«اللباس البرتقالي والسلاسل الحديدية واللاصق الأسود هي تلك الصور التي شاهدناها ولا نزال نشاهدها للمعتقلين الذين أطلقت عليهم الولاياتالأمريكية لقب «الإرهابيين». صور تثبت لنا حجم الضبابية الذي لا يكاد يزول عن ادعاءات الولاياتالمتحدة المزيفة والحقائق، التي طالما رآها البعض في أمريكا باعتبارها راعية حقوق الإنسان والعدالة والمساواة والمعتقدات الدينية. حقائق يكشف عنها إريك سار (رقيب في الجيش الأمريكي وأحد المحققين في غوانتانامو بعد فترة ستة شهور قضاها مع المعتقلين) والصحفية فيفكا نوفاك (مراسلة صحيفة «واشنطن بوست» وعضو الجمعية الأمريكية لحقوق الإنسان والحريات المدنية). حقائق تبين لنا مقدار الغطرسة الأمريكية في جحيم غوانتانامو، الذي بدأت السلطات الأمريكية باستغلاله مع بداية سنة 2002 بعد احتجاز من تشتبه في كونهم إرهابيين ينتمون إلى تنظيم القاعدة. حقائق تكشف لنا جوانب مظلمة وممارسات وحشية وأساليب منافية للمواثيق والأعراف الدولية تجاه المعتقلين. لم يكن كل المعتقلين في غوانتانامو يمتلكون معلومات قيمة عن أمن الولاياتالمتحدة، فقد دهشت عندما لاحظت أن بعض الملفات التي كنت أتفحصها كانت رقيقة جداً وبعضها لا يحوي أكثر من اسم المعتقل ورقم من سجن «بإجرام» وملخص عن التحقيق الأولي مع المعتقل، والذي قد يقول فيه إنه مزارع وينفي أي علاقة له بالإرهاب، ويدعي أن قوات تحالف الشمال أو الجيش الباكستاني اعتقلته، لكن العديد من الملفات الرقيقة كانت لمعتقلين كانوا يتعاونون مع المحققين، لكنهم كانوا، على ما يبدو، فعلاً لا يعرفون الكثير وأصر الكثير منهم أنهم لم يسمعوا مطلقاً بتنظيم القاعدة من قبل، وكما لاحظت من قبل عندما كنت أخدم في مجمعات الزنزانات، كان عدد من المعتقلين فعلاً لا يتم استدعاؤهم للتحقيق. كما تبين لي بسرعة أن هناك تنافساً بين الوكالات الاستخباراتية المختلفة التي كانت تحقق مع المعتقلين حول موعد الحصول على الإذن للقاء معتقل ما أو لاً، لم تكن هذه الوكالات تثق ببعضها البعض. كان المحققون يتعرضون لضغوط كبيرة للحصول على معلومات من الأسرى تساعد في منع هجمات إرهابية مستقبلية، لكن بعض المعتقلين لم يفعلوا أكثر من التحديق بالجدران أو الشكوى من سوء معاملة الحراس لهم، أو أن يقولوا ببساطة إنهم لم يكونوا يعرفون شيئا، كما كان واضحاً أن الوكالات الاستخباراتية (بعكس ما كان يفترض أن يحدث بعد هجمات 11 سبتمبر) لم تكن تتبادل المعلومات مع بعضها البعض وأن كل طرف كان يحاول أن يبدو الأفضل. المعلم المحبوب ففي الوقت الذي بدأت فيه العمل مع فريق التحقيق تقريباً، جاء عميلان من مكتب التحقيقات الفيدرالي إلى غوانتانامو لاستجواب معتقل هام جداً، واتضح أن ذلك المعتقل هو «المعلم المحبوب» الذي كان يكسب الاحترام مباشرة في أي مجمع زنزانات ينقل إليه. كان هذا المعتقل هو محمد صلاحي من شمال إفريقيا وعاش فترة في كندا وألمانيا. وكان يشكل نقطة ضعف بالنسبة للمحققين نظير عدم تمكنهم من التحقيق معه ونزع المعلومات منه. فبعد أن حقق معه عملاء مكتب التحقيقات الفيدرالي على مدى عدة أسابيع، سمعت أحد المحققين واسمه بن يشتكي للضابط المسؤول عنه حول الطريقة التي يستخدمها أولئك العملاء، يقول: «أولئك العملاء الملاعين يجلسون في كراسي عبر الطاولة ويتحدثون إلى المعتقل طوال الليل وكأنهم يتحدثون مع صديقهم المقرب». وأضاف بن «أحدهما في الواقع أطلق لحيته. أعتقد أنه يفكر في اعتناق الإسلام بحق الرب». كان بن محقاً بخصوص اللحية، فغالبية المحققين قرروا أن يقلدوا المعتقلين المسلمين في أشياء كثيرة بغية تسهيل مهمتهم في الحصول على المعلومات، وقال بن أخيراًَ: «متى سنضع أيدينا على ذلك اللعين سيدي»؟ فأجابه الضابط: «لا أعتقد أنهما سيستغرقان وقتا أطول من هذا. لا يستطيعان أن يستمرا في خداع نفسيهما»، لكن العميلين الفيدراليين استمرا في تحقيقاتهما. كانا يسألان أي شخص يرونه، بمن في ذلك أنا، عن الإسلام، وذلك ليتمكنا من ضم معتقدات المعتقل بشكل أفضل وما قد يعتبره إهانة لدينه حتى إنهما تعلما قليلا من العربية، كانت لحية ذلك الضابط قد نمت ولحية العميل أيضا بشكل جيد واستمر وجودهما حوالي ثلاثة أشهر، وخلال تلك الفترة أصبح المعتقل أكثر تقبلاً لهما بعد أن كان الشك يملأه قبل ذلك، كان شاباً ذكياً وكان يعرف أنهما كانا يحاولان استغلاله ولكنه أحس أنهما فعلاً كانا يحاولان أن يفهما لغته وثقافته ودينه. لم أكن متأكداً إلى أي مدى تمكنا من الحصول على معلومات من أسيرنا الهام، كنت أستطيع الدخول إلى ملفه ولكنه لم يكن قد زود بآخر المعلومات، ومع ذلك بالحكم على محادثاتي مع هذين العميلين المثابرين، كان واضحاً أنهما يحققان تقدماً. المختبر التجريبي وبقدر ما كان المحققون العسكريون يكرهون ذلك (يكرهون رؤية احد المحققين وقد نمت لحيته كالإسلاميين) إلا أنها كانت الطريقة الوحيدة، بل والأفضل لهم للحصول على المعلومات أثناء التحقيق، وكان الجنرال ميلر يحب أن يقول إن غيتمو هو «المختبر التجريبي للحرب على الإرهاب»، وكان يقول للصحافيين إنه يفضل محققين ممن لديهم ما بين سنتين إلى ست سنوات في الخدمة، لأنه يعتبر «الاستخبارات لعبة الشباب» وأنها تستحق المغامرة وتحتاج إلى أساليب مبتكرة وجديدة دائما للوصول إلى الأهداف المتوخاة من التحقيق. كان ميلر يريد أن يثبت لأعضاء فريق التحقيق بأن ما قام به أحد زملائهم (ويقصد هنا إطلاق لحيته وإطالتها) هو ضرورة من ضروريات التحقيق ولا خطأ في ذلك ما دامت تلك الوسيلة ستأتي بإجابات واضحة ومعلومات هامة قد لا يدلي بها المعتقل أمام أي وسيلة أخرى. المكتب الأصفر في صباح أحد أيام فبراير، استدعي كامل فريق التحقيق إلى اجتماع في مبنى الإدارة الذي يطلق عليه اسم مبنى المكتب الأصفر. كانت هناك شائعات تقول بأن جزءاً منه سيحول إلى قاعة محكمة. كنت آمل أن نطلع خلال هذا الاجتماع على توقيت إحالة المعتقلين إلى القضاء، فعدم محاكمة المعتقلين كان مصدراً للانزعاج ليس للمعتقلين فقط ولكن للعاملين في غيتمو أيضا، لأننا كنا نشعر أننا نفتقر إلى إجراء منظم لتقرير من منهم يجب أن يبقى ومن منهم يجب إطلاق سراحه، فلم تكن القضية أخلاقية فقط، ولكنها كانت قضية عملية أيضاً وسيكون من الأسهل على عناصر الاستخبارات التركيز على الإرهابيين الحقيقيين عندما يتم إرسال الباقين إلى بلادهم. كان في الاجتماع حوالي مائة شخص من مترجمين ومحققين ومحللين حينما وقف الكولونيل «راسل سيمز»، وهو أرفع ضابط استخبارات في المعسكر، وبدأ بالحديث بمساعدة جهاز الكمبيوتر وبرنامج «باور بوينت»: «أعرف أن بعضكم يتساءلون عن مكان معسكر دلتا في نظامنا القانوني الوطني، اليوم لدينا محام هنا ليشرح ذلك لكم». كان الكولونيل سيمز في منتصف الخمسينات وشعره أبيض وقصير، وكان يرتدي نظارات ويبدو مثل أستاذ جامعي، أما المحامي فهو الكابتن «هندرسون» وكان في الثلاثينات من عمره وشعره أسود قصير وعيناه بنيتان وأمضى نصف ساعة وهو يتحدث عن علاقة معسكر دلتا بمعاهدات جنيف وأنها لا يمكن أن تطبق على معتقلي غوانتانامو، لأنهم لا يعتبرون أسرى حرب لأنهم كانوا يفتقرون إلى تركيبة قيادة محددة مثل باقي القوات المسلحة في الدول الأخرى، ولأنهم لم يطبقوا قواعد القتال التقليدية، وأخيراً لأنهم لم يكونوا يرتدون زياً عسكرياً رسمياً حينما تم القبض عليهم. وقبل أن ينهي الكابتن «هيندرسون» كلامه قاطعه الكولونيل «سيمز» مؤكدا كلام «هيندرسون» بالقول: «إننا مازلنا ننوي أن نعامل المعتقلين بإنسانية، ولكن هدفنا هو الحصول على أي معلومات استخباراتية عملية وبسرعة». لعبة معاني هكذا كانت تجري الأمور في غوانتانامو، فلم أسمع أحدا طوال مدتي هناك يقول أو يستخدم كلمة «سجين» ولو مرة واحدة على المعتقلين، بقدر ما كانت كلمة إرهابيين تتردد وتتعالى بين أروقة الزنزانات وعناصر الشرطة العسكرية والمحققين، ولعل السبب هو أن استخدام كلمة «سجين» ستجعله قريباً من عبارة «سجين حرب» التي تعطيهم حق حماية القانون الدولي، كانت لعبة معاني وألفاظ فقط لا غير فيما يتعلق بحقوق المعتقلين وإنسانيتهم. بعد أن انتهى الاجتماع، رحت أفكر بما جرى فيه وكنت غاضباً، وكم كان يضايقني أن يعاملني أحد على أنني لا أتمتع بالذكاء الكافي لأفهم ما يدور حولي، كنت قد رأيت الكثير من ملفات المعتقلين، الذين كانوا يقولون إنهم كانوا مجندين في جيش طالبان، والذين أجبروا على القتال، لأنهم وصلوا إلى سن التجنيد الإجباري، لكن ذلك لم يكن كافيا لاعتقالهم والزج بهم في هذا المعتقل في ظروف لا إنسانية ولا تمت للشرعية والعدالة بصفة، فما ذنب هؤلاء إذا كانت الولاياتالمتحدة تصور نظام طالبان على أنه نظام مجرم ووحشي وإرهابي، خاصة أن الإدارة الأمريكية كانت على قناعة ببراءة هؤلاء الأشخاص الذين كانت طالبان ستقتلهم لو رفضوا القتال في صفوفها، ولكن ها هم يقولون لنا في غيتمو إن هؤلاء الأفغان كانوا في جيش طالبان، لكننا لا نستطيع إخضاعهم لمعاهدات جنيف حتى وهم يرتدون زيا عسكريا مهترئا. فهنا يعتبرون أسرى حرب وليسوا سجناء حرب أو محاربين أعداء، فحتى يخضعوا لتلك المعاهدات (حسب النظرة الأمريكية) يجب أن يرتدوا زيا عسكريا جديدا. وربما كانت تركيبة القيادة غير متينة ومائعة في جيش طالبان، لكن ذلك كان ينطبق على كل شيء في ذلك البلد، وماذا عن الأشخاص الذين كانوا في المكان الخطأ في الوقت الخطأ واعتقلهم صيادو الفرص الانتهازيون، الذين كانوا يقبضون جوائز سخية عن طرائدهم من الولاياتالمتحدة؟ لم يكن الأمر مقنعاً. كانت المسألة في نهاية الأمر تتعلق بكيفية إدارتنا للتحقيق، ومع أن الكولونيل سيمز لم يكن صريحاً تماماً، إلا انه كان واضحاً بأن قواعد استجواب المعتقلين كانت ستصبح فضفاضة أكثر إن لم تكن كذلك بالفعل. فبعد قضاء عدة أسابيع في فريق التحقيق (لم أكن قد شاركت بعد في أي جلسة تحقيقات) بدأت أسمع الكثير من المترجمين والمحققين في المكتب يقولون بأن بعض المحققين استخدموا الكلاب البوليسية في التحقيق مع المختطف العشريني لبث الرعب في قلبه داخل غرفته المليئة والمغطاة جدرانها (بشكل عمدي) بصور ضحايا هجمات 11 سبتمبر، بحيث إن المحقق كان يسأله إذا كان دينه يأمره بأن يفعل ذلك، كان ذلك التعذيب يتم بعد تعريضه لأنوار قوية ولشريط تسجيل عال جداً عليه صوت قطط تموء وأطفال يبكون، ولموسيقى تصم الآذان. فمثل هذه الإجراءات وافق دونالد رامسفيلد على استخدامها مع محمد القحطاني. كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في المغرب