الفنان التشكيلي محمد المنصوري الإدريسي من رموز الجيل الجديد في الإبداع الفني المعاصر بالمغرب، حيث توزعت حلقات تكوينه الجمالي على عدة مدارات تفاعلية نذكر من بينها على سبيل الاستئناس : المدرسة الوطنية للهندسة بالرباط (2002-2001) ، تدريب لتنمية المهارات في مجال الفنون الغرافيكية بباريس (1999-1998) ، تكوين بالأكاديمية الأروبية للفنون ببروكسيل (1993-1991)، و تحصيل علمي بكل من جامعة بوردو ??? بفرنسا و بكلية الآداب و العلوم الإنسانية بالرباط (1987-1982). آمن هذا الفنان منذ معرضه الجمالي الأول عام 1977 (شارك في الصالون الدولي للفن التشكيلي باليابان) بسلطة الفكر و موقعه الحاسم داخل الممارسة الفنية، حيث تفاعل مع عوالم مصطفى القصري الحالمة، و أصدر مؤلفا مرجعيا حول مسالك المتوحد على هدي الشطح الصوفي. لا غرابة ، إذن، أن يؤسس جمعية الفكر التشكيلي الرائدة على مستوى اللقاءات الدراسية، و المحافل المعرفية بأصوات متعددة، إضافة إلى تقلده منصب رئيس منتدب للأكاديمية الأروبية للفنون ببروكسيل، و كذا عضويته الكاملة داخل الجمعية الدولية للكتاب و الفنانين بالولايات المتحدةالأمريكية. خبر محمد المنصوري بلاغة الجسد بأطيافه الكبرى و الصغرى على طريقة المتصوفة، و مارس غوايات الرقصات الشطحية بالألوان و الأشكال و كأنه يدبج لغة بصرية جديدة تحتفي بالبدايات التي لا تنتهي بعيدا عن نزعات الاستنساخ و التنميط. كل طيف يسكن أحوال اللون في تجلياته المتعددة التي تتماهى مع معالم النور المتشظية و الفياضة. ها هنا ، ينهض الجسد كأرواح تنبعث من جديد، و كأنفاس موسيقية تعزف على أوتار الذاكرة مقاومة أشكال المحو، و التكييف، و الالتباس. ليس الجسد في لوحات محمد المنصوري امتدادا فضائيا أو توزيعا هندسيا. إنه، على عكس ذلك، ترجمان الأشواق (أتذكر قصيدة محيي الدين بن عربي) و لسان حال العقل و النفس معا! إننا بصدد «هارمونيا» للجسد و الروح معا، هارمونيا للفعل و الانفعال معا أقصد للحركة و الولع معا. لقد سبق للباحث الجمالي عبد اللطيف بوجملة أن تساءل في هذا المقام اللوني بين الحلول و التعالي بمناسبة معرض الفنان برواق باب الرواح بالرباط (ما بين 5 و 24 شتنبر 2013) : فكيف للتشكيل أن يجعل من الجسد علامة تفيض بالدلالات و تنطق بالإشارات، و تقول ما لا يقال...؟ لا يفكر هذا الفنان بالجسد كما قد يدعي بعض المحللين. فالجسد ليس إلا ذريعة جمالية لمساءلة الفكر التشكيلي ذاته، و الذهاب به إلى أبعد الحدود و المستويات في ضوء مغامرة يدرك هذا الفنان جيدا مخاطرها، و يمتلك القدرة على فك شفرات أطوارها و كشوفاتها. ما يقدمه محمد المنصوري للرائين هو، بالتحديد، زخم الحساسية الجمالية التي تخلصنا بتعبير الباحث الجمالي محمد الشيكر من أسر الواقع الموضوعي المشخص بكل إحالاته المرجعية، و معادلاته المشهدية. فخارج كل دروب و مسالك التجريد الغنائي و الهندسي معا ، ينحت هذا الفنان الدبلوماسي بالمتياز آثاره التعبيرية الرمزية (مثل المغرب في الدورة الخامسة للبينالي الدولي للفنون ببكين عام 2012 ، و اختير ضمن الفنانين التشكيليين العرب المرموقين بالصين عام 2011 ، كما حصل على الميدالية الذهبية الوطنية بباريس في إطار صالون الخريف العالمي المقام من لدن الأكاديمية الأروبية ببلجيكا عام 2008). على إيقاع بول كلي ، حاول محمد المنصوري سبر أغوار العلاقات القائمة بين الوحدات الرمزية بكل تداعياتها و خلاصاتها التركيبية. فهو لا ينقل بتعبير محمد الشيكر عدما معدوما أو فراغا جماليا تمجه العين و يتوجس منه الوعي. إنه يعرج بنا على طريقته البلاغية الخاصة من عالم الرؤية البرانية إلى عالم الرؤيا الجوانية بشعرياتها و استيعاراتها الانطباعية الفياضة. شاعر الألوان و سيد تحولاتها الكيميائية هو محمد المنصوري الذي يجيد رقصة التعالي عبر معارج النور و أطياف الأجساد المتشاكلة حد التناسل و التماهي. يا له من طقس عجائبي يؤرخ لميلاد أحلامنا الهلامية التي تعلمنا كيف ندرك اللامدرك (أتذكر ما كتبه إريك دستوبلير ، مدير هيأة «دخول الفنانين» حول هذه التجربة) منساقين مع شغف البحث عن المعنى الجوهري في أشيائنا و عوالمنا ، خصوصا و أننا أمام فنان رائي و متبصر منخرط بشكل «جيني» في بلاغة جديدة تقوم على روح الأشكال، و حركة المشاهد، و أثر الوجود الإنساني. لعل هذا هو سر شهرته البالغة في جغرافيات أروبا و آسيا. يحرص محمد المنصوري على التقاط العابر في فضائه المعيش بالرباط، مقاوما بتواضعه الطبيعي و بسمته الباسم كل معالم الاكتساح و الاجتياح الحضريين، حيث يجعل الناظرين ينصتون للألوان على غرار الشذرات و المقاطع الشعرية. فنان وسائطي بامتياز! هكذا نعته إريك دستوبلير مشيدا بنزعته الصوفية المنتصرة للحق في الحياة: نزعة وجودية تذكر قلوبنا بالأسس الخالدة المتجلية في التاريخ، و الثقافة، و الحلم. هكذا ، يقارع محمد المنصوري العدم و يجابهه نحو جهة الحقيقة لا الوهم. فهو يضفي عمقا متناغما و متناسقا على جغرافيات لوحاته ضد كل كآبة انطباعية أو وجدانية. إنه يرسم حدائقه الطيفية المنفتحة على الحدائق الواقعية أو المتخيلة و في مقدمتها الحدائق اليابانية التي مدح سعادتها الغامرة الشاعر و المسرحي و الدبلوماسي الفرنسي بول كلوديل. فنان انتقائي و أكثر حذقا و روية هو محمد المنصوري الذي يجيد فن التركيب و خلخلة الأمور الوافدة لمناهضة كل أنواع النشاز و النغمات الخاطئة. كل لوحة تشكل خارطة بصرية مستقلة تعكس انشغالات الذهن قبل أن تترجم صورة الواقع (أتذكر تعريف الباحث الفرنسي كريستيان جاكوب لمفهوم الخارطة). إننا بصدد هموم فكرية و جمالية في الآن ذاته : هموم تنشد عوالم الوجود و الحياة معا. إن الأطياف ،ها هنا، تصبح جسورا رمزية لطقوس العبور و الانفتاح التي نستحضر عبر تداعياتها المرجعية مديح الظل للكاتب الياباني الشهير تانيزاكي ، و كذا مديح الحدود للفيلسوف الوسائطي الفرنسي ريجيس دوبريه. يحتفي، إذن، محمد المنصوري بمديح الطيف العالي بدل مديح الظل العالي (أتذكر ديوان محمود درويش). فكل طيف ترنيمة داخلية و حلم بعيون جمالية ترى إلى العالم في براءته الأولى و تخومه الممتدة، و كأنها تتوق إلى مدينة أحلام العالم بتعبير الشاعر الفرنسي الكبير لويس آراغون. عندما نشاهد لوحات محمد المنصوري نحس و كأننا نمارس طقسا روحانيا يفضي بنا إلى درجات عالية من الوعي الباطني ، حيث نعي جيدا مقولتي » Trans « (التجاوز) و » Inter « (البينية). إنه يخترق المنطق السائد لعالم الاستعراض الفني ، مشيدا بالكلمة - البيان : الإنسان. إنه ، أيضا، يبحث عن النظام داخل الفوضى ، و عن رسم حدود داخل الأمور الرمزية التي لا حدود لها. فكل لوحة تشهد على الحركات المميزة لفعل الإبداع، حيث فن الحذف و الاقتطاع أولا ، ثم فن الإلحاق و الإضافة ثانيا. إن محمد المنصوري يمارس لعبة المقدس و الدنيوي بشكل مغاير، فهو ينزاح عن كل الإيحاءات اللغوية للفظ المقدس في المعجم الفرنسي : تحديد ، و إحاطة، و منع (لفظ sansire اللاتيني). إنه غير مغطى، و غير منفرد، و غير خفي إلى أقصى الحدود. يصبح المقدس في الفكر التشكيلي لدى محمد المنصوري البطاقة الحيوية للقارء البصري في عيدي الجسد و الروح معا. أليس الجسد و الروح قيمتين كونيتين تتجاوزان الكلمات؟ أليسا ، أيضا، صورتين مجازيتين لموسيقى بصرية نمارس من خلالهما طقسا تطهيريا على المستويين الفردي و الجماعي كما أشار إلى ذلك نيتشه؟ يا لها من استيعارات مشهدية قائمة على الإسقاطات الضوئية و اللونية التي تحتفي بتحرير الجسد من الأسوار و الطابوهات دون التنازل عن الأبعاد العمودية للأطياف العالية التي تشخص إليها الأبصار و الأحلام (أتذكر حديث ريجيس دوبريه عن المكان العالي). لوحات محمد المنصوري حدائق منفتحة لا منغلقة. إنها منافذ و مداخل لمواجهة عاديات الزمن الموحش، و لتحصين استثنائية الكائنات في مجتمع قدره المأسوي هو التسليع الكامل. أن ترى عمل هذا الفنان كأن تقرأ بروية مقدسة و تخترق باب «ممنوع الدخول» ، محتفظا بالمفاتيح العلنية، و كأنك تلج عالما صغيرا شبيها بقصائد الهيكو تعيدك إلى المنبع، و تبعد عنك قوى الموت.