الأحمر ينهي تداولات بورصة الدار البيضاء    الرباط.. بنعلي وقيوح يبحثان سبل تعزيز الربط القاري وتطوير النقل المستدام    فودين ودوكو يقودان السيتي لإسقاط الوداد في افتتاح مشوار مونديال الأندية    مباحثات رئيس مجلس النواب و"سيماك"    معرض باريس الجوي.. مزور: 150 شركة طيران تتوفر على وحدة إنتاج واحدة على الأقل بالمغرب    التوصية بتسريع التقنين وتيسيير التمويل تتوج "مناظرة الاقتصاد التضامني"    المملكة المتحدة تجدد التزامها بشراكة معززة مع المغرب    المغرب ملتزم بجعل كأس العالم 2030 نموذجا للاندماج والاستدامة البيئية (لقجع)    تفكيك شبكة دولية لتهريب السيارات المسروقة نحو المغرب عبر ميناء طنجة المتوسط    ندوة بالرباط تثمن "الكد والسعاية"    مشاكل تقنية منعت شبابا من إيداع عريضة ضد إقصائهم من مباراة التعليم بتسقيف سن الترشيح في 30 سنة    ثلاثة مغاربة ضمن قائمة أغلى عشرة لاعبين عرب بمونديال الأندية    مونديال الأندية.. الوداد يكشف عن التشكيلة الرسمية لمواجهة مانشستر سيتي    السعودية تُعلن فتح باب التقديم لتأشيرات العمرة لموسم 2025 بشروط جديدة وتسهيلات موسعة    برادة يستعرض مقتضيات مشروع قانون تطوير منظومة التعليم المدرسي    المغرب يحقق رقما قياسيا جديدًا في عدد السياح    السيّد يُهندس مسلسل شارع الأعشى في كتاب    إيران: سيطرنا على أجواء الأرض المحتلة اليوم وبداية نهاية أسطورة الدفاع للجيش الصهيوني    نشرة إنذارية..طقس حار وزخات رعدية مصحوبة بتساقط للبرد وبهبات رياح مرتقبة بعدد من مناطق المملكة    طقس حار وزخات رعدية مرتقبة بعدد من مناطق المملكة    الدرك الملكي يحجز 8 أطنان من الشيرا    وهبي: آن الأوان للاعتراف القانوني بمساهمة المرأة في تنمية الثروة الأسرية    أفلام قصيرة تتبارى على ثلاث جوائز بالمهرجان الدولي للسينما الإفريقية بخريبكة    السعودية تدعو إلى ارتداء الكمامة في أداء العمرة    جلالة الملك يهنئ رئيس السيشل بمناسبة العيد الوطني لبلاده    خامنئي: إيران "لن تستسلم أبدا" للضغوط    انتخاب المغرب نائبا لرئيس المجلس العلمي لاتفاقية اليونيسكو حول حماية التراث الثقافي المغمور بالمياه    فجيج بين ازيزا النادرة والتربية العزيزة.. حكاية واحة لا تموت    دورة تكوينية وورشات فنية لفائدة الأطفال والشباب بالمركز الثقافي لمدينة طانطان    مسرح رياض السلطان يحتضن أمسيات شعرية موسيقية من الضفتين وقراءة ممسرحة لرواية طنجيرينا وأغاني عربية بإيقاعات الفلامينغو والجاز والروك    التصعيد الاسرائيلي – الإيراني.. تأكيد خليجي على ضرورة وقف إطلاق النار ودعم جهود السلام في المنطقة    لقجع: الدعم الاجتماعي المباشر حلقة جديدة ضمن المبادرات الملكية الهادفة إلى صون كرامة المواطن    اعمارة: أنماط التشغيل الجديدة تواجه تحديات غياب التأطير القانوني والحرمان من الحماية الاجتماعية    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الخميس    أردوغان: "نتنياهو تجاوز هتلر في جرائم الإبادة"        المغرب ‬خامس ‬قوة ‬اقتصادية ‬في ‬إفريقيا: ‬مسار ‬تحول ‬ونموذج ‬إقليمي ‬صاعد    ارتفاع أسعار النفط في التعاملات الآسيوية    كأس العالم للأندية 2025.. تعادل فلومننزي البرازيلي وبوروسيا دورتموند الألماني دون أهداف    الرباط.. المحكمة الإدارية تنظر في طلب افتحاص صندوق تقاعد المحامين بمراكش    "واتساب" ينفي نقل بيانات مستخدمين إلى إسرائيل    مجازر الاحتلال تتواصل.. إسرائيل تقتل 32 فلسطينيا بغزة بينهم 11 من منتظري المساعدات    فياريال الإسباني يتعاقد مع لاعب الوسط موليرو لخمس سنوات    تحول "OpenAI" إلى الربحية يشعل الخلاف مع "مايكروسوفت"    مشروع سكني بالغرب يجلب انتقادات    كأس العالم للأندية .. قمة إنجليزية مغربية وصدام إسباني سعودي    تأجيل محاكمة محمد بودريقة إلى الأسبوع المقبل بطلب نافيا "أكل الشيك"    التوفيق : تكلفة الحج تشمل خدمات متعددة .. وسعر صرف الريال عنصر حاسم    ورزازات تحدث تحولا نوعيا في التعامل مع الكلاب الضالة بمقاربة إنسانية رائدة    برنامج "مدارات" يسلط الضوء على مسيرة المؤرخ والأديب الراحل عبد الحق المريني    وزير الأوقاف: خدمات واضحة تحدد تكلفة الحج الرسمي وتنسيق مسبق لضبط سعر الصرف    الصويرة ترحب بزوار مهرجان كناوة    خبير يعرف بالتأثير الغذائي على الوضع النفسي    وزارة الاوقاف تصدر إعلانا هاما للراغبين في أداء مناسك الحج    وزارة الأوقاف تحدد موعد قرعة الحج    نصائح ذهبية لحماية المسنين من ارتفاع الحرارة    برلماني يطالب بالتحقيق في صفقات "غير شفافة في مستشفى ابن سينا الجديد        







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بورتريه مثقف عضوي .. محمد جسوس بين العالم والسياسي.. لمن الغلبة؟

رددها دوما بكل امتلاء، في عز أزمنة القهر، قالها بملء الصوت و دفق القلب: « إنهم يريدون خلق جيل من الضباع».. قول/ موقف سيترك وراءه حرائق لا متناهية، وقرارات عجنت بنار وحديد، لكنه لم يقدم الاستقالة ولم يعدم الوسيلة في رفع صوته بالصراخ ضد منطق «التضبيع» والتزييف. فهو القادم من مدرسة القلق والسؤال، وهو المنشغل أبدا بإنتاج المعنى وتبديد مساحات الارتياح والاستكانة.
محمد جسوس الذي سرقته السياسة، واستغرقته التزاماتها التي لا تنتهي، كان ينتقل من فضاء لآخر، مدافعا ومحرضا ومساهما في تحريك الآسن من أسئلة مغرب الانتقال المعطوب، فهو إطفائي الحزب الذي يهرع إلى تذويب خلافات الشبيبة الاتحادية وصراعات المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، لكنه هو أيضا مشعل الحرائق ومنتج السؤال القلق، بسبب طروحاته الجريئة التي لا تتهيب الخطوط الحمراء.
في كل محاولة مفترضة لتحقيب السوسيولوجيا بالمغرب، إلا وينطرح إسم محمد جسوس لما له من أياد بيضاء على كثير من المشاريع المعرفية التي تعلن عن هوياتها و«براديغماتها» في مدرسة القلق الفكري. فلم يكن الرجل مجرد عابر سبيل في خرائط الدرس السوسيولوجي. بل كان، ولايزال، علما مؤسسا ومنارة بارزة في تاريخ سوسيولوجيا ما بعد الاستقلال.
رأى النور بدروب المدينة العتيقة بفاس سنة 1938، درس علم الاجتماع أولا بجامعة «لافال» بكندا، و منها تحصل سنة 1960على شهادة الميتريز في موضوع «حضارة القبيلة في المغرب: نموذج سوس». ليحرز بعدها شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع، وذلك سنة 1968، من جامعة «برنستون» بالولايات المتحدة الأمريكية، في موضوع «نظرية التوازن و مسألة التغير الاجتماعي». ليقفل عائدا إلى المغرب ممارسا للتدريس الجامعي بكلية الآداب بالرباط، وممارسا في الآن ذاته لنضال سياسي مختلف في أحضان اليسار. ففيه اجتمع «عالم و سياسي» ماكس فيبر، فلمن ستكون الغلبة؟!..
أحبته يعتبرونه مؤسسا ورائدا.. فيما معارضوه يعتبرونه معرقلا لكثير من المشاريع التي لم تساير رؤاه واختياراته الإيديولوجية.. لكنهم جميعا يقرون أنه الأستاذ العالم والمناضل السوسيولوجي الذي علمهم «حب الانتماء» إلى سوسيولوجيا النقد والتفكيك. علاقة محمد جسوس بالقلم لم تكن طيبة، كان مقلا في كتاباته، كان يميل إلى الشفاهي لا المكتوب. لكن هذا الميل لم يكن بالمرة ليقلل من قوة وأصالة منجزه. فالفكرة في جذوة التحليل وحرارة النقاش، تكون أكثر عمقا وتأثيرا. ولولا إلحاح بعض أحبته لما قرأنا طروحاته حول المسألة الاجتماعية في مستوى أول، وحول الثقافة والتربية والتعليم في مستوى ثان، الصادرتين معا ضمن منشورات «جريدة الأحداث المغربية». ولا تعرفنا على رهانات الفكر السوسيولوجي بالمغرب الصادرة عن وزارة الثقافة، والتي قدم لها وأعدها للنشر الدكتور إدريس بنسعيد.
في ذات «الطروحات» يعترف جسوس أنه «لا يتمنى إنتاج سوسيولوجيا جسوسية أومدرسة جسوسية». مؤكدا بأنه «في الغالب الأعم إذا كتبت نصا، لا أكتبه إلا بعد النقاش، أتعلم الكثير جدا من النقاش والحوار مع الشباب، وإن كنت أشتكي بالفعل من أن مستوى الحوار قد تدهور كثيرا خاصة منذ منتصف الثمانينات إلى الآن». في هذه الطروحات التي كشف في مفتتحها أسباب إضرابه عن الكتابة والنشر، سيعترف في ختام فاتحة القول بأنه نادم على انتصاره الطويل للثقافة الشفاهية، وأن الحاجة إلى المكتوب باتت أكثر إلحاحا، ما دام الطلب على السوسيولوجيا قد ارتفع، وما دامت أسئلة المجتمع في تواتر وإرباك مستمر.
تعددت تيمات الاشتغال، وتواترت مدارات البحث والتفكير، لكنها في الغالب كانت منهجسة بحال ومآل المجتمع المغربي، عبر مساءلة قرويته وأعطابه واحتمالاته القصوى في صياغة المشروع المجتمعي، فقد كان جسوس مفكرا على الدوام في حقلي السياسة و العلم، في العطب التنموي الذي يؤجل الانتقال ويجذر بالمقابل حالة التبعية و الانهيار.
مع محمد جسوس الذي يصنفه رشدي فكار ضمن المؤسسين الأوائل لسوسيولوجيا العالم الثالث بالمغرب، ستعرف السوسيولوجيا القروية بالمغرب انطلاقتها الثانية، بعد انطلاقتها الأولى المبكرة التي دشنتها السوسيولوجيا الكولونيالية، فقد حاول جسوس منذ البدء أن يؤجج النقاش السوسيولوجي حول المجتمع القروي، معتبرا إياه الحقل الحيوي الذي يترجم و يكشف مجموع تفاعلات النسق المغربي، فمن خلال ذات المجتمع يمكن فهم كثير من الظواهر و القضايا التي تلوح في باقي الأنساق المجتمعية الأخرى، و يمكن أيضا اكتشاف «مآل المجتمع المغربي» الذي يعد تعبيرا أثيرا عند محمد جسوس.
إن تسخير السوسيولوجيا للنبش في هموم وآمال المجتمع القروي أمسى مطلبا أكيدا في راهننا هذا، الذي تعالت فيه آهات الفلاحين وزفراتهم الساخطة، فحاجتنا إلى سوسيولوجيا قروية أكثر جرأة في الطرح والتحليل ضرورة قصوى، بل إن الحاجة إلى هذه السوسيولوجيا لا يحددها فقط ما يعتمل في العالم القروي من ظواهر وحالات عصية على الفهم، ولا توجبها حصرا محدودية الدراسات والأبحاث التي تصدت لها، وكذا ضرورات توسيع دوائر الاهتمام العلمي بها، وإنما تفرضها فرضا خصوصيات المجتمع المغربي عموما، الذي يبقى مجتمعا قرويا و قبليا بالرغم من كل مظاهر انتماءاته الحضرية و الحداثية.
لكل هذه الاعتبارات كان الرجل يدفع باتجاه تطوير السوسيولوجيا القروية في إطار وحدة علم الاجتماع القروي بكلية الآداب بالرباط. وبالضبط قريبا من معهد العلوم الاجتماعية الذي تعرض خطأ واعتسافا للإغلاق ذات زمن سبعيني اعتقادا من صناع القرار أنه يسهم في تفريخ أطر اليسار الذين يحملون التهديد للدولة.
ليست الممارسة السوسيولوجية مجرد ترف فكري عند محمد جسوس، إنها مهمة نضالية لا تقتنع بالمقاربات الكسولة و المطمئنة، ولا تقف عند حدود الجاهز و اليقيني، و بالطبع فهكذا تمثل لمهمة السوسيولوجيا يقتضي جرعات عليا من الالتزام والجرأة. في أغلب ندواته كان يوثر البدء بحكاية إمبراطور الحبشة الذي صار بسبب قراراته القراقوشية، يقتعد كرسيا كهربائيا، ففي البدء كانت الحكاية، و في البدء يحكي محمد جسوس فيقول بأن « إمبراطور الحبشة مينيليك، الذي كان يحكم البلاد في نهاية القرن التاسع عشر، سمع باختراع آلة جديدة في الولايات المتحدة الأمريكية، و هي الكرسي الكهربائي الخاص بتنفيذ حكم الإعدام، الشيء الذي جعله يقتنع بأن استيراد هذه الآلة الجديدة يندرج ضمن مشروع تطوير البلاد، فما كان منه إلا أمر وزيره باقتناء ثلاثة كراسي على الأقل، و هو ما كان فعلا. انتظر الإمبراطور مدة من الزمن، إلى أن وصلت الكراسي الكهربائية بحرا، لينظم على إ ثر وصولها إلى أرض الحبشة، حفلا حاشدا بالميناء، فما أن أنزلت الكراسي من الباخرة، حتى طلب الإمبراطور من وزيره، أن يجرب أحد هذه الكراسي بإعدام أحد الأفراد من الذين حجوا لاستقبالها، لكن علامات التوتر بدت على ملامح الوزير، فما كان من سيده إلا أن سأله: ما المشكلة؟ ليجيب الوزير متلعثما من فرط الحرج: إننا لا نتوفر بعد على الكهرباء.حينها انصدم الإمبراطور، ففكر و دبر، و حتى لا يتهم بتبذير المال، فقد قرر تحويل تلك الكراسي إلى عروش، و منذئذ و سعادته يعتلي عرشا/ كرسيا كهربائيا مخصصا في الأصل لتنفيذ عقوبة الإعدام».
تنتهي الحكاية و لا ينتهي محمد جسوس من إثارة الشقي من الأسئلة، عن التنمية المعطوبة والاستنبات البائس للأفكار و المشاريع، يستمر في تعليم أجيال السوسيولوجيا بالمغرب كيف تختمر الفكرة و كيف يكون التخريج العميق، في الظل لا في بقع الأضواء العابرة، فلم يكن لاهثا بالمرة وراء شهرة مزيفة، كان راغبا فقط في الفهم و صناعة التغيير، من مدخل الفكر النقدي.
لهذا يبقى محمد جسوس، شفاه الله و أطال عمره، العالم المربي الذي ينغرس عميقا في أفئدة طلابه و زملائه، و الذي لا يمكن بالمرة تحقيب السوسيولوجيا المغربية و لا حتى السياسة المغربية بمفهومها النبيل، بدون الرجوع إليه مفكرا و مناضلا فوق العادة، فهنيئا لنا جميعا بهذا ال «جسوس» الذي سرقته السياسة من السوسيولوجيا، و دون أن تجعله يتنكر لصوت العلم الغائر فيه جدا. ففيه يجتمع العالم و السياسي، و الغلبة دوما لسوسيولوجيا النقد و المساءلة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.