بعد مضي حوالي عامين ونصف العام على تولي حكومة بنكيران مقاليد تدبير الشأن العام، أي ما يعادل تقريبا نصف الولاية التشريعية للحكومة، وفي تقييم أولي لأداء الحزب الحاكم، نجده مازال مثله مثل باقي الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية مع أننا في الحقيقة كلنا مسلمون، هذه الأحزاب التي وصلت إلى السلطة في العالم العربي قفزا وركوبا على نضال الجماهير التي خرجت مطالبة بالكرامة والعدالة الاجتماعية في أعقاب ما سمي بالربيع العربي.. تظن هذه الأحزاب أن الديمقراطية هي العدد وتختزلها في نتائج صندوق الانتخابات، وهو الأمر الذي يبدو واضحا وجليا في خرجات رئيس الحكومة، فكثيرا ما يجري على لسانه ترديد: حزبي حصل على 107 مقاعد... معتقدا بذلك أنه يحق له أن يفعل ما يشاء، وهو نفس الشيء الذي كان يظنه الإخوان المسلمون في مصر حتى وقعوا في صدام مع الشعب، الذي خرج في مظاهرات عارمة رافضا حكمهم وطريقة تدبيرهم للشأن العام، في الوقت الذي حسبوا فيه أن الوصول إلى الحكم وبأغلبية عددية يعطيهم الحق في فعل كل ما يريدونه دون نقاش أو تشاور أو تشارك مع أحد، ليدخل الناس من جديد تحت وصاية العسكر بعد أن كانت قد حررتهم الثورة؛ نفس الشيء كذلك كان سائدا في تونس، إلا أن حزب النهضة كان ذكيا شيئا ما، حين التقط الإشارة مما جرى في مصر وعرف أن العاقل لا يقف أمام العاصفة وإنما ينحني أمامها حتى تنجلي، فقام بإعلان استقالة الحكومة وتم تشكيل حكومة تكنوقراط من كفاءات وطنية لتمر المرحلة الانتقالية بسلام. وفي المغرب ليس حزب العدالة والتنمية بالأكثرية العددية ولا بالقوة التنظيمية الوحيدة كما هو حال الإخوان في مصر، إلا أن القاعدة تقول إنه عندما تكون الظروف غير عادية يكون الفوز من نصيب الأكثر تنظيما، مع أن المشاركة في انتخابات 25 نونبر كانت ضعيفة ولم ترق إلى المستوى المطلوب، فحصل الحزب على المرتبة الأولى في ظرفية سياسية دقيقة تميزت بتحولات سياسية كبرى في المنطقة العربية ألقت بظلالها على المناخ السياسي المغربي، ورغم مرور هذه المدة على الانتخابات وتشكيل الحكومة، مازال أعضاء العدالة والتنمية يعيشون نشوة الفرحة بالفوز، ومازالوا ينظرون إلى من يعارضهم على أنه ضدهم وعلى أنه مشوش ومُعادٍ للإصلاح والتغيير وعلى أنه متآمر على التجربة، معتقدين في قرارة أنفسهم أنهم أنقذوا المغرب من خطر محتم وأن السلم الاجتماعي قد تحقق بفضلهم، وأنهم يمثلون الشعب المغربي كله وأنهم حاصلون على تفويض منه، وأنهم سيفعلون ما يريدونه وأن الشارع لن ينقلب عليهم. إن الحكم على الاحتجاج أو النقد أو المعارضة بكونه مجرد تشويش أو مؤامرة، والبحث عن خلق الخصوم والأعداء في كل مكان والتباكي ولعب دور الضحية، يستعمل كذريعة للسيطرة على مفاصل الدولة والانفراد بالقرار وتهميش دور المعارضة، وينم عن فكر إقصائي متسلط ومستبد يريد التحكم، ولا يخلو من حب الكرسي الذي في سبيله يستوي عند المتطلع إليه العدو والصديق؛ وفي التعديل الحكومي الأخير، كلنا شاهد كيف أصبح حزب الحمامة صديق اليوم بالنسبة إلى حزب المصباح وهو الذي كان له بالأمس عدوا وخصما، وكيف أصبح حزب الميزان عدوا وهو الذي كان بالأمس حليفا وشريكا في المرجعية، وكيف كان الشعب يظن أن المشاورات كانت حول البرنامج الذي يروم خدمته، ليفاجأ بأنها كانت حول الحقائب الوزارية وأنه (الشعب) خارج الحسابات، تلك الحقائب التي وصلت إلى 39 حقيبة، حيث صار لكل مليون مواطن مغربي وزير، ولا غرابة في الأمر.. إنه الاستثناء المغربي! لقد اصطدم زعيم المصباح بالحائط ورجع إلى الوراء وأحس بقرب النهاية فانتهج سياسة الهروب إلى الأمام، وأصبح يطلق الاتهامات في كل الاتجاهات ويرمي بفشله على الأشخاص والجهات والأحزاب والمنابر الإعلامية والقنوات التلفزية... هذا هو أسلوبه في التعامل مع الخلاف الفكري، إما معي وإما ضدي، يريد من الجميع أن يكون مطبلا ومزمرا وبوقا لإنجازاته الوهمية، فهو الوحيد النقي والصالح والطاهر، ولمَ لا فكل شيء في هذا البلد أصبح العدو والمتآمر عليه، ويقف عتبة أمام الإصلاح المزعوم الذي تقوم به حكومته والذي يدفع المواطن البسيط تكلفته، بل حتى المعطلون الذين تحسب لهم القوى السياسية العاقلة ألف حساب لم يسلموا من لسان رئيس الحكومة، الذي تكلم عنهم في إحدى خرجاته الأخيرة بكلام غير مسبوق، حيث قال: المعطلون عندهم خلل في الدماغ، لا لشيء إلا لأنهم يطالبون بحقهم المشروع في الشغل الذي تكفله جميع المواثيق الدولية، وبإيجاد حل للبطالة المستشرية في المجتمع، وهذا من مسؤوليات الحكومة التي انتخب حزبه من أجل التصدي لها، إنها حقا مفارقة عجيبة لدى رئيس الحكومة.. يرفع شعار "عفا الله عما سلف" في وجه المفسدين ويصف المعطلين بكونهم يعانون من خلل في الدماغ..! إن سياسة الصراخ واختلاق الأعداء في كل مكان تذكرنا بالمرشح الرئاسي الجزائري علي بن فليس، الذي كان ينهج نفس السياسة في الحملة الانتخابية الأخيرة، ليدغدغ بها عواطف الناس في السباق الرئاسي ضد عبد العزيز بوتفليقة، ليفهم الشعب أنهما أعداء بينما هما في الحقيقة رجلان لنظام واحد. هذا الأسلوب الغريب في تدبير الشأن العام وهذه العبارات الجارحة في مخاطبة الجماهير، تكررت في أماكن عديدة وفي خرجات كثيرة لحزب المصباح، في خطاب تبريري يعكس الفشل الذريع الذي وصلوا إليه، والذي زادت في تعميقه الهزيمة الانتخابية الأخيرة التي تلاقها الحزب وتلقتها معه الأغلبية في كل من سيدي إفني ومولاي يعقوب. كيف لهم أن ينجحوا وأكثر من نصف عملهم كلام...؟! وهم قالوا بصراحة إنهم لا يملكون برنامجا وإنهم جاؤوا فقط للمساعدة، هذا الحزب الذي انخدع فيه المغاربة وخيب آمالهم وأخلف الموعد معهم، وتنكر لشعاراته التي رفعها في الانتخابات ولم يأت بما يتطابق معها على مستوى ممارسته للعمل الحكومي، كان الشعب يظن أن حكومة الربيع العربي ستكون حكومة الإنجازات الكبرى فإذا بها تكون حكومة الإجهاز على المكتسبات، لقد صدق والله من قال: من يتكلم كثيرا يعمل قليلا. أمام هذه السياسات اللاشعبية والممنهجة والإجراءات التعسفية والانفرادية، والاستقواء على الطبقة الكادحة والفئات الفقيرة والمستضعفة، والانبطاح والتطبيع مع الفساد والتخلي عن الشعب، ازداد عزوف الجماهير عن السياسة وازداد نفورهم من العمل السياسي وتفاقم الاحتقان الاجتماعي وفشلت سياسة الاحتواء؛ لكن تبقى الأغلبية الصامتة التي لم تقل كلمتها بعد ويبقى المعطلون حملة الشهادات الذين هم نخبة المجتمع، مناضلين من أجل حقوقهم المشروعة واقفين في وجه الظلم والفساد والتسلط والاستبداد، عازمين على أن يكونوا طرفا رئيسيا وأساسيا في معادلة المستقبل. بدادا عبد الفتاح