رئيس الحكومة يؤكد على مكانة الاقتصاد الاجتماعي والتضامني في النموذج التنموي    في مجلس حقوق الإنسان بجنيف .. أربعون دولة تجدد دعم مغربية الصحراء    هلال: المغرب يلتزم بالتصدي للكراهية    "هيئة النزاهة": فساد مترسخ يعوق وصول المغاربة إلى الخدمات الصحية    زخات رعدية بعدد من مناطق المملكة    الذهب يصعد وسط القتال بين إسرائيل وإيران ودعوة ترامب لإخلاء طهران    800 ألف عضو في 61 ألف تعاونية بالمغرب    شركة بريطانية تكشف مفاجئة.. الجهة الشرقية قادرة على تحقيق الاكتفاء الذاتي من الغاز للمغرب    مجزرة جديدة تحصد أرواح المجوعين.. مقتل 47 فلسطينيا بنيران إسرائيلية قرب مركز مساعدات في غزة    "سي إن إن": تقديرات استخباراتية تفيد بتأخير البرنامج النووي الإيراني لأشهر بسبب الضربات الإسرائيلية    هجوم إلكتروني يشل بنك "سبه" الإيراني    أمطار رعدية مصحوبة بتساقط للبرد وبهبات رياح مرتقبة اليوم الثلاثاء بعدد من مناطق المغرب    إجهاض محاولة تهريب أزيد من 7 أطنان من مخدر الشيرا بميناء طنجة المتوسط    استئنافية الرباط تحجز ملف الصحافي حميد المهدوي للمداولة والنطق بالحكم في 30 يونيو    هذا ما قررته المحكمة في قضية مقتل زوج المغنية ريم فكري    طنجة الدولية.. اختبار فرضيتي التحول والتفاعل    هذا المساء في برنامج "مدارات" :لمحات من سيرة المؤرخ والأديب المرحوم عبدالحق المريني .    الصويرة ترحب بزوار مهرجان كناوة    خبير يعرف بالتأثير الغذائي على الوضع النفسي    ترامب يقول إنه يريد "نهاية فعلية" للنزاع بين إسرائيل وإيران "وليس وقف إطلاق نار"    المغرب في معرض لوبورجيه بحثا عن شراكات لمواكبة دينامية تحديث قطاعه الجوي (قيوح)    مزور: الحكومة انتقت أزيد من 1800 مشروع لتعزيز السيادة الصناعية وخلق قرابة 180 ألف منصب شغل        توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأربعاء    سطات تطلق مشروعا لإنشاء 30 محطة لتحلية المياه لمواجهة الإجهاد المائي    رسميا.. العصبة الاحترافية تكشف عن موعد انطلاق الموسم الكروي المقبل    سجن وتغريم 4 أشخاص بسبب الإساءة العنصرية لفينيسيوس    اللجنة المركزية للاستئناف تحسم رسمياً في صعود شباب الريف الحسيمي إلى القسم الأول هواة    موازين 2025… أزمة توزيع المنصات تثير استياء الجمهور    تقنيون بالتعليم العالي يحتجون أمام الوزارة رفضا للتهميش    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الثلاثاء    برشلونة يعزز تصنيفه الائتماني ويترقب زيادة إيراداته بعد العودة إلى كامب نو        الأمير مولاي رشيد يترأس الجمع العام الاستثنائي للجامعة الملكية المغربية للغولف    22 دولة إسلامية تدين العدوان الإسرائيلي على إيران وتطالب بوقف فوري للتصعيد في الشرق الأوسط    مجموعة السبع تؤكد على"حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها" وتعارض امتلاك إيران لسلاح نووي    د محمد صبري : الصيدلة دعامة أساسية في الرعاية الصحية القريبة من المواطن..    مايس... الرابور الفرنسي يُشعل المنصات برسالة قوية دفاعًا عن مغربية الصحراء    وليد الركراكي.. بين فورة الغضب ومتطلبات البناء الوطني    تطوان تحتفي بعبق الموسيقى التراثية في أول ملتقى جهوي يحتفي بعبد الصادق شقارة    فدرالية اليسار تدين العدوان الإسرائيلي على إيران وتستنكر الجرائم المتواصلة في غزة    أعمدة كهربائية تُشوّه جمالية شوارع مدينة الجديدة: محمد الرافعي وإبراهيم الروداني في الواجهة .    "نقاش الأحرار".. برادة يكشف جهود الحكومة لرفع أعداد "مدارس الريادة" والحد من الهدر المدرسي    ثنائية فلامنغو تهزم الترجي التونسي    طنجة.. الإطاحة بلص خطير متورط في 16 سرقة قرب الكورنيش    حزب الله يدين استهداف إعلام إيران    وزارة الأوقاف تحدد موعد قرعة الحج    وزارة الاوقاف تصدر إعلانا هاما للراغبين في أداء مناسك الحج    جراحات جبل "طوبقال" القديمة    نصائح ذهبية لحماية المسنين من ارتفاع الحرارة    "أرواح غيوانية" يُكرّم رموز المجموعات الغيوانية ويُعيد أمجاد الأغنية الملتزمة    في أول لقاء مع جمهوره المغربي.. ديستانكت يكشف ألبومه العالمي وسط تفاعل صاخب    برلماني يطالب بالتحقيق في صفقات "غير شفافة في مستشفى ابن سينا الجديد        فقدان حاسة السمع يرفع خطر الإصابة بالخرف    ماذا يفعل تحطُّم الطائرة بجسم الإنسان؟        السبحة.. هدية الحجاج التي تتجاوز قيمتها المادية إلى رمزية روحية خالدة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمود رجل التفاؤل والمستقبل..

رحل عن دنيانا فجر يوم السبت الماضي، بالقاهرة، المفكر والناقد المصري الكبير محمود أمين العالم، عن سن يناهز 87 سنة، إثر أزمة قلبية مفاجئة. وبرحيله تفقد مصر والعالم العربي واحدا من كبار مناضلي اليسار في العالم العربي، الذي جسد فعليا مثال « المثقف العضوي » الملتزم ميدانيا ونضاليا بمصالح الشرائح الواسعة من أبناء بلده. وظل يزاوج دوما بين الفكر والممارسة، كونه من الأوائل الذين اهتموا بفلسفة العلوم في عالمنا العربي وألف العديد من الكتب في هذال المجال. وقد سبق له أن حاز العديد من الجوائز لعل أهمها جائزة الشيخ مصطفى عبد الرازق في الفلسفة حول بحثه القيم المتعلق ب: « فلسفة المصادفة الموضوعية في الفيزياء الحديثة ودلالتها الفلسفية ». مثلما اشتهر بمساجلاته الطويلة عبر الصحافة مع عميد الأدب العربي طه حسين، التي كان ينتصر فيها للإتجاه الواقعي في الأدب وأيضا بمساجلاته مع الأديب مصطفى العقاد. وبعد طرده من الجامعة بسبب انتمائه للحزب الشيوعي المصري، اشتغل بمجال الصحافة لسنوات، مثلما ذاق مرارة الإعتقال في عهد الناصرية بسبب مواقفه من مشروع الوحدة مع سوريا. وبعد الإفراج عنه سنة 1964، بعد خمس سنوات من الإعتقال، تمت مصالحة بينه وبين جمال عبد الناصر، حيث أصبح رئيسا لمجلس الهيئة المصرية العامة للكتاب، ثم رئيسا لمجلس إدارة مؤسسة المسرح والموسيقى والفنون الشعبية، وبعدها رئيسا لمجلس إدارة مؤسسة جريدة « أخبار اليوم ». لكن مع مجيئ السادات عاد الرجل لانتقاد الإنحرافات التي طالت مجالات الإصلاح التي كان يقودها عبد الناصر واعتقل من جديد بتهمة الخيانة العظمى. وبعد إطلاق سراحه هاجر إلى لندن للتدريس بإحدى جامعاتها، وبعدها هاجر إلى باريس بطلب من المفكر الفرنسي الكبير جاك بيرك، حيث عمل محاضرا بجامعة باريس من سنة 1973 حتى سنة 1984.
هنا ملف خاص عن الرجل بعد رحيله، نحاول من خلاله تسليط الضوء على جوانب متعددة من شخصيته الغنية، وفيه أيضا الكثير من الوفاء لذكراه ولما يمثله من قيمة سامية في دنيا الفكر والسياسة بمصر والعالم العربي..
فقدت جبهة التنوير في الفكر العربي بموت محمود أمين العالم رجلا ملتزما متفائلا وجريئا. لقد استطاع الرجل أن يمارس حضورا فكريا متنوعا، طيلة نصف قرن من الزمان. وعزز بعطائه المتعدد فضاءات الفكر العربي الملتزم بقضايا التاريخ والتقدم. ومنذ بداية انخراطه في العمل السياسي والعمل الفكري، وفي النقد الأدبي والنقد الثقافي، حرص على أن يكون في الجبهة المتقدمة من الفكر العربي ومارس بكل حيوية ما كان يعتبره وظيفة الفكر الحي، حيث تشكل الأفكار والمفاهيم أفقا لبناء مشاريع تسعف الإنسان في التقدم والنهوض.
تعود علاقتي بمحمود أمين العالم إلى نهاية الستينات حيث اطلعت على أطروحته الأولى في فلسفة المصادفة، وكانت هذه الأطروحة في موضوعها تقدم أحدث المعطيات حول فلسفة العلوم التي اختارها كمجال للبحث. وأستطيع القول إن هذا البحث، في الزمن الذي كتب فيه، كان يقدم أفقا جديدا في الفكر العربي المعاصر. ثم تعرفت عليه بشكل مباشر سنة 1983 في عمان بالأردن، وذلك بمناسبة انعقاد المؤتمر التأسيسي للجمعية الفلسفية العربية. كان الوفد المغربي يتكون من سعيد بنسعيد العلوي، عبد السلام بنعبد العالي، محمد وقيدي وكمال عبد اللطيف. وكان الوفد المصري يضم وفدا طلائعيا كبيرا، أبرز ممثليه: مراد وهبة، أنور عبدالمالك، محمود أمين العالم ، حسن حنفي وغيرهم. وقد كان المؤتمر التأسيسي هذا، مناسبة أدركت فيها نوعية الحضور الفكري الذي يتمتع به الرجل. كان قد قدم ورقة حول برامج الفلسفة في مصر في التعليم الثانوي، وقد أثارت ورقته نقاشا حادا، شاركتُ فيه بقوة. ذلك أن محمود انطلق من خطاطة ربطت برامج التعليم الفلسفي بالتحول الإجتماعي والطبقات الإجتماعية في مصر، وغلبت على طرحه المعالجة الميكانيكية، فكان النقاش هل الماركسية ميكانيكا أم علم في التاريخ يحتاج إلى كثير من الدقة والمعاينة؟.
بدأ الخلاف، حينها، بيني وبينه حول المنهجية الماركسية. وكنت في ذلك الوقت رفقة زملائي، متأثرين بضرورة تطوير الماركسية في ضوء جهود لوي ألتوسير، والماركسيين الجدد، الذين كانوا يرون ضرورة انفتاح قواعد المنهج في الرؤية الماركسية على مكاسب المعرفة المعاصرة. كان النقاش عميقا، وقويا، وكان محمود أمين العالم بروحه المتفائلة ونضاليته الصلبة، قد بدأ يقبل تطوير النظر في الفلسفة الماركسية، مع مبدأ الجمع بين هذه الضرورة وبين العمل السياسي بالأدوات المتداولة. وهذه معضلة من معضلات الجمع بين الفلسفة والنضال.
منذ 1983، تواصل اللقاء بيننا في المغرب والقاهرة، وفي عواصم أخرى، وكنت دائما بحكم الود الذي نكنه له، نشعر بأن ما بيننا عميق وكبير. ولهذا تابعت نضاله القومي ونضاله السياسي وعمله في جبهة الفكر. وبعد رحلة طويلة توقف محمود أمين العالم في العقد الأخير من القرن الماضي، أمام مشروع « قضايا فكرية »، وهي كتاب سنوي أصدر منه مجموعة من المجلدات تناول فيها الأسئلة الكبرى في الفكر العربي المعاصر. ومن بين القضايا التي أثارها: « نقد الأصوليات، نقد الهيمنة الأمريكية، الفكر العربي على مشارف القرن 21، تحديات اللغة العربية، تاريخ الحركة الشيوعية في مصر والعالم العربي، الفكر العربي ومابعد الحداثة، في نقد النزعات الظلامية... إلخ ». ولقد أتبث في هذه المجلدات قدرة فائقة على العمل وعلى مقاربة القضايا الشائكة في الفكر العربي، وأبان مرة أخرى على قدرات هائلة في العطاء الفكري.
تميزت مقدمات الكتاب السنوي « قضايا فكرية » بنضج المفكر وبقدرته على مواجهة المعضلات التاريخية - في واقع عربي - بجرأة وحزم. ذلك أن محمود أمين العالم يعتبر من عيار المفكرين الذين لا يقبلون التوفيق والتلفيق. فقد كان واضحا، وظل ملتزما بالماركسية ومبادئها العامة، باعتبارها فلسفة في التاريخ، مفتوحة ومنفتحة، وباعتبارها في الآن نفسه دليل عمل ونضال.
جمع محمود في رحلته في الحياة، بين السجن والنضال والأدب والفكر والصحافة وروح التفاؤل. فقد كان متفائلا دائما، ومنحته الحساسية الجمالية والفنية قدرة على إنتاج نصوص وقصائد وطموحات ومشاريع لتأسيس الجبهات، حيث عكست كل هذه الخيارات سيرته منذ أربعينيات القرن الماضي إلى السنوات الأخيرة حيث بدأ يفقد توازنه وذاكرته وأحلامه، ثم ودعنا أخيرا. ماذا أستطيع أن أقول في نهاية هذه الكلمة، عن مسار هذا الرجل؟!.. إن الصورة الراسخة في ذهني هي صورة التفاؤل والأمل في تجاوز معضلات الفكر والواقع العربيين والتمكن من تجاوز أعطاب الفكر العربي. فهل يستطيع الذين يواصلون العمل اليوم، أن يساهموا في تطوير وتجاوز ما أسسه محمود بروحه المتفائلة؟!.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.