قبل حوالي عام، سمع المغاربة عن قانون جميل اسمه قانون حماية المبلّغين عن قضايا الفساد، أي أن الذين يبلّغون عن الفاسدين والمفسدين والناهبين سيحميهم القانون ولن يدخلوا أبدا في لعبة «سين وجيم»، هذه اللعبة التي اخترعها الفاسدون من أجل ترهيب الناس وجعلهم يخافون من ظلّهم. بعد ذلك، قال وزير العدل والحريات، مصطفى الرميد، نفسه إن ملفات الفساد التي يكشف عنها مواطنون سيتم البحث فيها بكل الجدية اللازمة، حتى لو توصلت الجهات المعنية بهذه الملفات من جهات مجهولة. وبعد ذلك، قال رئيس الحكومة، واسمه الكامل عبد الإله بنكيران، إن الحكومة لن تتهاون أبدا في الضرب على أيدي المفسدين. صحيح أنه عاد وقال «عفا الله عما سلف»، لكن الإنسان لا يؤاخذ أبدا على الكلام الذي يقوله نائما أو في غير وعيه. المهم في كل هذا أن جميع المغاربة اقتنعوا اليوم بأن محاربة الفساد قضية جدية، وأنه لا مجال للمهادنة، وأن الفاسدين أنفسهم صاروا يدخلون جحورهم في انتظار أوقات أفضل، لكن تلك الأوقات جاءت سريعا، بل بأسرع مما يتوقعه الفاسدون، وها هو القانون الذي يحمي المواطنين المبلغين عن قضايا الفساد صار ورقا مبللا.. إنه يشبه تماما قانون منع التدخين في الأماكن العامة، هل يوجد أحد يتذكر ذلك القانون؟ وهل سبق أن عوقب شخص يدخن في أماكن عامة؟ هذه الأيام، يقف أمام المحكمة موظف إطار في وزارة المالية، والتهمة الموجهة إليه هي أنه سرب معلومات تكشف عن حجم التعويضات التي كان يتلقاها صلاح الدين مزوار، وزير المالية السابق وزعيم حزب التجمع الوطني للأحرار. هذا الموظف، إن كان قام بذلك فعلا، فإنه فَعَلَ ما تنص عليه القوانين، أي أنه كشف عن خروقات مالية خطيرة بطلها وزير المالية وبعض مساعديه، وهي أنه أخذ تعويضات خيالية من جيب الشعب، لذلك فإن الذي كان يجب أن يكون أمام المحكمة اليوم هو مزوار ومساعدوه وليس هذا الموظف في وزارة المالية. أغرب ما في هذه القضية هو أن مزوار، المتهم بتلقي التعويضات الخيالية، لم يُفتح معه أي تحقيق، رغم أن هناك شكاية مرفوعة ضده منذ وقت طويل؛ لكن التحقيق تم فتحه بأسرع من البرق مع الموظف في وزارة المالية. ماذا يعني هذا؟ هذا يعني، ببساطة، أن السياسة المتبعة في المغرب هي «إقطع الأصبع التي تشير إلى الفساد.. وسينتهي الفساد». ما يجري الآن هو فضيحة بكل المقاييس، فضيحة تدل على أن محاربة الفساد هي مجرد بهرجة واستعراض ملون، وأن رئيس الحكومة ومن معه مجرد كومبارس في مسرحية رديئة، المخدوع الأكبر فيها هو الشعب، وأن كل الحراك الشعبي الذي عرفه الشارع المغربي يساوي صفرا على الشمال، لأن التعديلات الدستورية ومعها الانتخابات السابقة لأوانها تحولت إلى مجرد حركات التفافية هدفها تنويم الناس مؤقتا، ثم الاستمرار في الملحمة الوطنية الأبدية... ملحمة الفساد. يعرف المغاربة، منذ زمن طويل، أن الفساد في المغرب تحول إلى ديناصور، وأن محاربته تقتضي وجود رجال أبطال وليس مجرد فقاقيع سياسية تثرثر أمام البرلمان، لذلك فإن الناس لا يتوقعون أن يتم القضاء على الفساد في نصف يوم بالضربة القاضية، بل يتمنّوْن فقط أن يتم الانتصار عليه في عدة جولات وبالنقاط. لكن ما يجري اليوم يدل على أن الفساد هو الذي سينتصر على الشعب، وبالضربة القاضية.. ومنذ الجولة الأولى. هكذا اكتشفنا، لأول مرة، أن الفساد المغربي أقوى بكثير من محمد علي كْلاي. عموما، فإن رسالة الفساد وصلت، لذلك على المغاربة أن يخبئوا أصابعهم في جيوبهم وألا يُخرجوها إلا عند الحاجة الملحة. عليهم أن يتجنبوا الإشارة إلى الفساد والوشاية بالمفسدين، لأن هذا يتسبب مباشرة في التحقيق معهم، وربما سجنهم بتهمة الوشاية الكاذبة وتسريب «أسرار»... أسرار الفساد.. حماه الله من كل سوء. هنيئا للفاسدين بقوتهم التي لم نكن ندرك حجمها، وهنيئا للمغاربة بقوانين محاربة الفساد التي لا تختلف في شيء عن قوانين محاربة التدخين. وهنيئا للعرب بربيعهم.. وهنيئا لنا بصيفنا الأصفر القائظ.