لم أكن مهيئا للكتابة عنك مرة أخرى، كما لو كنت أتهرب من دفئك، أومن قتلك رمزيا الكتابة عن الفقيد هي نسيانه والعيش معه حين المحو، محور الكتابة، أتذكر الآن أني كنت محقا في التهرب من الكتابة عنك ولأجل ذلك هيأت جلستنا القديمة. لم تحمل هذه المرة زقك الذي ورثته من أبي نواس وغيره. لم يحمل معك يوسف آلة العود. ربما كسرها حين التقى الحي وتحجبت أم كلثوم. أتيت بمفرد هذه المرة وإخوانك الصغار يحرسون أثرك البعيد، كما لو كانوا يخافون من شيطان أخرس يهربك إلى مكان بعيد. إخوتك الصغار زكرياء وأحمد وحليمة والخنساء وسهام يخيطون الأمل بالرذاذ ولا يلتفتون إلى الوراء، كنت بين أعينهم كما تعود الحي رؤيتك. تأخرت قليلا، قرأت لي نشيد الموتى دون أن تمل من إزالة خصلات شعرك من عينيك قلت سأكتب مسرحية هنا والآن، كان أحمد يسمعك من بعيد، كان خائفا من الدنو منك. وأحمد لا يعرف الاستعارة مثلما تلبست بها قال أحمد وانحنى أرضا: لازلت متألقا يا أبي! من سيعمر الخشبة بعد الآن قالت الخنساء: »هنا سأرقص يا أبت، سأتقنع بوجهك، سأوهم الجميع أنك هنا« بينما حليمة تكنس الخشبة من أنصاف الممثلين أو قل من السياسيين الذين يزاحمون الممثلين على الخشبة. سهام هناك قبالة أيولون ترسل التحايا وتقوم بتغيير كأسك أيها الممثل السلطان، في حين ظل زكرياء مشدوها بين تلال تازة .يحاول تقريب الثلج من البرد، ولا يعرف... يحاول مساءلتك - أيها السعيد في المنام - كي تقول له كيف يخلط الثلج بالبرد ويعجنهما بالنار دون مساس بزقك الموضوع، بعناية في المكتبة. الصورة لم تكتمل، قلت له أنهم دمروا تمثال أبي العلاء المعري وسرقوا وجه طه حسين، ابتسمت دون أن تسأل عن المداد والريشة، دون أن تسأل عما تخفيه الصورة التي بلغتها اياك. يعجبني أن أجالسك في المقهى تحمل محفظتك وكراستك وأنت يقظان بالفرح كأنك انتهيت من قصيدة أو مسرحية أو قرأت كتابا نادرا. كأنك هنا في «»نزالت الشيخ»« تعيد قراءة آخر مسرحياتك، من سيمثل من سيعطي للمسرحي وجهه، هل القناع أم ممثل سكران بالنميمة، قلت لك: ما أروع أن تمثل دور الكاتب. قلت: نخري السكري. قلت: ما عليك، تكلم دقيقة واسترح ثلاثا، ثم وافق وغاب في الذكريات. كان علي ألا أكتب. كان علي أن أضعك في البعد العميق من الذاكرة. كان علي أن أختبئ في مكان ما، في الغابة أو في القرب منها، نسرد الأخبار، ونقرأ الفتوحات المكية، ورجوع الشيخ إلى صباه ورواية كزانتزاكي... ونتفرج على أجمل الأفلام القديمة، ننصت للأغنيات البعيدة ولما تبقى من شعر الثورة، سنسخر لا محالة مما وصلت إليه السياسة عندنا.. غدا سأقول لاخوتك إننا التقنيا، تُراهم يصدقون؟ لا أعرف. أعرف أنك تعرف أنهم سيصدقون، وأعرف مثلما نعرف، أن أصدقاءنا لن يصدقوني. سيقولون في مقاهي النميمة أنك تستعير استعارة من الغابة أو السماء، وأن الكتاب أو الشعراء يتبعهم الغاوون. ما أجمل العبارة حين لا تكون قابلة للتصديق، ما أجمل أن لا يصدقوني. فهم على الأقل منخرطون في جمع شتات الدنيا وطي ملفات المصالح في الأدراج وغزل الصوف بالنميمة وقتل الوقت بالخرافة. لكن غدا، حين يرون سعيد ممتطيا فرس المدينة يصدقون شريطة أن نحرسه بعيوننا كل لا يقع له مثلما وقع للمعري وطه حسين. كأنك الوحيد في المدينة الذي يستحق امتطاء فرس المدينة. لنتأمل بلاغة هذه الصورة، وليحرس كل واحد منا كتابتها في ألبومه الخاص. أم أقل لكم أن سعيد قرأ لي نشيد «»الموتى«« وشرب معي حتى الصباح، لكنه لم ينم عندي كعادته، ربما لأنه لا يستطيع النوم في فراش بيته. هكذا كان، هكذا هو، وفي الهو صندوق الذكريات. دعوني أصمت قليلا، دعوني أتفرج على المسرحية كي أتمتع بها، دعوا سعيد يعيش بيننا. ثقوا بي إن غيابه لن يطول كثيرا، إنه في المقهى أو المسرح.