نظام الضمان الاجتماعي.. راتب الشيخوخة للمؤمن لهم اللي عندهومًهاد الشروط    تراجع حركة المسافرين بمطار الحسيمة خلال شهر مارس الماضي    منصة "واتساب" تختبر خاصية لنقل الملفات دون الحاجة إلى اتصال بالإنترنت    بعد خسارته ب 10 دون مقابل.. المنتخب الجزائري لكرة اليد يعلن انسحابه من البطولة العربية    الحكومة الإسبانية تعلن وضع اتحاد كرة القدم تحت الوصاية    اتحاد العاصمة الجزائري يحط الرحال بمطار وجدة    بايتاس: مركزية الأسرة المغربية في سياسات الحكومة حقيقة وليست شعار    الزيادة العامة بالأجور تستثني الأطباء والأساتذة ومصدر حكومي يكشف الأسباب    المغرب يعرب عن استنكاره الشديد لاقتحام باحات المسجد الأقصى    مضامين "التربية الجنسية" في تدريب مؤطري المخيمات تثير الجدل بالمغرب    المعارضة: تهديد سانشيز بالاستقالة "مسرحية"    القمة الإسلامية للطفولة بالمغرب: سننقل معاناة أطفال فلسطين إلى العالم    المغرب يستنكر اقتحام باحات المسجد الأقصى    حاول الهجرة إلى إسبانيا.. أمواج البحر تلفظ جثة جديدة    وزارة الفلاحة تتوّج أجود منتجي زيوت الزيتون البكر    اتساع التظاهرات المؤيدة للفلسطينيين إلى جامعات أمريكية جديدة    الاستعمالات المشروعة للقنب الهندي : إصدار 2905 تراخيص إلى غاية 23 أبريل الجاري    عدد زبناء مجموعة (اتصالات المغرب) تجاوز 77 مليون زبون عند متم مارس 2024    تشافي لن يرحل عن برشلونة قبل نهاية 2025    3 مقترحات أمام المغرب بخصوص موعد كأس إفريقيا 2025    ألباريس يبرز تميز علاقات اسبانيا مع المغرب    الحكومة تراجع نسب احتساب رواتب الشيخوخة للمتقاعدين    الجماعات الترابية تحقق 7,9 مليار درهم من الضرائب    عودة أمطار الخير إلى سماء المملكة ابتداء من يوم غد    "مروكية حارة " بالقاعات السينمائية المغربية    في اليوم العالمي للملاريا، خبراء يحذرون من زيادة انتشار المرض بسبب التغير المناخي    خبراء ومختصون يكشفون تفاصيل استراتيجية مواجهة المغرب للحصبة ولمنع ظهور أمراض أخرى    "فدرالية اليسار" تنتقد "الإرهاب الفكري" المصاحب لنقاش تعديل مدونة الأسرة    وكالة : "القط الأنمر" من الأصناف المهددة بالانقراض    استئنافية أكادير تصدر حكمها في قضية وفاة الشاب أمين شاريز    مدريد جاهزة لفتح المعابر الجمركية بانتظار موافقة المغرب    أبيدجان.. أخرباش تشيد بوجاهة واشتمالية قرار الأمم المتحدة بشأن الذكاء الاصطناعي    منصة "تيك توك" تعلق ميزة المكافآت في تطبيقها الجديد    وفينكم يا الاسلاميين اللي طلعتو شعارات سياسية فالشارع وحرضتو المغاربة باش تحرجو الملكية بسباب التطبيع.. هاهي حماس بدات تعترف بالهزيمة وتنازلت على مبادئها: مستعدين نحطو السلاح بشرط تقبل اسرائيل بحل الدولتين    العلاقة ستظل "استراتيجية ومستقرة" مع المغرب بغض النظر عما تقرره محكمة العدل الأوروبية بشأن اتفاقية الصيد البحري    تتويج المغربي إلياس حجري بلقب القارىء العالمي لتلاوة القرآن الكريم    المالية العمومية: النشرة الشهرية للخزينة العامة للمملكة في خمس نقاط رئيسية    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    هذا الكتاب أنقذني من الموت!    سيمو السدراتي يعلن الاعتزال    جراحون أميركيون يزرعون للمرة الثانية كلية خنزير لمريض حي    تأملات الجاحظ حول الترجمة: وليس الحائك كالبزاز    حفل تقديم وتوقيع المجموعة القصصية "لا شيء يعجبني…" للقاصة فاطمة الزهراء المرابط بالقنيطرة    مهرجان فاس للثقافة الصوفية.. الفنان الفرنساوي باسكال سافر بالجمهور فرحلة روحية    أكاديمية المملكة تعمق البحث في تاريخ حضارة اليمن والتقاطعات مع المغرب    ماركس: قلق المعرفة يغذي الآداب المقارنة .. و"الانتظارات الإيديولوجية" خطرة    بني ملال…تعزيز البنية التحتية الرياضية ومواصلة تأهيل الطرقات والأحياء بالمدينة    كأس إيطاليا لكرة القدم.. أتالانتا يبلغ النهائي بفوزه على ضيفه فيورنتينا (4-1)    المنتخب المغربي ينهزم أمام مصر – بطولة اتحاد شمال إفريقيا    الرئيس الموريتاني يترشح لولاية ثانية    قميصُ بركان    لأول مرة في التاريخ سيرى ساكنة الناظور ومليلية هذا الحدث أوضح من العالم    دراسة: تناول الأسبرين بشكل يومي يحد من خطر الإصابة بسرطان القولون    كلمة : الأغلبية والمناصب أولا !    دراسة تبيّن وجود صلة بين بعض المستحلبات وخطر الإصابة بمرض السكري    في شأن الجدل القائم حول مدونة الأسرة بالمغرب: الجزء الأول    "نسب الطفل بين أسباب التخلي وهشاشة التبني"    الإيمان القوي بعودة بودريقة! يجب على الرجاء البيضاوي ومقاطعة مرس السلطان والبرلمان أن يذهبوا إليه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هكذا حول المحجوب بن الصديق النقابة إلى ما يشبه ال«مافيا»
كان سلوكه سبب العديد من الانشقاقات التي عرفها «الاتحاد المغربي للشغل»
نشر في المساء يوم 06 - 05 - 2013

فاتح ماي 2013.. مشهد غير مألوف على منصّة الاتحاد المغربي للشغل في شارع الجيش الملكي في الدار البيضاء: عبد الكبير طبيح وكمال الديساوي، عضوا المكتب السياسي لحزب «الاتحاد الاشتراكي»،
يجلسان جنب الميلودي موخاريق وباقي أعضاء الأمانة الوطنية للنقابة التي ظلّ الاتحاديون طيلة أزيد من 35 سنة يصفونها بالبيروقراطية والبورصوية والمافيوزية... يصعد الميلودي موخاريق إلى منبر الخطابة، يَحتدّ صوته وهو يتحدّث، ككل سنة، عن أعداء الطبقة العاملة وعن الاتحاد المغربي للشغل «الذي ظل دائما ينادي بوحدة الطبة العاملة»... لكن موخاريق لم يتحدّث هذه السنة (2013) عن الانتهازيين، الذين شقوا عصا الطاعة على النقابة الأم، وساهموا في شرذمة وإضعاف الطبقة العاملة، في إشارة إلى الاتحاديين، الذين خاضوا صراعا مريرا مع المحجوب بن الصديق و«عصابته» -كما كانوا يسمونها- لينتهىّ الصّراع بتأسيسهم نقابة «الكنفدرالية الديمقراطية للشغل» في 1978.
«مافيا الاتحاد المغربي للشغل»
نحن الآن في يوم 20 دجنبر 1961. السّاعة تشير إلى الواحدة والنصف زوالا. كان ذلك بمناسبة الإضراب العامّ، الذي قررته الفدرالية الوطنية للبريد، لمّا تعرَّضَ القيادي الاتحادي البارز عمر بنجلون للاختطاف والتعذيب. بهذا الصّدد، يقول بنجلون في رسالة وجّهها إلى المحجوب بن الصديق، زعيم نقابة «الاتحاد المغربي للشغل»: «اختطفتُ من طرف عصابة خاصة تابعة للسّلطة الفيودالية، هذه الأخيرة قررت العملية عندما اقتنعت بأنّ الإضراب فعليّ. كان لابُدّ لها من مسؤول. رأس ثعبان تمارس عليه انتقامها الأخرق.. وكان لي شرف هذا الاختيار». يتهم بنجلون بشكل مباشر في رسالته من كان يصفه ب«الجناح البيروقراطي» بالوقوف وراء تنفيذ عملية اختطافه وتعذيبه، بقوله في الرّسالة نفسها: «هذه المرة، لا أستطيع للأسف، أن أتحدث (تماما) عن شرف، فباسم الطبقة العاملة تعرّضتُ في واضحة النهار، للاستفزاز من طرف مسؤولين في الاتحاد المغربي للشغل، أمام أنظار حراس الاتحاد المغربي للشغل وحياد متواطئ من طرف الشّرطة، وتعرّضت للضرب واللكم ونُقلت إلى قبو».
في الواقع كان هذا الحادث يُعبّر عن حجم الصراع الذي يخترق النقابة «المقربة» آنذاك من حزب «الاتحاد الوطني للقوات الشعبية» بين جناح يدافع عن ارتباط النقابة بالحزب وجناح بقيادة المحجوب بن الصديق يؤكد أن دور النقابة الأساسي هو الدفاع عن «خبز» الطبقة العاملة وعدم خوضها في الشأن السياسي، بأيّ شكل من الأشكال، ما غذى اتهامات كان يوجّهها رفاق عمر بنجلون والمهدي بنبركة للمحجوب بنصديق ب«الارتماء في أحضان المخزن والتخلي عن هموم الطبقة العاملة».. هذا ما يعبّر عنه صراحة القيادي الاتحادي الطيب منشد حين يقول: «منذ ذلك الوقت اعتبرنا أنّ الجهاز الرّسمي للاتحاد المغربي للشغل أصبح جزءا لا يتجزأ من جهاز الدولة، لكن يمكن أن نقول إنّ إدارة هذا الصراع كان يتم في غياب أي خطة أو رؤية حزبية واضحة».
أما عبد الهادي خيرات فيقول في تصريح ل«المساء»: «لا يجب أن نقزّم الصراع الذي كان آنذاك في أنه كان دائرا بين عمر بنجلون والمحجوب بن الصديق، بل كان ذلك فقط أحدَ تمظهرات الصّراع داخل الحزب انعكس على النقابة»، مضيفا أنّ بن الصديق رفض دعم الحزب في انتخابات 1963 بعد اللقاء الذي جمعه مع مستشار الحسن الثاني، أحمد رضا كديرة، وهو ما يشير إليه في كتاباته المرحوم محمد عابد الجابري.. ولعلّ هذا ما جعل جريدة «الوضوح»، الناطقة بلسان رضا كديرة، تنوه بموقف «حياد» الاتحاد المغربي للشغل و«رزانة قيادته».
سيذهب بنجلون بعيدا في اتهام المحجوب بن الصديق ومن معه، حين سيصفهم ب«المافيا» في كتاب له بالعنوان نفسِه، أصدره عقب تقرير للمفتشية العامة للمالية رَصدت فيه اختلالات كبيرة في مالية النقابة. وقد اتهم عمر بنجلون المحجوب بن الصديق في كتاب «المافيا» بالسعي إلى تأسيس حزب من داخل الاتحاد المغربي للشغل و«اختلاس» أموال الطبقة العاملة وتحريف العمل النقابيّ عن أهدافه.
بن الصديق يسيطر على النقابة
في سنة 1959، وقف المحجوب بن الصديق، عامل السكك الحديدية الذي أسنِدت إليه قيادة للاتحاد المغربي للشغل، يخطب وسط مئات العمال بمناسبة المؤتمر الثاني للنقابة، قائلا «إن العمل النقابي لا علاقة له بالشعوذة والديماغوجية والكذب، وليس، أبدا، وسيلة لتحقيق المطالب الشخصية». وأضاف المحجوب بن الصديق، الرّجُل الذي منح المغرب لقب «أقدم نقابيّ في التاريخ» (55 سنة على رأس النقابة) بمناسبة افتتاح المؤتمر الثاني أن «العمل النقابي هو المُرادف للنضال المعقول والصّبور وعدم البحث عن منافع، وهو كذلك الالتزام الشريف بالتحرّك من أجل خدمة مصالح الطبقة العاملة فقط».
كان هذا الخطاب أيامَ كان «الاتحاد المغربي للشغل» يضمّ كل أطياف المَشهد السياسي في المغرب، من حزب الاستقلال إلى الحزب الشيوعي، ويجلس فوق منصّته في فاتح ماي من كل سنة قادة تاريخيون من قامة المهدي بن بركة وعبد الله إبراهيم.. شيئا فشيئا، بدأ المحجوب يقترب من «حاشيته» ويبتعد عن العمال.. وبدأ كبار حاشيته يصنعون، بدورهم حواشيهم. وشيئا فشيئا، أيضا، لم يعد بن الصّديق يعبأ لانتقادات واحتجاجات «الحركة الإصلاحية» والصحافة الوطنية والدولية، التي كالت له من النعوت: «الامبراطور، الديكتاتور، الحاكم بأمره».. بل خط لنفسه مسارا انبنى على أنّ النقابة هي الزعيم والزّعيم هو النقابة، والويل والتبور لمن يقف بينهما.. مطالبا بالديمقراطية والمحاسَبة. فكيف وصل بن الصّديق إلى زعامة «الاتحاد المغربي للشغل»؟
حاز المناضل النقابي الطيب بن بوعزة خلال المؤتمر التأسيسيّ للاتحاد المغربي للشغل سنة 1954 ثقة المُؤتمِرين، الذين انتخبوه لمنصب الكاتب العامّ بدلا من مُنافِسه المحجوب بن الصديق، الذي عارض نتيجة الانتخابات واعتبرها غيرَ مقبولة، ودعمه في ذلك عبد الله إبراهيم، في حين عارضه كل من المقاوم إبراهيم الروداني وغيره، ممن طالبوا باحترام نتائج الانتخابات.. ولحسم الموقف طرِح الخلاف على رجال المقاومة، ولعب المحجوب بن الصديق وعبد الله إبراهيم دورا بارزا في استغلال ورقة الصراع بين المقاومة واللجنة التنفيدية لحزب الاستقلال، واتُّهم الطيب بن بوعزة بميله الى قيادة الحزب، التي اتخدت موقفا مُعاديا من الإبقاء على المقاومة المسلحة.. وفي فبراير 1956 عُقد اجتماع في منزل المقاوم الحسين بلعيد بناء على دعوة من محمد البصري للنظر في هذا النزاع. وحضر هذا الاجتماعَ كلٌّ من الطيب بن بوعزة، المحجوب بن الصديق، إبراهيم الروداني، محمد الصديق الإبراهيمي والتباري، وكان أغلب الحاضرين ضد المحجوب بن الصديق، الذي عاتبوه على «تسابُقه» على منصب الكاتب العامّ.. إلا أن تهديدات المحجوب بن الصديق بالانشقاق ومساندة حزب الاستقلال له أجهضت كل محاولة للتسوية بناء على نتائج الانتخابات، وحفاظا على وحدة الطبقة العمالية ونزعا لبذور الانشقاق في صفوفها تم إسناد الكتابة العامّة للمحجوب بن الصديق.
شيئا فشيئا، بدأت بعض القطاعات تأخذ لنفسها موقعا على يسار قيادة الاتحاد المغربي للشغل، فبعد نجاح الإضراب العامّ الذي نفذته «الجامعة الوطنية للبريد»، كما تشير إلى ذلك رسالة عمر بنجلون، بدأت قيادة الاتحاد المغربي للشغل في مراقبة هذه الجامعة، كما قامت قيادة «ا. م. ش.» بتطويق جامعة البريد وضرْب تيار الاتحاد الوطني للقوات الشعبية (مجموعة عمر بن جلون) ليحتدم الصّراع في شهر نونبر 1962 بين مجموعة المحجوب بن الصديق وعمر بن جلون بمناسبة التهييء لعقد المؤتمر الثالث للاتحاد المغربي للشغل. وفي يناير 1963، اتخذت قيادة الاتحاد قرارا بتجميد الجامعة الوطنية للبريد و طرْد قيادييها من الاتحاد وحلّ أجهزتها القيادية وتعيين لجنة مؤقتة لتمثيل قطاع البريد، وقد أرسل نائب الكاتب العام للاتحاد المغربي للشغل محمد عبد الرزاق برقية إلى وزير البريد لإخباره بذلك. ولمواجهة هذا الوضع انعقد اجتماع المجلس الوطني للجامعة الوطنية للبريد يوم 9 نونبر 1963، وتقرَّرَ تأسيس إطار قانوني مستقل للمشاركة في انتخابات اللجن الثنائية، وفعلا تم تأسيس الجامعة الوطنية لمُستخدَمي البريد كنقابة مستقلة عضويا عن الاتحاد المغربي للشغل.

الانشقاق الأول داخل الاتحاد المغربي للشغل
لفهم الإنشقاقات التي عرفتها أول نقابة وطنية في المغرب، لا بُدّ من الرجوع الى البيئة التي خرجت من رحِمها نقابة الاتحاد المغربي للشغل، والتي تزامنت مع قرب جلاء الاستعمار، وتحول مقاليد السيطرة إلى المؤسسة الملكية آنذاك، كما يقول الرّاحل أبرهام السرفاتي في كتابه «الصّراعات الطبقية بالمغرب».
فلم تكن طبيعة النظام الذي كان سائدا في المغرب من ثلاثة قرون، والقائم على تحالف «البرجوازية الحضرية» والإقطاعية داخل القبائل الخاضعة للسلطة المركزية، يسمح بالصراع الطبقي أو «أدلجة» العمل النقابيّ، حيث وضعت الحركة الوطنية الصّراع الاجتماعيَّ في المرتبة الثانية بالنسبة إلى الصراع الوطني.. ورغم الاهتمام بالطبقة العاملة، فإنّ إيديولوجيا الأحزاب الوطنية رفضت مفهوم صراع الطبقات، وهو ما وصفه أحمد بلافريج في 1933 بأنّ «البروليتاريا، الرأسمالية والبرجوازية، بالنسبة إلينا كلمات مُستورَدة لا معنى لها»..
هذا ما يفسّر إصرار المحجوب بن الصديق على «فصل النقابي عن السياسي»، ودعوته إلى أن يبقى الاتحاد المغربي للشغل مُستقلا عن أي حزب من الأحزاب، وإلى الحفاظ على ما يشبه الاستقلالية في العمل النقابيّ، غير أنّ حزب الاستقلال فسّر الأمر على أنه انحياز إلى الجناح اليساري الذي انشقّ عن الحزب لتأسيس «الاتحاد الوطني للقوات الشعبية» سنة 1959.
لم تكن حينها قد مرت أكثرُ من خمس سنوات على تأسيس الاتحاد المغربي للشغل، حتى انشقّ التيار اليساريّ بزعامة المهدي بنبركة عن حزب الاستقلال، وردّاً على انحياز الاتحاد المغربي للشغل للحزب الجديد، بدأت قيادة حزب الاستقلال -بزعامة محمد الدويري- ربط اتصالاتها ببعض العناصر النقابية «الغاضبة» على قيادة الاتحاد المغرب للشغل، بهدف تأسيس إطار نقابيّ بديل أعلن عنه في 20 مارس 1960 تحت اسم «الاتحاد العام للشغالين بالمغرب».. وكان لقرار الانشقاق هذا أثرٌ كبير على المحجوب بن الصديق، الذي قابله بمعارضة كبيرة، ترجمها بالدعوة إلى إضراب عامّ يوم 25 مارس 1960 ضدّ ما أسماه «النقابات الصفراء»..
الإنشقاق الثاني.. ضربة أخرى لم تنجح في الإطاحة ب«الزعيم»
رغم مساهمة المحجوب بن الصديق في تأسيس الحزب اليساري الجديد آنذاك «الاتحاد الوطني للقوات الشعبية» فإنه سرعان ما بدأت الخلافات داخل الحزب تتنامى بين التيار النقابيّ، بزعامة المحجوب بن الصديق، الذي كان يرى ضرورة تحييد نقابة الاتحاد المغربي للشغل عن النضال السياسي، وبين عناصر حزبية يقودها المهدي بن بركة وعبد الرحيم بوعبيد وعمر بنجلون، الذين كانوا يعتبرون النقابة وسيلة أساسية للضغط على النظام عن طريق الرّفع من حدة الضغط الاجتماعي للحصول على تنازُلات كبرى..
غير أنّ العلاقة بين الجناح النقابي والجناح السياسي تأزّمت بعد إلغاء إضراب 1961، الذي خلّف استياء كبيرا وسخطا واسعا، حيث أعلنت جامعة موظفي وعمّال البريد عدمَ موافقتها على إلغاء الإضراب، مما سيُعرّض عمر بن جلون للاختطاف والتعذيب على يد من أسماهم -في ما بعد- عناصر من «الجهاز البُورْصَويّ» المحسوبين على المحجوب بن الصديق.
سرعان ما سيتحول هذا الاختلاف في وجهات النظر وتعريف العمل النقابي الى صراع سياسي سيبلغ مداه، عندما ظهر الخلاف الأول حول الانتخابات التشريعية والبلدية لسنة 1963. عن ذلك يروي القيادي الاتحادي محمد اليازغي في مذكراته كيف أنّ «قيادة الاتحاد المغربي للشغل قرّرت ألا يشارك أعضاؤها في الانتخابات التشريعية لماي 1963 وألا تدعم مرشحي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية»، حتى تسهّل الأمر على جبهة الدّفاع عن المؤسسات الدستورية، التي أسسها أحمد رضا كديرة بتوجيه من الحسن الثاني، حيث «سينجح في دائرة بنمسيك في الدار البيضاء، وهي دائرة عمالية، في حين قرّرت أن تقوم بإعداد مشاركة منفردة في الانتخابات البلدية والقروية ليوليوز 1963».
مباشرة بعد ذلك سينطلق رفاق المهدي بنبركة في التهييئ للانفصال عبر تأسيس نقابات قطاعية مُستقلّة عن الاتحاد المغربي للشغل، كالنقابة الوطنية للبريد والمواصلات والنقابة الوطنية للتعليم والنقابة الوطنية للفوسفاط والنقابة الوطنية للشّاي والسكر والنقابة الوطنية للسّككيين والنقابة الوطنية للصّحة العمومية.. وبرزت على الساحة النقابية عدة تنظيمات، ورغم تناسل المُنشقّين عن النقابة الأم فإنّ «الزّعيم» بن الصديق ظلّ متمسكا بزمام وزعامة النقابة، التي باتت توصف «بنقابة الزّعيم» بعد إرسائه نظاما وُصف «بالبيروقراطي» داخل النقابة، بسبب إصراره الدائم على أنْ يبقى الاتحاد مستقلا عن أي حزب من الأحزاب.
أمْلت الظرفية التي كان يشهدها المغرب، منذ أواسط الستينيات، على العمل النقابي أن يتماهى مع الظروف السياسية للبلاد، في ظلّ احتدام الصراع بين النظام والمعارضة، والذي لعب فيه العمال دورا كبيرا، سرعان ما سيتحول الى دور مُكمّل، بعد انشقاق «الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية» عن الاتحاد الوطني سنة 1975.. وهو ما سيُتوَّج باتخذ قرار تأسيس نقابة جديدة تكون قاعدتها الأساسية هي النقابات الوطنية، التي عقدت أول ندوة من أجل التشاور وإبداء الرّأي، ختمت بتشكيل لجنة تحضيرية بقيادة عبد الرحمان شناف، إلى جانب الكتاب العامّين للنقابات الوطنية، وأصدرت نداءا يوم 16 يوليوز 1978 تشرح فيه أسباب الانفصال ودواعي التأسيس.
وكان المُستهدَف حينها هو المحجوب بن الصديق مباشرة، حيث دعت النقابة الجديدة «الكونفدرالية الديموقراطية للشغل»، الطبقة العاملة إلى «الالتفاف حول الجنة التحضيرية» من أجل قطع الطريق أمام من أسمتهم «الانتهازيين والسّماسرة والمُتخاذلين الذين فصَلوا النضال النقابي عن النضال الوطني التحرّري»، ممّا أدى -حسب رأيهم- إلى «عزل الطبقة العاملة وتهميشها في السّاحة المغربية واضمحلال الكثير من المكاسب النقابية»، لذلك وجب التفكير في تأسيس إطار جديد «موحَّد وديمقراطي مفتوح لجميع العمال، كيفما كان اتجاههم السياسي أو العقائديّ. إطار مبني على حق الأعضاء في اختيار المسؤولين وفي التقرير والتوجيه العامّ الذي سيسير عليه». وخرج المؤتمره التأسيسي، الذي عقد في مدينة الدار البيضاء يومي 25 و26 نونبر 1978، بقيادة محمد نوبير الأموي، ليقدّم النقابة الجديدة باعتبارها «مركزية عمالية جماهيرية تقدّمية ديمقراطية مستقلة»، سرعان ما ستدخل في صراع مباشر مع النقابة الأمّ «الاتحاد المغربي للشغل».
من «نقابة الزّعيم»
الى «نقابة بوسْبرديلة»..
بعد اغتيال عمر بنجلون سنة 1975، يحكي الطيب منشد، أحد أبرز مؤسّسي الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، كيف أنّ «الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية عمد الى تشكيل لجنة عمالية تضمّ خيرة مناضليه وأطره وكفاءاته آنذاك، ومن مختلف القطاعات الحزبية.. أذكر منهم محمد اليازغي، محمد الحبابي، عبد اللطيف المانوني (المستشار الملكي حاليا) أحمد بنجلون، حبيب المالكي، محمد الفاروقي ومحمد بوزوبع، محمد مشبال، نوبير الأموي، عبد الهادي خيرات، محمد جسوس، عبد الرّحمان بوبو».. وهي اللجنة التي أوضح المُتحدّث ذاته أنها كانت تشتغل بتوجيه مباشرمن عبد الرحيم، وحدت مهامّها في تأطير النقابيين الاتحاديين في مختلف القطاعات والمساعدة على تأسيس نقابات وطنية في القطاعات غير «المُنقَّبة» استعدادا لتأسيس البديل النقابي المُرتَقب.
وبينما يبدو تربّع نوبير الأموي، الذي أطلق عليه وزير داخلية الحسن الثاني، إدريس البصري، تهكما، لقب «بُوسْبرديلة»، على رأس النقابة الجديدة لحظة تأسيسها، مُجرّدَ صدفة، يكشف عبد الهادي خيرات، أحد اعضاء النواة المؤسسة، ل«المساء» أنه «لما تعفّف المرحوم البوزيدي عن تولي رئاسة النقابة، نطق خيرات موجّها كلامه للأموي: «عْلاشْ ما تكونشْ أنتَ؟».. فإن جريدة «الديمقراطية العمالية»، «المحرر» قدّمته للرّأي العام عقب انتهاء المؤتمر وانتخابه، في مقدّمة حوار معه، فوصفته ب«ذي الوجه المستدير، والشّارب الكثيف، والجسم الممتلئ، ذاك هو محمد الأموي (41 سنة) الكاتب العامّ للكونفدرالية الديمقراطية للشّغل، والذي لم يفقد أي شيء من أصوله الفلاحية.. يحدُث له أن يستشهد بماركس، رغم أنه لم يتعلم الصّراع الطبقي في الكتب»..
كما قالت عنه الجريدتان، أنه «كان رجل تعليم في بداية الاستقلال، ثم أصبح مفتشا في التعليم بعد 10 سنوات. لقد ناضل محمد الأموي أولا في صفوف المركزية النقابية (الاتحاد المغربي للشغل) والتي كانت آنذاك المنظمة الوحيدة للشغيلة المغربية. وكان من بين الأوائل الذين حاربوا سياسة «السلم الاجتماعي» التي مارستها القيادة (قيادة المنظمة). وقد ساهم بشكل فعَّال في تنشيط النقابة الوطنية للتعليم، العمود الفقري للكونفدرالية الديمقراطية للشغل»، وفق ما أورده شعيب حليفي في كتابه المذكور.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.