"البوليساريو" تهاجم الإمارات بسبب الصحراء    الملك محمد السادس يعزي خادم الحرمين الشريفين في وفاة الأمير بدر    انخفاض العجز التجاري للمغرب إلى 61.9 مليار درهم    "رايان إير" تطلق خطا جويا بين طنجة وورزازات    إحداث أكثر 2400 مقاولة جديدة على مستوى جهة الشمال مع متم فبراير    هذه تفاصيل اتفاق وقف إطلاق النار الذي وافقت عليه "حماس"    الدكيك يحتفل بتصنيف "فوتسال الفيفا"    القضاء يسجن ضابط شرطة 5 سنوات    بعد دخوله قائمة هدافي الفريق.. هكذا احتفل اشبيلية بالنصيري    مناورات عسكرية موريتانية.. هل هي رسالة للجيش المالي ولفاغنر؟    المبادرة الوطنية للتنمية البشرية تمول 473 مشروعا باقليم الحسيمة    انتقادات تطال وزير الصحة بسبب إقصاء 8 ملايين مغربي من التغطية الصحية    مرصد يثمن مأسسة الحكومة للحوار الاجتماعي    زيوت التشحيم تجمع "أولى" و"إكسون"    وزير النقل: ارتفاع عدد ضحايا حوادث السير من مستعملي الدراجات النارية بنسبة 31 في المائة    الأمثال العامية بتطوان... (591)    بلاغ جديد وهام من المديرية العامة للضرائب    استعراض تجربة المغرب في مجال مكافحة الفساد خلال منتدى عربي بالقاهرة    بسبب تصرفات مشينة وعنيفة.. تأجيل محاكمة محمد زيان في قضية اختلاس أموال الحزب الليبرالي    مئات الفلسطينيين ينزحون من شرقي رفح إلى غربي قطاع غزة    لاعبين الزمالك كاعيين قبل الفينال ضد بركان ومدربهم كيحاول يكالميهم    عاجل.. القضاء يعزل رئيس الرجاء محمد بودريقة من رئاسة مقاطعة مرس السلطان    المحرشي ..الخياط لي عندو قصر فالرباط رجع من الغربة وبغا يدير وساطة والتمس من الحكومة دير حل لإضرابات طلبة الطب: وها كيفاش تجاهلو وزير الصحة    وفاة المقدّم التلفزيوني الفرنسي الشهير برنار بيفو    ماكرون يطالب بمشاركة مبابي في أولمبياد باريس    تطويق أمني بالعاصمة يحول "مسيرة الصمود" لأطباء الغد إلى "وقفة الحشود"    حصيلة منجزات وكالة بيت مال القدس فاقت 13,8 مليون دولار خلال الخمس سنوات الأخيرة    الضمان الاجتماعي الإسباني يتحاوز عتبة 21 مليون منتسب    تطوان: إطلاق طلب عروض لإنجاز منطقة الأنشطة الاقتصادية والحرفية "كويلمة"    ارتفاع حصيلة قتلى الفيضانات في البرازيل إلى 83    بلقصيري: أجواء افتتاح مهرجان سينما المرأة والطفل في دورته الأولى    إسرائيل تغلق مكتب الجزيرة وألمانيا تنتقد القرار    وثائقي فريد من وزارة الثقافة والتواصل يبرز 6 ألوان فنية شعبية على ضفاف وادي درعة    هذه تفاصيل موجة الحرارة المرتقبة في المغرب ابتداء من يوم غد الثلاثاء    اللي كيمشي لطريفة وعزيز عليه الطون والسربيسة والسينما: ها مهرجان وها الافلام المغربية المعروضة فيه    إضراب جديد يشل محاكم المملكة    تسجيل بقوة 2.5 درجات على سلم ريشتر بإقليم تاونات    لأول مرة.. تاعرابت يحكي قصة خلافه مع البرازيلي "كاكا"    بسبب الهلال.. لجنة الانضباط تعاقب فريق الاتحاد السعودي وحمد الله    المغرب يحتضن الدورة 16 للبطولة الإفريقية للدراجات الجبلية    حماة المال العام: "حفظ طلبات التبليغ عن الجرائم من شأنه أن يوفر الحصانة لمتهمين متورطين في مخالفات جنائية خطيرة"    بعشرات الصواريخ.. حزب الله يستهدف قاعدة إسرائيلية في الجولان    أسعار النفط العالمية تعود إلى الارتفاع    وفاة مدرب الأرجنتين السابق لويس مينوتي بطل مونديال 1978    مهرجان الجونة السينمائي يفتح باب التسجيل للدورة السابعة من "منصة الجونة السينمائية"    "الثّلث الخالي" في القاعات السينمائية المغربية إبتداء من 15 ماي الجاري    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    دراسة: السجائر الإلكترونية قد تسبب ضررا في نمو الدماغ    المشاهد الجنسية في أفلام هوليوود تراجعات بنسبة 40% وها علاش    باحثة: الضحك يقدر يكون وسيلة واعرة لعلاج الناس    رأي حداثي في تيار الحداثة    دراسة حديثة تحذر المراهقين من تأثير السجائر الإلكترونية على أدمغتهم    السفه العقدي بين البواعث النفسية والمؤثرات الشيطانية    جواد مبروكي: الحمل والدور الحاسم للأب    منظمة تدعو لفتح تحقيق في مصرع عامل بمعمل تصبير السمك بآسفي    الأمثال العامية بتطوان... (589)    جامعيون ومتخصصون يحتفون بشخصية أبي يعزى في ملتقى علمي بمولاي بوعزة        







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فضل الكلاب
نشر في المساء يوم 29 - 08 - 2012

«كلما رأيت البشر، كلما أحببت الكلاب أكثر وأكثر»، هكذا يكتب محمد بن المرزبان، الذي عاش في القرن الذي عاش فيه المتنبي، في كتابه «كتاب فضل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب». لكن في زمننا هذا، زمن الخزي، تحول البشر إلى خنازير فأصبح التمسك بالكلب خيرا من التمسك بأناس هذا الزمان، وتحولت الفلسفة الكلبية، التي تقوم على الفضيلة للوصول إلى الحقيقة، إلى مرض قائم على الأعمال اللاأخلاقية التي تقود إلى الإحباط وخيبة الأمل وغياب الثقة من أجل الوصول إلى المال والنفوذ والشهرة، ضاربة عرض الحائط بالفضيلة. كذلك يتطرق المرزبان في كتابه إلى اهتمام العرب بهذا المخلوق واحتفالهم به احتفالا كبيرا لما عرفوه عنه من وفاء لم يجدوه لدى البشر؛ فالكلاب الوفية تلازم أصحابها طيلة حياتهم، ولاسيما إذا كانوا ذوي ثروة أو نفوذ، فتحرك لهم أذنابها باستمرار وتهاجم كل من هاجمهم وتنبح عليه وتكشر له عن أنيابها. المذهب الكلبي الجديد مثال نادر للوفاء على هذه الأرض ومخلص في دفاعه عن أصحابه حتى ولو كانوا سارقين أو مختلسين، فهي تدرك جيدا مقولة: حملت إنسانا وكلبا أمانة فضيعها الإنسان والكلب حافظ.
كلبيو هذا الزمن، أصحاب الجلود الغليظة وآكلو السحالي، بات شغلهم الشاغل ليل نهار صفع وضرب كل من اسمه زيد وعمرو. أسقطوا من قاموسهم القيم الاجتماعية القائمة على الفضيلة والحرية الأخلاقية للتحرر من عبودية الرغبة وأضحوا يقدسون المتعة، الهدف الأساسي لحياتهم، التي، في رأيهم، تمثل السعادة الحقيقية، وسلكوا مسلك الجشع الذي يتسبب في آلام الآخرين، فكلبيو هذا الزمن تطبعهم اللامبالاة بالعرف وما يهمهم هو شكل اللباس واللباقة والسهرات الفاجرة والمنازل الفاخرة والسيارات الفخمة ووضع نظارات «الرايبن» على أرنبة أنوفهم وإحكام إغلاق نوافذ سياراتهم حتى لا تتسرب إليهم رائحة الأحياء الفقيرة القذرة المدنسة!
تراثنا يعلمنا أن كرامة الشخص تلزمه بأن ينظر باحتقار إلى كل الرغبات المألوفة في الحياة، ويعيش غير عابئ بالثروة والجاه وأن سعادته مرهونة بالتزاماته نحو المجتمع والدولة والأسرة والأقرباء، لأن هذه المتعة تولِّد رغبات لا يمكن إشباعها. ولكن شخصية كلبيي هذا الزمان معطوبة لا تحظى بالقدر الثقافي الذي يتناسب وحجمها، كما أنها شخصية ليست مستقلة وتعاني من الازدواجية والانفصام وتتسم بضعف الإرادة، وكل ما ينمو في داخلها يوحي بالشعور بالعجز والنقص. هذه الازدواجية تمنع جل أصحاب المذهب الكلبي من التعبير عما يصبون إليه، خاصة وأن خطابهم يبقى ناقصا. وفي نفس الوقت تطبع هذه الشخصيةَ النظرةُ الاستعلائية، حيث أصبحوا يعتقدون أنهم أبطال وأنهم حملة لواء القيم الصحيحة، لكنهم في الحقيقة أشخاص متعددو الأوجه ومتكبرون. وأصبحت هذه الازدواجية، بالفعل، حالة شعورية واقعية تنهش جسد المجتمع المغربي. الانفصام الشخصي الذي يعيشه المذهب الكلبي هو حالة مرضية تؤثر في التفكير والوجدان والسلوك وتدفع بالإنسان إلى
أن يصبح منافقا لا شخصية له. إن تقلب الآراء والأفكار والأهواء ليس أمرا جديدا أو حتى معيبا، شرط أن يقترن بمبدأ أو مبررات معقولة. لكن ما نخشى عليه هو هذا الوباء الذي أصبح يصدر عن أصحاب المذهب الكلبي والذي نفهم جيدا أنه ليس وليد الحاضر، بل هو وليد الماضي وتراكماته، تحركه خيوط معينة تلعب دور «طابور خامس» لافتعال «حالة وجدانية» تتسم بالإحباط والاستسلام. الفارق الفاصل بين الكلبيين والإنسان العادي هو أن الأخير يعيش الواقع دون أن يستشعر الحياة، أما الكلبي فيعي محيطه جيدا ويضع الأشياء في سياق «المصلحة الشخصية» بالدرجة الأولى ويحاول أن يفهم وضعه انطلاقا من تحريفه للماضي على ضوء الحاضر وسرقة المستقبل على ضوء مغالطات الحاضر. إن مأساتنا تكمن في عدم وضع كلبيي مجتمعاتنا التي تهوى أن تطلق على نفسها كلمة «الأنتلجانسيا» للتحليل النفسي حتى ينكشف أمرها. هؤلاء الكلبيون يعتمدون خلق التناقضات عبر مجموعة من التفاعلات «المرضية» التي تتميز بالقصور أو ضيق الرؤى وتتسبب في الاضطراب الوجداني الذي يؤثر حتما على روح الإبداع وعلى المستوى السلوكي والاجتماعي.
المؤسف في الأمر أن هذه الاضطرابات الوجدانية هي في الغالب نتيجة معاناة اقتصادية ومادية، فالكلبيون أصبحوا يخافون أكثر من أي وقت مضى على مساكنهم في مربيا بإسبانيا أو شققهم الفخمة في باريس أو عماراتهم الشاهقة في لندن ونيويورك. كما أن همهم كله أصبح يتركز على مستقبل أبنائهم الذين لا يريدون لهم أن يتعلموا في مجتمعاتهم لأنهم لا يؤمنون ولا يحترمون تراث بلدانهم المحلي والأصلي ويريدون لهم أن يتشبعوا بالقيم الغربية ويتقنوا اللغات الأجنبية لحملهم على الانفصال عن مجتمعاتهم حتى «لا ينحدروا إلى مستواها». هكذا تتراكم الانعكاسات المدمرة على صعيد كل ما هو
ثقافي وإبداعي، وحتى اجتماعي، على حساب الكرامة التي تخلى عنها كلبيو مجتمعاتنا. وهكذا يتبين بشكل علني موقفهم المتناقض والمتذبذب الناتج عن عدم الثقة في النفس، فتسقط أعمالهم إلى قاع سلال المهملات!
نحن نشعر بالمرارة التي تشم رائحتها في الهواء المسموم والتي يتسبب فيها الكلبيون. إنهم يساهمون في تشويه معالم حضارتنا وصورة ثقافتنا لجيلنا القادم وللأجيال الغربية، ولا تهمهم قيم العمل الخلاق بقدر ما تهمهم المصالح الضيقة والترويج لأنفسهم والتفاخر بما لديهم وما يميزهم. لكن الخطير أن تردم اليد اليمنى ما أنجزته اليد اليسرى من تراث راق لا يزال يسطع في سماء مجتمعاتنا. والعجيب في الأمر هو اكتساب أصحاب المذهب الكلبي القدرة على قول الشيء وعكسه في آن واحد، فتدور الدائرة ويرجع الإنسان إلى نقطة الصفر متحولا معها إلى «يراعة» تجلب الخراب على نفسها فتأكلها الجرذان. والأخطر هو استسلامنا للمذهب الكلبي ليخلو له الجو لتمرير ما يريده، لأن المهم عند أصحاب المذهب الكلبي هو خلق الفرص لبعض «الضعفاء» الذين لا يعرفون حتى من أين تؤكل الكتف، لكنهم يعرفون نوع الصفقة التي ترفعهم وتقربهم من المختلسين. وهذه العقلية لا تتطلب الكثير من الخداع والمكر بقدر ما تقوم على مهارة مبدأ «انهب واركض». وأغرب ما في الأمر هو إيمان أصحاب المذهب الكلبي بهذا التدجين نتيجة العقد النفسية وانفصام الشخصية وفرض وجهة النظر الواحدة وتضعضع بنيتهم الأخلاقية لأنهم لا يؤمنون بقضايا أوطانهم لأنه لا روح لهم فيصبحون خارج حدود المكان والزمان. لكنهم سيقفون على الحقيقة في يوم من الأيام كما خرجت من فم «دلوريس ابروري»، الكاتبة والمتمردة الإسبانية التي قالت مرة «من الأفضل أن يموت المرء على قدميه على أن يعيش على ركبتيه».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.