تواصل حراك التضامن مع الشعب الفلسطيني في المغرب.. مظاهرات في 56 مدينة دعما لغزة    قناة عبرية: استقالة رئيس الأركان الإسرائيلي قريبا وجميع الضباط المسؤولين عن كارثة 7 أكتوبر سيعودون إلى ديارهم    زلزال بقوة 6.1 درجات يضرب هذه الدولة    الخارجية البريطانية: ما عندنا حتى تعاون مع المغرب فمجال الطاقة النظيفة والمناخ فالصحرا    فرنسا مستعدة ل"تمويل البنية التحتية" لنقل الطاقة النظيفة من الصحراء إلى الدار البيضاء    بعد مفاوضات ماراثونية..الاستقلال ينتخب رئاسة ثلاثية للمؤتمر ال18    إسبانيا تعزز وجودها العسكري بالقرب من المغرب    روينة فمؤتمر الاستقلال..هجوم على المنصة وتيار ولد الرشيد لعب بخطة وطلع واعر سياسيا وغلب فاسا: الانصاري مرشح لرئاسة المؤتمر    مجلس الأمن.. حركة عدم الانحياز تشيد بجهود جلالة الملك لفائدة القضية الفلسطينية    خمسة فرق تشعل الصراع على بطاقة الصعود الثانية وأولمبيك خريبكة يهدد حلم "الكوديم"    مجلس أمناء الاتحاد العربي للثقافة الرياضية يجتمع بالدوحة لمناقشة خطة 2025    طقس السبت... نزول أمطار في عدد من مناطق البلاد    "التكوين الأساس للمدرس ورهان المهننة" محور ندوة دولية بالداخلة    طنجة.. توقيف 3 أشخاص متورطين في ترويج المخدرات وحجز كمية كبيرة من حبوب الهلوسة    مراكش: فتح بحث قضائي في واقعة تسمم غدائي تسبب في وفاة سيدة    ملف الطبيب التازي ..المحكمة غادي تقول الكلمة ديالها الجمعة الجاية بعدما أخرات باش تسمع الكلمة الأخيرة للمتهمين    السعيدية.. افتتاح النسخة الثامنة من تظاهرة "أوريونتا منتجعات السعيدية – حكايات فنية"    مصادقة المؤتمر بالإجماع على مشاريع تقارير اللجان    مغني راب إيراني يواجه حكماً بالإعدام وسط إدانات واسعة    سيناريوهات الكاف الثلاث لتنظيم كأس إفريقيا 2025 بالمغرب!    زرقاء اليمامة: قصة عرّافة جسدتها أول أوبرا سعودية            زفاف العائلات الكبيرة.. زواج ابنة أخنوش من نجل الملياردير الصفريوي    سامسونغ تزيح آبل عن عرش صناعة الهواتف و شاومي تتقدم إلى المركز الثالث    هجوم روسي استهدف السكك بأوكرانيا لتعطيل الإمدادات د مريكان    حريق كبير قرب مستودع لقارورات غاز البوتان يستنفر سلطات طنجة    تطوير مبادرة "المثمر" ل6 نماذج تجريبية يَضمن مَكننة مستدامة لأنشطة فلاحين    زلزال بقوة 6 درجات يضرب دولة جديدة    الأكاديمية تغوص في الهندسة العمرانية المغربية الإسبانية عبر "قصر الحمراء"    الرابطة الرياضية البيضاوية يؤكد ان الوحدة الترابية قضيتنا الاولى    بوزنيقة : انطلاق المؤتمر 18 لحزب الاستقلال بحضور 3600 مؤتمر(فيديو)    ممثل تركي مشهور شرا مدرسة وريبها.. نتاقم من المعلمين لي كانو كيضربوه ملي كان صغير    جمارك الجزائر تجهل قانون الجمارك    رئيس بركان يشيد بسلوك الجمهور المغربي    الصحراء تغري الشركات الفرنسية.. العلوي: قصة مشتركة تجمع الرباط وباريس    اكتشف أضرار الإفراط في تناول البطيخ    "طوطو" يشرب الخمر أمام الجمهور في سهرة غنائية    كورونا يظهر مجدداً في جهة الشرق.. هذا عدد الاصابات لهذا الأسبوع    رئيس اتحاد العاصمة صدم الكابرانات: المغاربة استقبلونا مزيان وكنشكروهم وغانلعبو الماتش مع بركان    الأمثال العامية بتطوان... (583)    السعودية تحذر من حملات الحج الوهمية عبر مواقع التواصل الاجتماعي    تتويج 9 صحفيين في النسخة الثامنة للجائزة الكبرى للصحافة الفلاحية والقروية    بيدرو روشا رئيساً للاتحاد الإسباني لكرة القدم    دراسة: التمارين منخفضة إلى متوسطة الشدة تحارب الاكتئاب    الأمير مولاي رشيد يترأس بمكناس مأدبة عشاء أقامها جلالة الملك على شرف المدعوين والمشاركين في المعرض الدولي للفلاحة بالمغرب    ‬غراسياس ‬بيدرو‮!‬    بايتاس : الحكومة لا تعتزم الزيادة في أسعار قنينات الغاز في الوقت الراهن    سعر الذهب يتجه نحو تسجيل أول خسارة أسبوعية في 6 أسابيع    محمد عشاتي: سيرة فنان مغربي نسج لوحات مفعمة بالحلم وعطر الطفولة..    بروفيسور عبد العزيز عيشان ل"رسالة24″: هناك علاج المناعي يخلص المريض من حساسية الربيع نهائيا    عرض فيلم "أفضل" بالمعهد الفرنسي بتطوان    مؤسسة (البيت العربي) بإسبانيا تفوز بجائزة الشيخ زايد للكتاب في دورتها ال18    الأمثال العامية بتطوان... (582)    جراحون أميركيون يزرعون للمرة الثانية كلية خنزير لمريض حي    لأول مرة في التاريخ سيرى ساكنة الناظور ومليلية هذا الحدث أوضح من العالم    في شأن الجدل القائم حول مدونة الأسرة بالمغرب: الجزء الأول    "نسب الطفل بين أسباب التخلي وهشاشة التبني"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رحلة البحث عن الذات


الفقرة السادسة
في زمن الثورة «التشيكوسلوفاكية» وذروتها تعرفت على فتاة، كان ذلك في مرقص الحي الجامعي في نهاية إحدى العطل الأسبوعية، كنت حينها قد التحقت بالجامعة بمدينة «براتيسلافا» كانت شقراء، جميلة، ذات عينين زرقاوين، متوسطة الطول، إسمها «كطارينا». لقد كنا أربعة على الطاولة بإحدى زوايا المرقص، كان صديقي «علي» المغربي رفقة صديقته «سوزكا» التي كانت تصطحب معها صديقتها «كاطارينا»، كان الضوء خفيفا والموسيقى هادئة، تبادلنا النقاش والحوار، حول الدراسة ومستقبل البلاد وأمور شخصية أخرى، كانت «كاطارينا» أمامي، وفي لمحة بصر تبادلنا نظرات كان فيها كثير من الكلام وبعدها همست إليها بكلمات ليست كباقي الكلمات، فعزمتها على الرقص وقبلت، كنا نرقص بشكل جميل وهادئ، فاقتربت مني أكثر واقتربت أنا أيضا، احتضنتها فاستعاب صدرها لاحتضاني، وضعت فمي على فمها فتداخلت الدبدبات والأحاسيس وبدأنا نصنع الحب. بعد انتهاء المقطع الموسيقي الهادئ بدأت موسيقى الروك الصاخبة، عدنا إلى الطاولة ونحن في عالم آخر، كان «علي» قد أخذ صديقته للتجول بالمرقص، فوجدت نفسي وجها لوجه مع «كاطارينا» فأخذت المبادرة بدون تردد وقلت لها:
- «أتصبحين صديقتي، عفوا أقصد حبيبتي؟»
ابتسمت وعم الصمت، فهمت أنها قبلت.
انتهت السهرة تبادلنا القبل ودعت «علي» وصديقته وضربت موعدا معها في اليوم الموالي.
كانت الساعة السادسة من مساء يوم الموعد، كنت بغرفتي أنتظرها، فطرق طارق، قمت مسرعا، فتحت الباب إنها «كاطارينا» قفزت في اتجاهي بقوة فاحتضنتني، ثم قبلتها وأنا في غاية الدهشة، قلت لها مرحبا، ثم التفتت خلف الباب حاملة معها قنينة نبيذ حمراء، وطبق متنوع من الحلوى السلوفاكية، فهمت القصد فبدأت رحلة الحب.
كان عمرها لا يتجاوز 22 سنة. الغريب في الأمر أنها أيضا ولدت في سنة ليست كباقي السنوات، ولدت في 5 مارس من سنة 1968، خلال هذه السنة عرفت دولة «تشيكوسلوفاكيا» أحداثا متعددة كان أهمها ربيع براغ، لقد انتهت هذه الأحداث المؤلمة كما أشرت سابقا بهزيمة الثوار وإذلالهم. في المقابل استمر النظام الشيوعي في بسط سيطرته على زمام الأمور. كانت تدرس بجامعة «كومنيوس» شعبة الاقتصاد في سنتها الدراسية الثالثة. بعد حوالي شهر من اللقاءات المتعددة قررنا أن نقيم معا. اقترحت عليها أن تقيم معي في غرفتي بالحي الجامعي «اشتورك»، فكانت بداية الاستسلام لحب البوهيميا وعالمه المجهول، فمن خلال «كاطارينا» بدأت أكتشف المرأة كأنني كنت في عالم لا نساء فيه، فقلت في نفسي:
«كيف كنت أعيش في المغرب بجانب النساء وفي نفس الوقت بعيدا عنهن كل البعد، لا أعرف شيئا عن معاناتهن وتعاستهن، عن أفراحهن وسعادتهن... إنه عجب العجاب».
كانت «كاطارينا» تشعر معي بالرضا وتمدني بالحب والحنان. ولكن أحيانا يظهر ذلك الوحش الذي يسكنني فأفقد صوابي ونختلف، نصرخ... إنه صراع الثقافات.
لكن سرعان ما ندبر هذا الاختلاف وتعود المياه لمجراها وتستمر علاقتنا.
في هذه اللحظات التي ليست ككل اللحظات وأنا بين أحضانها أشعر بسعادة عارمة، أشعر بنفسي محبوبا أكثر من أي وقت مضى، وبدأت أتسأل:
- أهذا هو الحب أم أنا ضحية الوهم؟ أم أنها مجرد شفقة من «كاطارينا»؟
كانت من حين لآخر تسألني:
- هل أنا جميلة؟
فأوجه إليها سؤالا آخر:
- هل أمك جميلة؟
أجابتني قائلة:
- لم أفكر بتاتا في الموضوع ولكن هي جميلة لأنها أمي.
فقلت لها:
- ما قيمة الجمال أو القبح أمام الحب وأمام هيجان العواطف وعظمة الشعور بدبدبات الآخر ورعشاته، فأنت حبيبتي وجميلتي.
في نهاية الأسبوع كان الطلبة والطالبات من مختلف الاختصاصات والجنسيات يجتمعون بمطعم «بودماخناتشوم» بضواحي مدينة «براتيسلافا»، كنا نتناقش أبعاد ومستقبل ثورة «تشيكوسلوفاكيا» ومصير المجتمع برمته بكثير من الجدية والمسؤولية. في عز النقاش تدخلت «كاطارينا» قائلة:
- «قبل قيام النظام الشيوعي كانت عائلتنا تعيش في ظروف حسنة، قدرتها الشرائية في أحسن حالها، كان لنا منزل كبير وكنا نملك أشياء ثمينة وتحف نادرة ومختلفة، نعيش حياة رغدة، كان الناس في ذالك الوقت الجميل يشتغلون بتفان ويتنافسون في ما بينهم ويساعدون بعضهم البعض، فعلا كانت الحياة جميلة. هكذا كانت تحكي لنا جدتي ونحن صغار. بعد قيام النظام الشيوعي أممت البلاد وصودرت منا كل أملاكنا وأصبحنا لا نملك شيئا، أصبحنا نملك منزلا صغيرا فقط ونشتغل في مؤسسة الدولة الشيوعية، بعد ما كنا أسياد أنفسنا أصبحنا عبيد النظام لا حول لنا ولا قوة. ثار على الوضع الجديد عدد كبير من أفراد العائلة ومن أفراد شعب البوهيميا، فكان مصير أغلبهم السجن أو النفي أو الموت، ولكن بعد كل هذه المآسي استسلمت الأغلبية لواقعها الجديد، واستمرت الحياة، بل الموت البطيء».
كانت «كاطارينا» تتكلم بحصرة وآلام، سالت دموعها وهي تستحضر معاناة والديها وكل أفراد العائلة وشعب البوهيميا بأسره، وأضافت أن أفراد عائلتها يجتمعون في الآونة الأخيرة بين الفينة والأخرى من أجل المطالبة باسترجاع ممتلكاتهم الضائعة، تضامن الجميع معها، وقلت لها وأنا في شدة الغضب:
- «أهذه هي الشيوعية التي نظر إليها «ماركس» و «إنكلز» والتي أوجدها على أرض الواقع ‹لنين› و»سطالين» إنها أكذوبة صدقناها ونحن في قمة الجهل والأمية، فنحن معكم متضامنون حتى يبزغ فجركم الجديد».
بعد سنتين أنهت «كاطارينا» دراستها الجامعية بتفوق وقررت الرحيل إلى «النمسا» بالضبط إلى عاصمتها «فيينا» التي لا تبعد عن مدينة «براتيسلافا» إلا ببضع كيلومترات، من أجل العمل.
بعد السفر، كانت تقوم بزيارتي كل أسبوعين، كم كنت أشتاق إليها، كانت تكلمني عن «فيينا» ومتاحفها وأسوارها ومسارحها، حيث كانت منبهرة ومتعطشة للحرية وإلى كل شيء جديد. كانت تقول لي:
- «رغم أن «براتيسلافا» ليست ببعيدة عن «فيينا»، لكن أجد نفسي غريبة عن عالمها كأنني في كوكب آخر».
وأضافت قائلة:
- «ألهذه الدرجة نجحت الأنظمة السياسية والإيديولوجيات الراسخة في التفريق بيننا، رغم أننا كنا في يوم من الأيام نعيش تحت ظل الإمبراطورية النمساوية المجرية؟ شيء غريب كل ما حدث. إذا لماذا حدث هذا؟ وهل يمكن إعادة الزمن الجميل؟»
بعد حوالي ثلاثة أشهر حدث ما لم يكن في الحسبان.
الفقرة السابعة
ذات صباح بارد من أيام فصل الشتاء، كانت درجة الحرارة المسجلة حينها عشرون درجة تحت الصفر، كانت الأرض مكسوة بالثلوج كأنها لوحة فنية نادرة، يا لروعة المكان وجماله، في هذه الفترة من السنة تتجمد الأنهار والبحيرات ويصبح عالم البوهيميا عالما آخرا قريبا من الخيال، تسقط أوراق أشجار الغابات الكثيفة سواء بضواحي «براتيسلافا» أو بسهول «مورافا» الشاسعة ذات الأنهار العريضة أو بجبال «التتراس» الخلابة فكانت الثلوج تغمر كل هذه الأمكنة وتصبح الأرض صحراء بيضاء جامدة. كنت بين الحين والآخر أقوم بزيارات استطلاعية لهذه المناطق الجميلة رفقة طلبة وطالبات من مختلف الجنسيات في إطار الأنشطة الجامعية المتنوعة. وأنا أستحضر عظمة الطبيعة الخلابة هاته كنت في غرفة الحي الجامعي أتابع عبر النافذة تساقط الثلوج وحركية الطلبة والطالبات يتصارعون مع الزمن من أجل المعرفة والتحصيل، كنت حينها أنتظر «كاطارينا» بلهفة. كان ذلك في نهاية الأسبوع، كان البرد قارسا وكان الثلج يتساقط بقوة وبشكل غريب كأن السماء على علم بما سيحدث.
كنت أنتظر عودتها لتغمرني بدفئها وحنانها وطيبوبتها، مر على موعدها ساعة ثم ساعتين، مر اليوم كله بدون أن أيأس من الانتظار؛ حينها أحسست بشعور غريب كأن هناك شيئا لابد منه سيقع، صدقوني لم أنم طوال الليل.
في اليوم الموالي ازدادت تعاستي وكبر حزني، سألت عنها في كل مكان، سألت كل أصدقاءها وصديقاتها، سألت «سوزكا» و»نطاشا» و»مونيكا» و»إفان» و»مرتين»... فكان جوابهم دائما سلبي لا يشفي الغليل. أصبحت شاردا وتائها أبحث عنها كأنني أبحث عن السراب، أبحث عنها كالمتشرد في كل أزقة «براتسلافا» و خاصة في الأماكن التي كنا نتردد عليها معا ولكن بدون جدوى، فأصبح القلق يمزق أحشائي وأصبحت أشعر بالخوف. في وقت قصير علم الكل بقصتي وأصبح الكل ينظر إلي نظرة شفقة لأنهم يعرفون مدى قوة العلاقة التي كانت تربطنا. نعم لقد تيقنت اللحظة بأنني أعيش قصة حب. كان هذا الحب بمثابة استسلام اكتسبت من خلاله دفء وطيبوبة الآخر في غياب دفء الأصدقاء والعائلة والوطن، منحت نفسي ل»كاطارينا» كذلك الجندي الذي يرمي مسبقا كل أسلحته ويجد نفسه بعد ذلك أعزل تنتظره الضربة القاضية في أي لحظة. إذا لقد تحول هذا الحب في رمشة عين إلى كابوس مقلق لا أعرف متى سينجلي، ازداد قلقي وتوتري وأصبحت أكثر عنفا، كرهت النساء والناس وأصبحت أميل إلى الوحدة والعزلة؛ في ظل هذه الدراما المأساوية لم أجد أمامي سوى المقبرة المجاورة لحينا الجامعي لعلني أجد فيها المواساة والدفء والحنان والسلام. كانت هذه المقبرة تشبه الحديقة، تكسوها النباتات والأشجار المختلفة الألوان، عندما يحل المساء وخاصة في عيد الموتى تكتظ المقبرة بالشموع المضاءة فيخيل للزائر أن الموتى يقيمون حفلا راقصا بحضرة الملائكة، يعم بها السلام والأمن والأمان. أمام استسلامي لقدر الحب وجدت نفسي بين أحضان الموتى أحكي لهم ألمي وعذابي، فكان جوابهم في صمتهم وسكينتهم وبراءتهم ونعمت السلام الذي يخيم عليهم. في تلك اللحظة بدون أن أشعر تذكرت مقابر المغرب، بالنسبة لمقابر البوهيميا لا مقارنة على الإطلاق، فهي مزبلة قذرة يقصدها المتسولون ويحتمي بها المجرمون والمخمورون ويتهافت عليها المشعوذون فلا سلام ولا أمان ولا احترام لحق الإنسان حتى بعد موته.
غادرت المقبرة في اتجاه المجهول، وجدت نفسي بدون تفكير مسبق في مكان هو عبارة عن مطعم صغير بجانب الحي الجامعي يجتمع فيه الطلبة للتسلية والدردشة بعد عناء الدراسة، كان المطعم يدعى «طروبيكانا»، جلست لوحدي في ذلك المكان الذي كنت أجلس فيه مع «المرحومة» الاسم الذي أصبح أصدقائي يطلقونه على «كاطارينا» كأنهم يعلنون موتها ويقدمون لي عزاء ينسيني قصة حبها.
بينما كنت أتأمل عائدا بالذاكرة إلى زمن الحب، جاء أحد الأصدقاء يدعى «بيتر» رفقة صديقته «إيفا» وهما طالبان في كلية الطب من أصول مجرية، والمجر أقلية تعيش في مدينة «براتيسلافا» ونواحيها يفصلهم نهر الدانوب عن وطنهم الأم، ليقاسماني الطاولة، من خلال ملامحهما عرفت أنهما على دراية بقصتي مع «المرحومة».
قالت «إيفا»:
- «نحن آسفان على الذي حصل ولكن لا تبالي يا صديقي فالإنسان مهما كان يعوض ستجد فتاة أخرى تنسيك «كاطارينا»، إنها مسألة وقت لا أقل ولا أكثر».
أما «بيتر» فقال وهو يحتسي الجعة البوهيمية كعادته:
- «إسمع مصطفى، إذا قررت مرة أخرى أن تحب امرأة وتقبل بالاستسلام لها والارتماء في حضنها، عليك أن تزيل أحشاءك كلها، أن تزيل كبدك ورئتيك وقلبك وجهازك الهضمي وأن تضعهم جانبا وتحبها بجوف فارغ كي لا تكتوي بنارها مرة أخرى»... قال ذلك وهو يضحك بصوت عال لفت من خلاله انتباه الآخرين.
صاحت «إيفا» مستنفرة:
- «أهكذا أنت أيها المخادع؟»
فرد «بيتر» ضاحكا كعادته:
- «أنا أتكلم حبيبتي عن المرأة أما أنت، أنت ملاكي وحبيبتي».
فضحكنا معا وأتممنا نقاشنا في أشياء أخرى لعلها تنسيني ضربة «كاطارينا» الموجعة.
بعد لحظة ألتحق بنا شلة من الأصدقاء من مختلف الجنسيات: من تشيكوسلوفاكيا، من اليمن، من الأردن، سوريا، البرازيل، نيكاراكوا، أنكولا... فدخلنا في نقاش كعادتنا، كنا دائما نختار موضوعا نناقشه ونتداول فيه بحرية ومسؤولية، كان موضوع الليلة عن الحب. لا أتذكر من بادر باختيار هذا الموضوع، ربما اختياره مقصود للتخفيف من معاناتي وقلقي. كان السؤال المحوري للنقاش: ما الذي يعنيه الحب والجنس لنا جميعا؟
فبعد نقاش هادئ وجميل، انقسمت الآراء إلى قسمين:
هناك من يرى أن الجنس منطقة أصبح يحتلها الحب بعد صراع مرير ونقذ لاذع تم خلاله تجاوز الخطوط الحمراء وعودة الإنسان إلى ذاته والتصالح معها وبالتالي أخرج الجنس من مجاله الشيطاني وأدخل إلى مجاله الملائكي؛ وأصحاب هذا الطرح أغلبهم من بلاد البوهيميا والدول الأوربية المجاورة، إذا فمفهوم الجنس لديهم أصبح يقارب مفهوم الحب.
وهناك فئة أخرى ترى أن الجنس مجرد شهوة شيطانية غير مرغوب فيها ولكن نمارسها بطريقة غير معلنة وفي عمق الظلام الدامس. وكان أغلب أصحاب هذا الرأي من الدول العربية والإفريقية.
قادنا هذا النقاش إلى طرح سؤال آخر: كيف ننظر إلى المرأة؟
لم تكن الأجوبة واضحة، ولكن خلال النقاش استنتجت أن هناك من يرى أن المرأة شريك أساسي في المجتمع شأنها شأن الرجل فهي إنسان كامل لديها كل الحقوق والواجبات. وهناك من يرى أن المرأة مجرد شهوة ورغبة، بل هناك من ذهب بعيدا حيث كان يرى أن المرأة مجرد ثقب يفتح ويقفل في أي زمان ومكان.
كان نقاشا ملفتا، لم أشارك فيه بأخذ الكلمة، بل التزمت الصمت. وبين حين وآخر كنت أحاور ذاتي في صمت وأقول:
«شيء جميل ما يقع اللحظة، نتكلم عن الحب، عن الجنس، عن الرغبة، عن اللذة وهي غرائز ورغبات فطرية ملازمة للإنسان، ومن يقول العكس، فهو منافق وجبان، فتذكرت كيف نتعامل في المغرب مع هذه المواضع الحساسة التي ظلت ولمازالت طابوهات خارج النقاش المجتمعي. فأغلبنا لا يميز بشكل واضح بين الجنس والحب، بين الرغبة واللذة، نعيش في الخلط والتيهان والفوضى، إلى متى سنظل هكذا مختبئين في بيوت من زجاج بعيدين عن حقيقة ذواتنا وعن طبيعة الإنسان فينا».
بدون أن ألفت نظرهم، وفي عز النقاش غادرت المكان، كان ذلك في منتصف الليل حيث التحقت بغرفتي بالحي الجامعي، كانت الغرفة فارغة يخترقها الصمت من كل الجوانب، يملأها الخوف. في هذه اللحظة بدأ الماضي القريب يتراءى أمامي، نعم أشم رائحتها، أسمع صوتها، أرى صورتها، بل أكاد ألمسها. اختلطت الأمور، فقدت توازني، بدأت أصرخ بصوت عال، بدأت أكسر الأثاث وكل ما أجده أمامي. سمع الطلبة المجاورون لغرفتي صراخي، فأسرعوا لاستقصاء ما يجري، وجدوني في حالة هستيرية. فسارعوا لتهدئتي ومواساتي. علمت بعدها أنهم يعرفون قصتي، أحضروا لي فنجان قهوة شربته بسرعة وبعد دردشة قليلة غادروا الغرفة، فوجدت نفسي وحيدا مرة أخرى، أخذت على الفور حماما باردا في عز البرد والصقيع. بعدها وجدت نفسي وجها لوجه أمام قنينة «فودكا» من النوع الروسي، احتسيت بدون تردد الكأس الأول ثم الثاني ثم الثالث والبقية تعرفونها... استسلمت إلى النوم بدون مقاومة، كان نوما عميقا لم أعرفه منذ مدة.
حل الصباح فوجدت نفسي ملقا على السرير، كان رأسي يوجعني كثيرا، لم تكن لي الرغبة في تناول الطعام ولكنني كنت ظمآنا. بعد أن أخذت حماما دافئا ولبست ملابسي، اتجهت مباشرة نحو مقهى الحي الجامعي لشرب قهوة الصباح. كان اليوم يوم أحد، في هذا المكان كان الطلبة يجتمعون أيضا من أجل الدردشة والنقاش والتسلية، خاصة الطلبة الأجانب. ومن خلال هذه اللقاءات والنقاشات تعرفت على حقائق كنت أجهلها، عن تاريخ الشعوب والدول، عن نقط قوتها وضعفها عن استبداد حاكميها، عن ضعف مجتمعاتها، عن كذب ونفاق ساستها، عن إيديولوجياتها، حينها فهمت ويا ليثني لم أفهم، أنني كنت أعيش في وهم الحقيقة، فاختلطت علي الأمور أحيانا. كان من بين هؤلاء الطلبة صديقي قاسم اليمني الحبوب كما يقول اليمنيون، كان يدرس الطب في سنته الأخيرة، كان على علم بقصتي مع المرحومة.
فقال لي:
- «ألهذه الدرجة تحبها؟»
قلت:
- «نعم أحبها وهل الحب عيب؟»
فقال مجددا:
- «إنك حقا تعيش رواية حقيقية أصبحت بطلها، في أغلب الروايات تكون نهاية الحب الحقيقي هي الموت، والحب الذي ينتهي بالموت وحده هو الحب.
اعتبر حبيبتك قد ماتت وخذ عزاها واحتفظ بذاكرتها ولتستمر الحياة».
فأجبته قائلا:
- «أهذا هو الحل بالنسبة إليك؟ موتها وأخذ عزائها ونسيانها إلى الأبد؟ أتريدني أن أبتر ذاكرتي؟ أن أنسى أجمل اللحظات وأن أعيش بدون ذاكرة؟»
ودعت قاسما بعدها متوترا، فأخذت الحافلة متجها إلى وسط المدينة لأختلي بنفسي محاولا إعادة توازني و ترتيب أوراقي. في مساء ذالك اليوم، قررت بعد تفكير عميق الانقطاع عن الدراسة لمدة سنة حتى أشفى من علة الحب، كان علي أن أتوجه إلى الجامعة للحسم في الأمر نهائيا.
يتبع
الفقرة الثامنة
حل الظلام وعم السكون واسودت الدنيا، ومن أجل النسيان المؤقت، ذهبت لأقضي الليلة عند أحد الأصدقاء المغاربة يدعى «خالد» بحي جامعي آخر، كان الليل طويلا عرفت خلاله سلسلة من الأحلام المتقطعة، كنت أحيانا أزعق من الذعر فكان صديقي يأخذ بيدي ويهدأ من ذعري، فبدأت أحكي له عن أحلامي.
قلت له: «كنت نائما نوما متقطعا وخفيفا وإذا بصوت ليس بغريب علي، ولكن لم أتمكن من التعرف على صاحبه يقول لي:
إذا عدت إلى المغرب فاعتبر نفسك من عداد الموتى، فأنت هنا من أجل الدراسة وليس من أجل الحب».
قلت له مذعورا:
- « من أنت؟»
قال:
- «أنا علال».
قلت:
- «مرحبا بالسيد علال الفاسي زعيم حزب الاستقلال ومؤسسه، شكرا لأنك أنقذتنا من الانحراف وعملت على تأطيرنا من خلال منظمة الكشفية المغربية والشبيبة الاستقلالية. في وقت تكالب فيه الكل على طفولتنا البريئة في زمن الضياع، شكرا مرة أخري».
فقال بصوت عال:
- «أصمت أيها الوغد، فأنا لست بعلال الفاسي، فأنا «علال الضب» فتى حي «المعاضيد» الذي يخافه ويهابه الكل، ينتج ويصدر العنف في كل زمان ومكان. عد إلى وعيك ولا تتخلى عن دراستك».
سألني صديقي خالد عن قصة «علال الضب» فحكيت له قصته بالتفصيل، فقلت له:
- «هذا الحلم يمثل بالنسبة لي صراعا داخليا بين العقل الباطني والعقل الظاهري، لأنني أعيش في ورطة حقيقية واختياراتي الآنية سيكون لها تأثير كبير على مساري الدراسي وعلى مستقبلي برمته».
شكرا «علال الضب»، لقد أعدتني إلى وعيي فأنا هنا ليس من أجل التسلية واللهو والمتعة، بل من أجل البحث عن الذات وإعادة الاعتبار لها، بعد المعاناة التي عانيناها جميعا.
ف «علال» وأمثاله لم يولدوا مجرمين ولا منحرفين، ولدوا طبيعيين كباقي البشر من أجل حياة كريمة وسعيدة، ولكن ?للأسف- وجدوا أمامهم المجرمين والمنحرفين الحقيقيين الذين حولوا حياتهم إلى جحيم ووقفوا أمام إنسانيتهم وكرامتهم وحكموا عليهم بالذل والقهر والخصاص.
في اليوم الموالي توجهت إلى الجامعة فالتقيت بنائبة العميد السيدة «دوتسكوفا» فحكيت لها قصتي، فقالت مبتسمة:
- «أنت محظوظ لأنك جربت شيئا اسمه الحب، أنت شاب وسيم ومازالت الأيام أمامك، ستتعرف على نساء أخريات فالوقت أمامك».
فأضافت:
- «لقد عشت قصة حب فريدة وأنا في سنك، لم تنته بالشكل الذي كنت أنتظره. لقد فقدت حبيبي في أحداث ربيع براغ، لم أعرف مصيره لحد الساعة، أهو حي أم ميت؟ فعشت الألم والمعاناة. بعد سنين عشت قصص حب أخرى لأنني توصلت إلى أن الحب علاج لكل أشكال البؤس. فالشخص المحبوب لن يكون أبدا بئيسا، ولهذا قررت أن أبحث عن قصص غرام أخرى تنسيني بؤسي ومعاناتي. فحذار بعد هذا العذاب الذي تعيشه، ربما سترغب في الانتقام، والغاية جعل حبيبتك تعيش البؤس والمعاناة التي عشتها، فلا تفعل، أترك الأمور كما هي وابحث عن شريكة أخرى وأسس لقصة حب جديدة لقهر اليأس والبؤس والعذاب».
فسألتني بعد ذالك قائلة:
- «كم من امتحان مازال في انتظارك؟»
قلت لها:
- «أربعة امتحانات».
فقالت لي مبتسمة:
- «نحن الآن على أبواب نهاية الدورة الأولى، سافر وعد بعد العطلة فأنت طالب ذكي ولك كل الإمكانيات لتجاوز هذه العقبة».
شكرتها على مساعدتي وودعتها، لم أنس تلك السيدة الملاك، كيف تعاملت معي بمستوى عال من النضج والمسؤولية، كم نحن محتاجون في جامعاتنا إلى مثل هؤلاء الأشخاص لرعم الطلبة في أزماتهم والعمل على مساعدتهم وتقديم العون لهم، فالطلبة في بداية مشوارهم الدراسي -كما يعرف الجميع- يفتقدون إلى التجربة والخبرة ويظلون معرضين للأخطاء في أي لحظة.
سافرت بعدها إلى ألمانيا لأزور أختي لتنسيني ضربة المرحومة وألم فراقها. حكيت لها قصتي مع «كاطارينا» كاملة فتأثرت وطلبت مني أن أنساها وأبدأ مرحلة جديدة، بعد أسبوعين عدت إلى مدينة «براتيسلافا» اجتزت بتفوق كل امتحاناتي وطويت الصفحة. لقد صدقت فعلا السيدة «دوتسكوفا» نائبة عميد الجامعة.
مرت الأيام والشهور تعرفت خلالها على مجموعة من الطالبات، لم يكن الحب حاضرا كما كان، كانت فقط الصداقة والشهوة. أنهيت دراستي بتفوق فأصبح الحلم حقيقة.
لم يبق على موعد حفل التخرج إلا أسبوعا، كنت كالعادة في كل مساء مع بعض الأصدقاء نجلس بالمقهى قرب الحي الجامعي، كان الجو حارا، أتذكر كان هذا في بداية شهر يونيو من سنة 1993، كانت الشمس قريبة إلى الغروب، هب خلال هذه اللحظة نسيم عذب برائحة الزهور والورود التي كانت محيطة بالمكان، ربما سيقع شيء لابد منه.
كانت الساعة السابعة مساء، ماذا أرى؟ إنها شلة «المرحومة»، بعد لحظات اقتربت الشلة تتوسطها «كاطارينا»، نعم إنها هي بشحمها ولحمها... تفاجأت كما تفاجأ أصدقائي. بعد التحية اقتربت «كاطارينا» مني قائلة:
- «مساء الخير مصطفى كيف حالك؟»
لم أجبها، كنت أنظر إليها مندهشا، لم أتوقع زيارتها، في تلك اللحظة عدت إلى ذكريات الماضي القريب بكل أحداثه الجميلة وبكل معاناته وعذاباته. كان الأصدقاء بما فيهم شلة «كاطارينا» ينظرون إلي بكثير من الشفقة وينتظرون ردة فعلي.
التزمت الصمت حينها، أصبحت أخرص أبكم، اقتربت مني وجلست بجانبي تكلمني بصوت خافت:
- «كيف حالك؟ أمازلت تتذكرني؟»
أجبتها بهدوء ونبرة كانت غريبة عنها:
- «وهل أنسى ما ذقته من عذاب فراقك المفاجئ؟ لماذا هربت؟ لماذا رحلت بدون سابق إنذار في الوقت الذي كنت فيه في أمس الحاجة إليك؟ لماذا قتلت كل شيء جميل كان بيننا وحكمت عليه بالعدم؟ لقد أذقتني العذاب والألم؟ وأدخلتني في بحر المعاناة والتيه والعزلة».
فقالت وعيناها لا تقوى على النظر في اتجاه عيناي:
- «أعتذر عما حصل، لم أكن في وعيي حين اتخذت القرار، كنت في مرحلة انتقالية صعبة، حاولت أن أتحول وأتغير متماشية مع حركية المجتمع، غيرت الأصدقاء وتغيرت علاقتي بالعائلة، هجرت موطني إلى عالم جديد كنت أظنه سيمنحني السعادة والكرامة، جنيت المال وضيعت الكثير في المقابل، جئت لأعتذر رغم أنني أعرف أن اعتذاري لا جدوى منه ولكن على الأقل أتمنى أن نعيد بعض اللحظات الجميلة التي عشناها وخاصة وأنت على عتبة الرحيل».
قلت لها وأنا أتنهد:
- «وهل يعود الميت إلينا بعد موته؟»
قالت:
- «لكن حبنا قدر محتوما لن يموت أبدا».
فاستسلمت للبكاء، سلمت لها منديلا فعم الصمت.
غربت الشمس وبزغ القمر وبدأت الظلمة في الانتشار واسودت الدنيا وعم الهدوء والسكينة. بعد نقاش هادئ بين الأصدقاء وشلة المرحومة حول الدراسة، حول مستقبل الثورة، حول حركية المجتمع وأشياء أخرى قرر الجميع متابعة السهرة بإحدى الملاهي الليلية، لم أكن متحمسا للفكرة وقلت في نفسي:
«ياترى لما تخطط له «كاطارينا» وشلتها؟»
لم أجد من بد، قبلت بالفكرة واتجهنا إلى مكان اعتدنا ارتياده بوسط المدينة. بعد ساعات من الرقص والنقاش والموسيقى، أخذتني «كاطارينا» لمكان بعيد عن الشلة وضمتني إلى صدرها بشكل قوي وبدأت تقبلني ثم قالت:
- «أريدك أن تنسى ما فعلته بك على الأقل في هذه اللحظة لقد عشت معك براءة الحب وعذريته، أريدك أن تأخذني من هذا المكان إلى مكان آخر لنكون وحدنا».
قلت حائرا:
- «لما لا على الأقل لأبتعد عن هذا المكان الممل».
أخذتها بوجه السرعة عبر سيارة الأجرة إلى مكان هادئ اعتدنا ارتياده بضواحي المدينة. بعد وصولنا المكان حجزنا الطاولة وأصبحنا وجها لوجه من جديد. عزمتها على مشروبها المفضل «دجين» وعزمت نفسي بطبيعة الحال على مشروب «بيرا».
بعد لحظة، أخذت تكلمني عن عالمها الجديد «بفيينا»، كانت تقول والحسرة والقلق باديين على وجهها الشاحب الميال للصفرة:
- «كنت أظن أن العمل والمال والعلاقات الجديدة ستأخذني إلى الأحسن، لكن لم تسر الأمور كما أردت. أصبحت أجني الكثير من المال وأصبحت أعيش في مدينة كبيرة بماضيها وتاريخها وثقافتها وعظمتها، كانت عاصمة الإمبراطورية النمساوية المجرية التي كان يهابها الجميع، ورغم ذلك لم أكن سعيدة، أصبحت لقيطة على مجتمع جديد، قطعت مع كل شيء جميل في بلدي فأصبحت تائهة وضائعة».
قلت لها:
- «هذا اختيارك، عليك أن تتحملي مسؤوليتك».
بعد وقت وجيز، وبعد أن ظهر التعب على وجهها، طلبت مني أن آخذها إلى الحي الجامعي لتستريح قليلا، أخذتها بدون تردد، بعد نصف ساعة وجدنا نفسنا وجها لوجه بالغرفة وحيدين.
قلت في نفسي: «ماذا عساني فعله في هذه الورطة؟»
طلبت مني كاطارينا حينها السماح لها بأخذ حمام ساخن لإزالة التعب، فلم أمانع.
بعد لحظة خرجت من الغرفة لأتفقد حالة صديقي سعيد الذي يسكن بجواري، كان على فراش المرض. بعد الاطمئنان عليه، وبعد أن دردشنا قليلا، ودعته وعدت إلى غرفتي.
طرقت الباب ودخلت، وجدت كاطارينا ممتدة على السرير بقميصها الأحمر وشعرها المبلل الذهبي، إنها شبه عارية. كانت تدخن سيجارتها المعهودة بهدوء ونشوة، متتبعة دخانها المتطاير. لم أتمالك نفسي، بدأت أنظر إليها وبدأت تنظر إلي نظرة تذكرني بالماضي القريب وبلقائنا الأول. طلبت مني أن أحضر لها نبيذا، أحضرته بعد لحظة. ومباشرة سالت الخمرة في الأقداح.
فتحنا كتاب الذكريات مرة أخرى وبدأنا ننبش فيه وقالت وهي في عز النشوة بعد أن اخترق النبيذ خلاياها العصبية:
- «نعم مصطفى، كنت صادقا في حبك لي وعشنا لحظات حميمية لا أعتقد أن التاريخ سيجود علينا بها مرة أخرى، لقد أخطأت فسامحني».
بقينا على هذا الحال و بدون أن ألمسها حتى بزغ الفجر وانجلى سواد الليل. تأثرت بحالها، فقلت لها:
- «معذرة، سأذهب إلى المرحاض لقضاء حاجتي».
لم أذهب إلى المرحاض من أجل قضاء حاجتي، بل ذهبت للتحاور مع نفسي واستفسار ما يقع وطرحت السؤال: «هل أستسلم مرة أخرى لكاطارينا؟» فتذكرت نصيحة صديقي «بيتر» عندما قال لي يوما:
- «إذا قررت أن تستسلم لامرأة، فاستسلم. لكن بجوف فارغ للقطع مع كل الأحاسيس والعواطف».
بعد لحظات عدت إليها ورميت كل أسلحتي وأصبحت مرة أخرى أعزل ولكنني بجوف فارغ. كان مصباح الغرفة يلوح بضوء أحمر خافت، وكانت إذاعة براتيسلافا تبث عبر الأثير موسيقى هادئة، كانت الأغنية المبثة حينها لمجموعة «سكوربيون» وكان موضوعها حول ريح التغيير بموسكو، أغنية كان يرددها الكل في عز ثورات أوربا الشرقية. بمجرد بثها قامت كاطارينا وقالت:
- «اسمع مصطفى إنها أغنيتنا المفضلة».
ارتمت علي حينها وعانقتي وقبلتي وبدأنا نرقص على ذبذبات الموسيقى.
بعد لحظات ليست ككل اللحظات وجدنا نفسنا متعانقين على السرير فبدأت رحلة العشق. أحسست خلالها بالدوار من شدة الإثارة، كما أحسست بغيوم الخصام التي كانت بيننا قد تبددت، ولكن صدقوني أنني خلال المضاجعة لم أشعر بأية متعة. لقد عملت بنصيحة بيتر ودخلت المعركة بجوف فارغ، لا إحساس فيه ولا عواطف. أثناء المضاجعة انتابت كاطارينا نوبة من البكاء، كنت أتابع وجهها البوهيمي وهي تترنح باحثة عن اللذة والمتعة. بعد لحظة وصلت إلى غايتها وعم الصمت وعادت أجسامنا وأرواحنا إلى واقعها المعهود.
بعدها وفي عز النور ودعنا بعضنا من أجل أن نلتقي مجددا في حفل تخرجي في الأسبوع المقبل. عند الوداع كان وجهها كئيبا وحزينا كأنه يخفي شيئا ما.
حل موعد حفل التخرج، كانت القاعة مملوءة على آخرها، كان الآباء والأصدقاء يحملون الورود والأزهار والهدايا لتقديمها للطلبة المتفوقين، كان أغلب أصدقائي وصديقاتي حاضرين بما فيهم شلة المرحومة.
أما كاطارينا فكانت غائبة، بعد لحظة التخرج التاريخية، احتفلنا معا حتى ساعة متأخرة من الليل. طويت حينها صفحة عالم الدراسة وصفحة كاطارينا. ولكن في نفس الوقت طرحت أكثر من سؤال:
- لماذا عادت كاطارينا في نهاية مشواري الدراسي؟
- لماذا طلبت مني مضاجعتها، بل أصرت أكثر من مرة رغم رفضي لها في الوهلة الأولى؟
- لماذا لم تحضر في حفلة التخرج؟
وأنا أطرح هذه التساؤلات تذكرت «كاطارينا» في بداية مشوارنا الغرامي
تقول لي: « أحبك مصطفى كم سأكون سعيدة إذا أنجبت منك طفلا يشبهك».
ربما جاءت لتحتفظ بذاكرتي في أحشائها. ربما عادت لترغمني على البقاء معها لكن بشكل آخر.
حل موعد السفر والعودة إلى المغرب، عدت ولكن بدون أن أودع كاطارينا.
مرت حولي 20 سنة على تلك اللحظة، توقفت أخبارها عني.
هل فعلا حققت «كاطارينا» ما كانت تسعى إليه؟
هل كان لقائنا الأخير مدبرا بالفعل؟
لا أعرف، ربما علي الرحيل مرة أخرى لبلاد البوهيمية لاكتشاف الحقيقة ولمقارنة بوهيمية الأمس مع بوهيمية اليوم.
نعود إلى الثورة «التشيكوسلوفاكية» التي كانت في بدايتها، بعد شهور ارتفع إيقاعها وأصبح نساؤها ورجالها يطالبون برحيل الرئيس «غوسطاف هوساك» ونظامه الشمولي الجائر، بل ومحاكمته كما حدث في رومانيا لرئيسها «تشاوسيسكو» وزوجته «إلينا».
كان كل يوم من أيام الثورة الشعبية عبارة عن مفاوضات ولقاءات وبيانات، كل هذا كان يدخل في حرب الأعصاب بين النخبة الوطنية التي كانت تمثل الثوار، وبين بقايا النظام الشيوعي الهرم.
كان الثوار يتزعمهم الكاتب المسرحي «فاتسلاف هافل» الذي سيصبح بعد نجاح الثورة أول رئيس لتشيكوسلوفاكيا منتخب ديمقراطيا، هذه النخبة السياسية المحنكة كانت بالإضافة إلى نضالاتها الوطنية تحمل مشروعا مجتمعيا متكاملا يتماشى والتحولات السوسيو اقتصادية والسياسية التي يعرفها العالم وشرق أوربا خصوصا، وكان حولهم أفراد المجتمع «السلافي» المؤطرون، والمكونون، والواعون بخطورة المرحلة التاريخية التي تعيشها بلادهم. كل هذا الحراك كان يسير ببلاد البوهيميا إلى طريق الديمقراطية والحرية والكرامة الإنسانية وحقوق الإنسان من غير رجعة.
وبدورنا كطلبة أجانب، كنا نتحاور ونتفاوض من أجل مستقبلنا الدراسي في إطار ما يسمى بالشبيبة الشيوعية قبل الثورة والاتحاد الطلابي بعدها، فكانت أغلب اللقاءات مطمئنة للغاية.
نجحت الثورة وسقط حائط برلين وسقطت معه كل الإيديولوجيات التي كانت تؤسس للحرب الباردة، حينها أصبح العالم يعيش على إيقاعات عصر التغييرات الكبرى، والتغيير هو أقدم رغبة عند الإنسانية، لأن الأشياء عندما تتكرر تفقد في كل مرة شيئا من معناها، وتفقد بالتالي شيئا فشيئا من قوتها الحيوية التي تضفي عليها وهم المعنى. لقد كسرت الحدود بكل أبعادها الممكنة، والحدود في حد ذاتها هي جرعة التكرار القصوى المسموح بها. إذا أين تبدأ وتنتهي حدود الأدلوجة الجديدة؟ وماذا سيحدث إذا تجاوزناها؟ وماذا يقع إذا كان التجاوز أبعد؟
بعد أشهر، انتخبت أول حكومة بعد الثورة يترأسها «فاتسلاف كلاوس» الرئيس الحالي للدولة التشيكية، كما انتخب الكاتب المسرحي الذي افتقدناه أخيرا «فاتسلاف هافل» رئيسا للدولة التشيكوسلوفاكية.
بعد سنتين تقريبا، أمام اندهاش الجميع، انفصل الإخوة الثوار بدعوى عدم القدرة على التعايش جنبا إلى جنب، وتأسست دولتين جديدتين: دولة «تشيكيا» ودولة «سلوفاكيا»، أصبح رئيس الدولة السلوفاكية الرمز والكاريزما « ألكسندر دوبتشيك»، بينما أصبح رئيس حكومتها «متشيار»، أما القيادة التشيكية فبقيت على حالها،»فاتسلاف هافل» رئيسا للدولة التشيكية، و»فاتسلاف كلاوس» رئيسا لحكومتها، فاختلط ضحك الملائكة بضحك الشياطين كما جاء في رواية» الضحك والنسيان» لكاتبها التشيكي «ميلان كونديرا»، فانتهت هذه المسرحية الدرامية وعمها الضياع والنسيان.
الفقرة التاسعة
في هذه اللحظة، و بعد أن أنهيت دراستي الجامعية، وجدت نفسي بين خيارين: خيار الاستقرار بأوروبا و خيار العودة. فاخترت بدون تردد الرجوع إلى أرض الوطن من أجل البحث عن فرصة جديدة للتواجد و الاستمرار و الثأر لزمن الظلم و القهر و الإقصاء الذي لازمني سابقا. و أنا في طريق العودة و ذكريات الماضي القريب تتبادر أمامي بنجاحاته و إخفاقاته، حينها استحضرت قولة «طارق بن زياد» الشهيرة عندما كان على أبواب فتح بلاد الأندلس : «البحر من ورائكم و العدو أمامكم ...» ، فكان البحر بالنسبة إلي هو بحر أوروبا بثقافتها و حضارتها الضاربة في القدم، بجمالها و بنجاح ثوراتها و بكل لحظة قضيتها بين أحضانها، لكنني لم أبالي بكل هذا، فقررت إحراق جميع قواربي و أوراقي و كل ذكرياتي، حينها لم يعد أمامي إلا العدو ، عدو الجهل و الفقر و الأمية و الحرمان و الفساد بكل أنواعه، إنها بالفعل مأساة حقيقية تنتظريني في المغرب، مغرب مريض منهك، يتأهب بكل عزيمة و رغبة و ثبات نحو السكتة القلبية. فكان الاختيار صعب، و لكنني كنت جد مقتنع به، لأن أوروبا بنت حضارتها بسواعد أبنائها و بدمائهم عبر مختلف الثورات التي عاشتها مجتمعاتها في زمن الظلام و اللاهوت. فلم أرغب التطفل عليها، فاخترت العودة رغم الصعوبات التي كانت تنتظرني لأساهم بقدر المستطاع في زمن التحولات و التغييرات التي سيعرفها المغرب عاجلا أم آجلا.
بعد حوالي سنة من الإنتظار تمكنت من الحصول على رخصة مزاولة مهنة الصيدلة بالمغرب، في تلك الفترة كان المغرب يعيش أوضاعا مزرية و لكن بعد مد و جزر و بعد مرور أكثر من سنة، أخذت الأمور طريقها للانفراج و خاصة عندما صوت حزب الإتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية المعارض بنعم على مضامين دستور 1996 ، فكانت بداية التوافقات السياسية التي انتظرها الملك الراحل «الحسن الثانيش طويلا بينه و بين المعارضة التي كانت تدعمها قاعدة شعبية مهمة، بعدها و بعد فوز الاتحاديين خلال الانتخابات التشريعية لسنة 1997 بحصولهم على 57 مقعدا تم تعيين الأستاذ «عبد الرحمان اليوسفي» في السنة الموالية وزيرا أول، فأصبح الشأن العام يدبر بواسطة حكومة التناوب التوافقي، في تلك اللحظة التاريخية قررت الانخراط بصفوف الحزب كمناضل من أجل المساهمة في التحولات السياسية التي يعرفها المغرب.
لقد تصالح الحزب الاتحادي مع النظام السياسي الحاكم، و لكن في المقابل تخاصم مع ذاته، مع تنظيمه و قواعده، فوقعت به انشقاقات و اشتد النقد و اللغط، كان السؤال الذي يردده الرافضون للدخول في هذا التوافق :
أي ضمانات لمستقبل حزبنا بعد دخوله في هذه التجربة المجهولة العواقب ؟
في بداية المشوار الحكومي الجديد فقد المغرب الملك «الحسن الثاني» مهندس حكومة التناوب، فتولى بعد ذلك «محمد السادس» السلطة و أصبح ملكا للبلاد، مرت هذه العملية في أمن و أمان أمام أنظار الوزير الأول «عبد الرحمان اليوسفي» و حزبه الإتحاد الاشتراكي. مرت الخمس سنين الأولى لحكومة التناوب التوافقي بسلام. لكن سنة 2002 كانت محطة حارقة و صدمة مدوية للحزب، خاصة بعد فوزه في الانتخابات التشريعية لسنة 2002 و حصوله على 50 مقعدا مقابل 48 مقعد لحزب الاستقلال و 42 مقعدا لحزب العدالة و التنمية، حينها كان الكل يترقب من ملك البلاد تعيين عبد الرحمان اليوسفي وزيرا أول للحكومة الجديدة، فجاءت المفاجأة، و تخلى أهل الحل و العقد عن المنهجية الديمقراطية بدون الخروج عن الوثيقة الدستورية، و عين «جطو» وزيرا أول. بعد فترة قدم الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي استقالته من الحياة السياسية و بدون رجعة، فكانت مناظرة «بروكسيل» محطة أساسية لتعليل استقالته، بحيث أكد من خلالها بأن الديمقراطية و جيوب المقاومة الرافضين للتغيير برزخان لا يلتقيان و لا يمكنهما التعايش أبدا، و من تلك اللحظة بدأ الحزب في التراجع، و أمام هذا التراجع المريب كانت المعارضة الجديدة المنتمية لقوى المحافظة تترقب الفرصة للانقضاض على زمام السلطة.
أما الانتخابات التشريعية لسنة 2007 فقد شكلت بنتائجها تحولات واسعة بالخريطة السياسية فبدأ الإتحاد الاشتراكي بالتراجع مرة أخرى بحصوله على 38 مقعدا، و في نفس الوقت بدأ حزب العدالة و التنمية يتسلق الدرجات، حيث حصل على 46 مقعدا، في حين حصل حزب الاستقلال على المرتبة الأولى ب 52 مقعدا، فعين بعد ذالك أمين عام حزبه وزيرا أول من طرف جلالة الملك.
و من أهم الأسباب التي أدت إلى إخفاق حزب الإتحاد الاشتراكي في هذه الانتخابات و قبلها، أن الحزب عرف ابتداء من دخوله إلى تجربة التناوب التوافقي و بعدها فراغا سياسيا قاتلا، و خاصة بعد أن تخلى عن امتلاك الخطاب الاجتماعي، و تخليه عن الارتباط بالحياة اليومية للمواطن و كذلك انشغاله بالصراع التنظيمي و تنافس نخبه حول المقاعد الحكومية، فتراجعت شعبيته و امتداداته على ما كان في سابق عهده، و في المقابل تزايدت شعبية بعض الأحزاب في مقدمتهم حزب العدالة و التنمية، بعد ذلك عرف الحزب ظاهرة الانشقاقات، فانشق عنه جناحه النقابي خلال مؤتمره السادس بقيادة «نوبير الأموي» إضافة إلى تيار الوفاء للديمقراطية بقيادة «محمد الساسي»، أما مؤتمره السابع فقد تميز بنزاعات متعددة كان أغلبها يطالب بشرعنة التيارات داخل الحزب و تقنينها. كل هذه الصراعات أدت إلى تفتت الكتلة التصويتية لهذا الحزب الذي كان يشكل رئتي الخريطة السياسية المغربية في زمنه الجميل، فتدهور بشكل كبير أداؤه الحكومي الذي فرضته مجموعة من الإكراهات الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية و الدستورية، مما جعل حصيلة الحزب حسب المعارضة سواء داخل صفوفه أو بالمؤسسة البرلمانية في مجال الإصلاحات متواضعة رغم مساهمته في فتح أوراش كبرى للإصلاح و تمكين المغرب من تفادي السكتة القلبية
و دوره الإيجابي في انتقال السلطة الملكية بسلام بعد وفاة المغفور له «الحسن الثاني».
كانت 2007 ضربة قاضية للحزب بعد مشاركته في حكومة «عباس الفاسي» فكانت الحصيلة غير مقنعة بالنسبة للمعارضة داخل الحزب بشهادة الوزراء نفسهم (مداخلة بعض الوزراء الاتحاديين خلال ندوة أكادير الأخيرة). جاء المؤتمر الثامن وسط نزاعات تنظيمية و مذهبية حادة انطلاقا من النتائج المتواضعة التي حصل عليها الحزب في الانتخابات التشريعية لسنة 2007، فدخل الحزب في مخاض عسير من أجل النقد الذاتي، فازدادت الحدة و التوتر، فتوقف المؤتمر في جولته الأولى لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، فاستأنف جولته الثانية بعد أشهر، فظهرت قيادة جديدة بوجوه قديمة و عادت الأوضاع إلى سابق عهدها، و مرة أخرى نجحت آلية التراضي الذي أصبح الحزب يتفنن في إتقانها. و اشتد الفراغ و اختل التنظيم و ظهرت أصوات تنتقد سوء التدبير و الاستهانة بالمرحلة، و خلال هذا المؤتمر ارتأى الحزب على أن اختناق المشهد السياسي الذي يعيشه المغرب يقتضي إصلاحات دستورية و سياسية لتتمة مسار الانتقال الديمقراطي و ذلك بالتوجه نحو الإقرار بملكية برلمانية، و كانت في العمق من وجهة نظر العديد من الفاعلين السياسيين مجرد وسيلة للفت الانتباه و الاختباء وراء فتح نقاش عمومي لم يستجب له باقي الفاعلين السياسيين و خاصة الأصدقاء منهم المنتمين إلى الكتلة الديمقراطية و الذين يدبرون الشأن العام، و لكن في نظري كان الحزب جاد في اقتراحاته و انتظاراته.
لتفادي هذا الإخفاق، على الحزب اليوم أن يعود إلى قواعده التنظيمية خاصة منها الواعية بخطورة المرحلة و القادرة على العطاء و الإبداع، و أن يقوم بنقد ذاتي بل بثورة حقيقية يؤسس من خلالها لربيعه المنتظر. إذن على مؤتمره القادم أن يكون محطة نوعية و حاسمة لإخراج الحزب من عزلته المجتمعية و إعادة هيكلته بواسطة قيادات جديدة و بجيل جديد من الأفكار المرتبطة بالتحولات و التغييرات الذي يعيشها المغرب و محيطه الإقليمي و الدولي، بعيدا عن لغة التوافق المملة.
لقد عرف هذا الحزب العتيد و الضارب في النضال كبوات متعددة، كان يواجهها باستمرار بكل حزم و شجاعة كما هو الشأن بالنسبة لمؤتمره الاستثنائي لسنة 1975 ، حيث تم من خلاله القطع مع مرحلته الثورية و التأسيس لمرحلة إصلاحية جديدة، كان من ثمار هذا التحول ظهور معارضة قوية استفاد المغرب منها كثيرا خاصة في زمن الرصاص و الرعب و الظلام. مهما وقع يبقى حزب الاتحاد الاشتراكي مدرسة كبيرة بتاريخه و بنضاله و بعطاءاته، فلا ينكر هذا إلا جاحد.
إذن فمستقبل الحزب بيد مناضليه من أجل الدخول إلى مرحلة جديدة و لهم كل الإمكانيات و التراكمات لإخراج الحزب من عنق الزجاجة.
نترك حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية يعد العدة لمؤتمره التاسع للدخول في مرحلة جديدة و المساهمة في بناء خريطة سياسية جديدة بالمغرب متمنيين له التوفيق و النجاح.
و نعود إلى ثورات أوروبا الشرقية.
بعد ثورات شرق أوروبا و تشتت دولة يوغوسلافيا انتقلت رياح الثورة إلى أمريكا اللاتينية و آسيا للتخلص من الأنظمة الديكتاتورية. بعدها وجدت الثورة نفسها بين أحضان بلاد الرافدين فقضت على نظامها البعثي.
كل هذا كان يسير في اتجاه إعادة رسم خريطة جيوسياسية جديدة تتماشى و التحولات السوسيو اقتصادية و السياسية التي يعيشها العالم، و التي نظًر لها في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات من القرن الماضي كل من رئيسة الوزراء البريطانية السابقة «مارغريت تاتشر»، و الرئيس الأمريكي السابق للولايات المتحدة الأمريكية «رونالد ريغان» ، و كذلك رئيس الاتحاد السوفياتي سابقا «ميخائيل كوربتشوف» إضافة إلى الداهية الأمريكية «هينري كيسنجر» وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية السابق.
أخيرا وصلت رياح التغيير إلى دولنا العربية بعد انتظار طويل في بداية سنة 2011، فسقط النظام التونسي البوليسي، و لحق به النظام المصري المافيوزي، كما سقط النظام الليبي المستبد أيضا، أما النظام السوري فلازال يقاوم و يصارع من أجل البقاء و لكن لا أعتقد أنه سيعمر طويلا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.