كلهن ؟ فقال : من أكبرهن لأصغرهن وخرج . كانت نساء الدار كلهن قد وقفن على أبواب غرفهن خائفات علي من مناداة جدي ، ولما خرج توجهت إلى زوجة عمي أبوغسان التي كانت أكثرهن مرحا وكنت أحبها جدا وقلت لها وأنا أتمختر: هل سمعت ؟ والله غير ... ولم أكمل جملتي حتى هجمن عليّ وأشبعنني قرصا وعضّا .
وذات يوم ونحن نسكن مخيم الجلزون ، كان أحد أبناء قريتنا واسمه أبو رشاد حصلت بيننا وبينه عداوة بسبب انه جرت إنتخابات في المخيم لإختيار من سيمثّل الأهالي في مواجهة وكالة الغوث والسلطات الأردنية عندما يقع ما يستدعي ذلك ، وقد تنافس أبو رشاد مع والدي ولكن الأهالي اختاروا والدي . ذهب أبو رشاد إلى مخفر الشرطة وأخبرهم أن والدي أبوعا طف يملك بندقية ( وكان بالفعل يملك بندقية من أيام كان مقاتلا مع الثوار في حرب 1948 ) وكان هذا الأمر جريمة عند النظام الأردني ، وعقوبته كبيرة جدا . فجاءت دورية من الشرطة ورافقها أبو رشاد في طريقها إلى خيمتنا بعنجهية أو لغباء ، ففي مثل هذه الحالة لا معنى لقدومه مع الدورية ، وقد علم أهلي بقدوم الدورية منذ تحركها بسبب تعاطف عموم الناس معنا ، فقام أهلي بإخفاء البند قية في مكان آمن . وقف جدي وابناؤه أمام خيامنا ونادى جدي بصوت عا ل على المدعو أبو رشاد طالبا منه عدم الاقتراب من الخيمة ، وكرّرها عليه ثلاث مرات ، ولكن أبو رشاد رفض التراجع أو التوقف ، فصرخ جد ي على عمي حسين قائلا له ( حسين ، اقتله ) والضرب المبرّح باللهجة الفلسطينية يسمى « قتل « . فما كان من عمي حسين إلا أن اتجه إلى إحدى الخيام وانتزع منها عمودا وضرب به أبو رشاد ضربة احتاج الأطباء إلى أكثر من عشرين غرزة لمعالجتها .
كانت أحلى القصص لدى جدي أبو حسن ما يدور منها حول حياة البدو الذين كانوا يعيشون مع مواشيهم في الأحراش المحيطة بقريتنا . فقد عاش جدي سنين عديدة عند أصدقاء والده من البدو عندما بلغ سن الرشد مما جعله مطلوبا للتجنيد في الجيش العثماني حيث كانت فلسطين في وقتها جزءا من أراضي الدولة العثمانية ، فأرسله والده عندهم ليختفي هناك عن أعين الأتراك خاصة وأنهم لم يكونوا يجنّدون البدو ، وعلى ذلك كنا نلاحظ أن لهجته بدوية إلى حد ما وتتضمن الكثير من كلمات البدو . وأشهر قصصه تدور حول الشيخ مطلق الشقيري شيخ أحدى القبائل ، الذي يروى أنه صرخ ذات ليلة فجفلت الخيل على بعد أكثر من عشرة كيلومترات وقطعت الحبال المربوطة بها وفرّت مفزوعة.
إلى جوار حكايات جدي أبو حسن ، كانت هناك حكايات من نوع آخر يتولى سردها والدي أبو عاطف رحمه الله في الغرفة الكبيرة التي ابتنيناها لاحقا إلى جوار الغرفة التي بنتها لنا الاونروا ، وكانت ملتقى يوميا لوجهاء المخيم ورجال عائلتنا . حكايات مختلفة يتم سردها باللغة العربية الفصحى أو بالعامية المفصّحة ، وتكون مصحوبة في كثير من الأحيان بأبيات شعرية . وكان هذا الأمر مكلفا بالنسبة لنا في ظل حالة الفقر التي نعيشها ، حيث كان من الطبيعي أن نقدم للحضور على الأقل كأسا من الشاي أو فنجانا من القهوة . وبالنسبة للقهوة والشاي ، فقد كان الشاي أكثر انتشارا ، إذ أن قدرا قليلا من الشاي يصنع مع الغلي الكثيرإبريقا كبيرا تشربه العائلة كلها ، وعليه فقد كانت القهوة تقدم في الغالب للضيوف الأعزّاء . وفي داخل الأسرة كان يشربها الكبار فقط ، فقد كانت ممنوعة على النساء فيقال لهن : لا تشربن القهوة لكيلا تصبحن سمراوات، حيث كانت النساء البيض هن المفضلات . وممنوعة على الصغار فيقال لهم ( لا تشربوا القهوة لكيلا تنبت شواربكم مبكرا ) . والحقيقة أن هذا المنع مردّه الفقر لا أكثر ولا أقل .
كان أبو عاطف قد درس في مدرسة قريتنا إلى غاية آخر قسم فيها وهو مستوى الشهادة الابتدائية . وكان عليه إن أراد إ ستكمال دراسته الثانوية الإنتقا ل إما إلى مدينة حيفا أو مدينة عكا أو مدينة الناصرة . ولكن جدي أبو حسن ? رغم قدرته المادية على تحمل مصاريف الدراسة في المدينة ? رفض الفكرة من أساسها ، لأنه بحسب تعبيره كان ينتظر بفارغ الصبر أن يكبر ابنه البكر ليساعده في فلاحة أرضه الواسعة نسبيا .
كان أبو عاطف شغوفا بالأد ب عموما والشعر على وجه الخصوص ، وكذلك بالتاريخ وخاصة التاريخ العربي. وقد علمنا لاحقا أن أبوعاطف كان يأخذ معه دائما كتابا وهو ذاهب ليحرث الأرض ، وكان كلما توقّف للراحة وإراحة الثيران التي كان يحرث عليها ، يجلس ويقرأ الكتاب الذي أحضره معه . ولكونه كان يتمتع بقسط وافر من الذكاء ? كما يحكي مجا يلوه ? كان يحفظ فصولا أو مقاطع طويلة مما يقرأ ، ويحفظ كمّا هائلا من الشعر وخاصة لشعراء المعلقات في العصر الجاهلي وشعراء العصرين الأموي والعباسي . وقد كانت له بعض الأشعار التي مع الأسف لم أقع لها على أثر ، وأحفظ له بيتا واحدا يقول فيه مخاطبا الزعماء العرب
رقصتم على أجداثنا طربا
ومن أناّ تنا ناي ومزمار
كما أحفظ له موالا من الشعر الشعبي يقول فيه
يا ابو ( فلان ) صبّ هالقهوة ودرها
بها الليلة اللي مشعلل بدرها
وإيدي من تحت عمري ما بادرها
لا ، وعليّ الطلاق من المرة
أتذكر أنه عندما قدمت إلى المغرب للدراسة ، بعث لي برسالة يطلب مني فيها اقتناء كتابين وإرسالهما له مع أي قادم للوطن أو بالبريد ، وهما : كتاب ( المخلاة ) وهو على شاكلة كتاب العقد الفريد لابن عبد ربه ، والثاني كتاب ( المراقسة ) الذي يضم حياة وأشعار كل الشعراء الذين اسمهم امرؤ القيس . كما لا أنسى أنه عندما كان يشتغل كاتبا عند المحامي مصطفى عودة في نابلس أحضر لي من مكتبته كتاب ( الأغاني ) لابي الفرج الاصبها ني المتكون من ثلاثة وعشرين مجلدا ، وطلب مني قراءته وأنا في سن السادسة عشرة من عمري .
ومما تحمله ذاكرتي أن والدي كان معجبا جدا بعنترة ابن شداد ، ورأيت عنده كتاب يحكي سيرة عنترة يتكون من ثلاث مجلدات غلافها أسود اللون ، رغم أن كتب التاريخ وكتب الأدب لم تتضمن سوى مشاركات معدودة لعنترة في معارك حرب ( داحس والغبراء ) وعددا محدودا من القصائد المتوسطة الطول إلى جانب معلقته التي تدور في الأساس حول سيفه ورمحه وحصانه وحبيبته عبلة ، مما يؤكد بان شخصية عنترة بن شداد الاسطورية طغت على شخصيته الحقيقية . وقد قدّرت لاحقا عشق أبو عاطف لعنترة بن شداد عندما اكتشفت أنه هو قائل ما تتغنى به الفنانة التي لا تتكرر فيروز.
لو كان قلبي معي ما اخترت غيركم ولا رضيت سواكم للهوى بدلا
لكنه راغب فيمن يعذّ به وليس يقبل لا لوما ولا عذلا
وازدد ت تقديرا لعشق والدي لعنترة بعد أن قرأت غزله الذي يفيض رقة وعذوبة بحبيبته عبلة ، وهو الفارس الذي يشكل السيف والرمح والقتل والقتال محور حياته ، ولم يحسّ إلا بشظف العيش عندما كان عبدا لم يعترف أبوه به ، وقسوة الحياة وكثرة مخاطرها عندما أصبح فارس بني عبس . ومع ذلك تجده في معلقته الشهيرة يقول مخاطبا حبيبته عبلة
ولقد ذكرتك والرماح نواهل منّي وبيض الهند تقطر من دمي
فوددت تقبيل السيوف لأنها لمعت كبارق ثغرك المتبسم
وكانت له حكايات سياسية أخرى من أيام عمله النقابي مع ( جمعية العمال العربية ) التي كان يقودها المناضل الكبير سامي طه ، ومساهمته في تأسيس عصبة التحرر الوطني ( الحزب الشيوعي لاحقا ) ، وعمله السياسي في الضفة الغربية بعد إلحاقها بالضفة الشرقية لتصبح المملكة الأردنية الهاشمية ، وذكرياته في سجون السلطة الأردنية ، وتحليلاته للظروف السياسية في فلسطين والمنطقة العربية خاصة بعد قيام ثورة يوليو / تموز 1952 في مصر بقيادة جمال عبد الناصروحرب السويس عام 1956 وثورة عبدالكريم قاسم في العراق عام 1958.
وأغرب ما تحمله ذاكرتي كدليل على رفض والدي للخرافات ومحاربته لها أن أحد أبناء المخيم استشهد في صدامات مع السلطة الأردنية عام 1954 ، فبنى له شباب المخيم قبرا عاليا كان يمثابة ضريح للجندي المجهول . وكان لوالدي صديق اسمه ابو رشيد يسكن في الحارة الملاصقة للمقبرة ، فكان والدي وأبو رشيد يذهبان في الليل للسهرمتكئين على جدار الضريح ، وكانت زوجة أبو رشيد تزوّدهما بما يتيسّر من قهوة أو شاي . وقد لاحظ بعض الناس ظهور ضوء عند الضريح في الليل ، فبدأت الإشاعات تسري في المخيم تتحدث عن نورربّاني يشعّ من الضريح في الليل . وصلت الإشاعة إلى عمي أبو منصور وعمي أبوحنان اللذين كانا علمانيين لا يؤِمنان بمثل هذه الأساطيررغم إحترامهما للشهادة والشهداء ، فقررا أن يكشفا حقيقة هذه الإشاعة . تسلّلا ليلا إلى المقبرة ولما اقتربا من الضريح سمعا صوت أبي وأبو رشيد ، فتوجها نحوهما وطلبا منهما مغادرة المقبرة وعدم العودة إليها ليلا ، لأن لمعان سجائرهما تحوّل عند الناس إلى نور رباّني .
وفي نفس المجال أذكر بأن أحد جيراننا في المخيم استدعى ذات يوم شيخ طريقة صوفية من نابلس ومعه فرقة موسيقية نحاسية ، والتقط الشيخ أحد أبناء عمومتنا وأدخل قضيبا معدنيا بين فكيّه وأخرجه دون إسالة قطرة دم واحدة كدليل على كراماته . فاعترضه والدي ووبّخه على ما فعل وقال له : نحن نعلم أن هذه المنطقة من الفم ليس فيها إلا شعيرات دموية قليلة جدا ، إعطني القضيب لإدخله في رقبتك ، فرفض الشيخ . فقال والدي للناس المتجمّعين : أرأيتم الكرامات الكذّابة للشيخ؟ فانفضّ الناس من حوله .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.