وأنا أتابع باهتمام بالغ تطور الأحداث السياسية في مصر وباقي الدول العربية وعلى رأسها المغرب، ومباشرة بعد قراءتي لمقال الأخ جليل طليمات، الذي أكن له كل التقدير والاحترام، المعنون «الراقصون في «عرس الدم» المصري»، والصادر بجريدة الاتحاد الاشتراكي عدد 10483 بتاريخ 24/25 غشت 2012 وفي بعض الجرائد الإلكترونية، وجدت نفسي في وضع اضطراري للخروج من الفترة الزمنية التي خصصتها للتأمل والتفكير في علاقة المثقف الحزبي بمستقبل بلده السياسي بأبعاده الثقافية، وأهدافه الاقتصادية والاجتماعية وارتباطاتها مع التفاعلات الكونية. لقد خرجت من هذه الفترة لأنه تبين لي أن الدرس المصري له ارتباط واضح بتطور الأحداث السياسية في المغرب وتونس على الخصوص، ارتباط أحدث زلزالا قويا في استراتيجيات الغرب الأمريكي والأوروبي. لقد بينت التفاعلات الدولية الغربية مع الواقع السياسي المصري أن هناك استفاقة من نوع خاص عبر عنها الشعب المصري، استفاقة لم تكن منتظرة غربيا، وأن طبيعتها زعزعت التحالف المضمر ما بين الأصوليات الدينية، وعلى رأسها الأصولية الإخوانية، والأصولية الرأسمالية. ففي الثورة الأولى كان الشعب سيد الموقف وكان الجيش المصري حاميا لإرادته. أما ثورة 30 يونيو الأخيرة فهي ثورة ثقافية بامتياز، الشيء الذي سهل عملية تلاحم الجيش والشعب، وترتب عن ذلك الإعلان الرسمي على ضرورة تقوية هذا التلاحم من أجل تقوية الفعل السياسي بالشكل الذي يجعله في مستوى مقاومة فكر ابن تيمية وأطماع الرأسمالية التي تزداد جشعا يوما بعد يوم. لقد قال الشعب المصري «لا» لتحمل ويلات هذا التحالف المصلحي الذي ابتدأ بالتجنيد الأمريكي للأصولية الإخوانية من أجل مواجهة العدو الشيوعي المجسد في الاتحاد السوفياتي سابقا. لقد قال الشعب المصري «لا» لتبادل الدعم وتمكين التيارات الإخوانية من الحكم بعد عودتهم إلى بلدانهم وبالتالي تقوية ما يسمى بالتنظيم الدولي لجماعة «الإخوان» الذي عقد لقاءه الأخير في إستانبول بتركيا. وهنا أفتح القوس لأقول للغرب الأمريكي والأوروبي : «حذار من اللعب بالنار، لقد أكدت التطورات التاريخية أن الأصولية الإسلامية لا ولن تكون ديمقراطية، بل هاجسها الأساسي هو السيطرة على كوكب الأرض». وموازاة مع هذا التحذير لا بد أن أشير إلى كون شعب مصر الذي استفاق اليوم من سباته قد احتضن فكر ابن تيمية لعقود مضت، لكنه تمكن في الأخير من مواجهة الاستبداد ببسالة لا توصف، ومكن مرسي وجماعته من الوصول إلى الحكم، لكن بعدما أحس أن أهداف الفكر الإخواني لها أبعاد أصولية استغلالية لا تمت بصلة بالديمقراطية وحقوق الإنسان أعلن تمرده من جديد على السلطة الحاكمة بشجاعة. لقد خرجت الجماهير إلى الشارع بالملايين معلنة هذه المرة استعدادها للنضال من أجل إقبار فكر ابن تيمية. لقد قال هذا الشعب الأبي بصوت مرتفع «لا» للاستمرار في استغلاله بخلق وابتداع المحرمات الثقافية وقتل الثقافة الإبداعية، «لا» لتواطؤ الأصوليات كيف ما كان نوعها دينية كانت أو اقتصادية أو طائفية، وأخيرا «لا» للتواطؤ من أجل احتكار الأقليات لخيرات البلاد من خلال احتكار السلطة (السلطة مطية للسيطرة على الدولة والمجتمع) . بالنسبة للوضع المغربي، وتأملا في حصيلة حكومة الحزب الإسلامي وفي الخطاب الملكي الأخير، واستحضارا لاعتماد تحالف الجيش والشعب المصري لنفس منهجية إعداد الدستور المغربي (لجنة تقنية ولجنة سياسية)، وإعلان الأصولية الدينية المغربية لدعمها لاعتصامي رابعة والنهضة، وجدت نفسي في وضع اضطراري للاقتصار على ثلاث نقط فقط تجنبا لاحتمال سوء التقدير وتفاديا لسوء التأويل: * بخصوص القضية التعليمية، الكل يعلم أن جلالة الملك جعل منها قضية وطنية تحتل المرتبة الثانية بعد قضية الوحدة الترابية، لتشارك بعد ذلك كل الفعاليات والقوى المجتمعية في صياغة الميثاق الوطني للتربية والتعليم والمصادقة عليه، والبدء في تنفيذه من خلال المخطط الاستعجالي. وعليه، وبكل موضوعية، فالمبادرات المعرقلة لهذا المسار الجديد لا يمكن أن نصنفها إلا في خانة مبادرات «المتواطئين» على الشعب المغربي. ونحن نعرف من أسقط أبناءنا في زوبعة العبث بلغات تدريس المواد العلمية وخلق الهوة اللغوية في التدريس ما بين الإعدادي والثانوي من جهة والعالي من جهة أخرى، والتضييق على هامش تدريس الفلسفة وعلم الاجتماع، وملء المقررات بالمواضيع والمواضيع التافهة.... ونحن نعرف أين يدرس أبناء العائلات ذات النزعات الاحتكارية التي تعتبر نفسها في خانة والشعب المغربي في خانة أخرى.... * لقد قال جلالة الملك أنه ملك لكل فئات الشعب المغربي، وهذه إشارة واضحة موجهة إلى من يهمه الأمر، إشارة تقول «كفى» من حرمان أبناء الشعب المغربي من «التنخيب» عبر التربية والتعليم. فإذا كانت الأقسام التحضيرية ومعاهد ومدارس المهندسين والأطباء والصيادلة... تستضيف المتفوقين في الشعب العلمية من أبناء هذا الشعب بدون تمييز، فإن مدارس «التميز» كان الهدف من إنشائها هو تعميم نفس الأسلوب في «التنخيب» التعليمي على كافة أبناء المغاربة، الأسلوب الذي سيجنب التلميذ المتميز ضياع الوقت في مساره التعليمي. إنه إعلان دخول المغرب إلى مرحلة تساوي الفرص والاستحقاق، دخول يجب أن يترجم إلى تلاحم قوي بين الملك والشعب، تلاحم لا يترك فرصة لإحياء الأصوليات العائلية والطائفية والمذهبية ذات الأطماع الاحتكارية. * الإعلان الملكي الرسمي لدعم المشروع المجتمعي الديمقراطي الحداثي (منذ بداية العهد الجديد) هو ترجمة للإرادة الملكية للمرور إلى مرحلة العقل وإزالة الخرافة وتمكين المواطن ثقافيا من مواجهة الخداع الأصولي والتحرر من الأوهام ومواجهة مروجي ثقافة المحرمات. * على رئيس الحكومة ورئيس الحزب الحاكم، الذي يصرح تشبثه بالدفاع على الديمقراطية والحرية وتقوية العمل الحزبي وإعادة الاعتبار للسياسة، أن لا يقبل استمرار وزير التعليم الحالي في مهامه في الحلة الجديدة لحكومته, لأنه بدون انتماء سياسي، بل أكثر من ذلك وضعه كمطرود من حزب تاريخي واستمراره في مهامه بعد الخطاب الملكي سيكون له وقع جد سلبي على السياسة ومستقبلها. خاتمة ختامي لهذا المقال سأخصصه لدور المثقفين في هذا التحول المصري-المغربي على الخصوص. لم يعد ينفع في مصر أن نربط التصويت على الدستور بالدخول إلى الجنة، وأن مرسي مدعم من طرف الملائكة....لقد تأكد أنه لا يمكن أن نستمر في خداع الشعب بالخرافة والوهم على طول الوقت.... عكس ما جرى لسقراط بعدما حرص على التواصل مع الجماهير والتلاحم معها في الأسواق لتنويرها، أصبح اليوم مطلوبا من الدولة والشعب في مصر والمغرب، بعدما تم تأسيس المنتدى العربي الديمقراطي الاجتماعي بالرباط في يونيو 2013، خلق الآليات وتوفير الوسائل لتقوية تلاحم المثقفين والسياسيين مع الشعب من أجل إشعاع ثقافة التنوير، وبالتالي خلق تيار رشدي قوي (نسبة إلى ابن رشد)، تيار يلتحم بالجماهير بالحدة التي تفند بدع أدلوجة ابن تيمية... الخروج من التخلف في العالم العربي والمغاربي يبقى إلى حد بعيد مرتبطا بالابتعاد عن أدلجة «الحرام/الحلال»، وتربية الأجيال على العقل والعقلانية، والمواجهة الشعبية للخداع الأصولي.... الجماهير لها عقل كامل لكنه يستغل من طرف الأصوليات لأسباب يعلمها ويعيها المثقفون..... مهام المثقفين اليوم هو الالتحام مع أجيال الشباب الملمة بالتقنيات الحديثة للتواصل وذوي الذهنيات الجديدة، وإحداث الثورات العقلية المطلوبة، وبالتالي تعميم استنهاض العقول على كافة الفئات المجتمعية، وترسيخ ثوابت الدولة المدنية الديمقراطبة... إن الدرس المصري يؤشر على إمكانية دخول العالم بأسره في ثورة كونية ضد الخرافة، وبناء مستقبل جديد يتطلب اقتلاع أو اجتثاث الفكر الأصولي التطرفي من الجذور، والدخول إلى ثقافة بدون خرافات...لقد أحدث تلاحم الشعب المصري والجيش ارتباكا واضحا في المعسكر الغربي بقيادة أمريكا، وجعله يترنح في المواقف محاولا فهم الهزة التي أصابت فكره والفكر الخليجي...على عكس المعتاد في مصر بصفة خاصة وفي العالم العربي بصفة عامة، لم يعد ممكنا كما في السابق استمرار الإخوان والشيوعيين في الاقتصار على تقوية علاقاتهم مع القوى الخارجية على حساب الشعوب، بل هذه الأخيرة تنادي اليوم على مثقفيها وتعلن حاجتها إليهم...فزلزال تلاحم الجماهير الشعبية مع الجيش أجهض الخطط التي تطمح إلى تقسيم المجتمع إلى عائلات الأسياد المحتكرة لخبرات البلاد وعائلات «العبيد» الرعايا، وأن الأمة المصرية خاصة والشعوب العربية عامة في حاجة إلى انبعاث الفكر الرشدي من جديد. وأخيرا نقول أن الإسراع في تنفيذ خطة الطريق بدقة وحكمة هو الطريق الوحيد والأوحد لتفنيد ادعاء وصف تلاحم الشعب والجيش بالانقلاب العسكري. إنه الطريق الوحيد الذي سيفرض على أكثر من 90 بالمائة من الإخوان الاشتغال في العلن والخروج الاضطراري إلى الصراع المباشر، الشيء الذي سيسهل انبعاث وتقوية الفكر الرشدي في المجتمع. أما في حالة العكس، أي انزلاق الثورة إلى استبداد العسكر، فسيدفع الإخوان إلى التقية والعودة مجددا إلى العمل السري المؤثر على الجماهير...تجربة صلاح الدين الأيوبي لا يمكن أن تتكرر بنفس المنطق، وتجربة عبد الناصر لا يمكن أن تكون نموذجا في الوضع المصري الراهن، بل الاستفاقة الجماهيرية بدولة الكنانة وتلاحم الشعب والجيش بها يجب أن يخلق القطيعة مع الماضي من خلال التثبيت الفعلي لمقومات الدولة المدنية الديمقراطية الحداثية...إنه السبيل الوحيد لإنهاء الصفقة المعروفة ما بين الأصوليات الدينية عربيا والرأسمالية الغربية... فعلا إن مصر في حرب ضد الأصولية الإرهابية، لكن الانتصار في هذه الحرب لا يمكن أن يكون إلا على أساس أن يترتب على مجهودات تلاحم الشعب والجيش بناء الدولة المدنية الديمقراطية القوية.