باريس.. فتاح تتباحث مع الأمين العام لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية    اليوم العالمي لحرية الصحافة.. مطالب بالإفراج الفوري عن بوعشرين والريسوني والراضي    العجز التجاري للمغرب ينكمش 14.6% إلى 61.9 مليار درهم    الجامعة تعلن عن موعد مباريات كأس العرش    منتخب إفريقي يفرض على الجزائر خوض تصفيات مونديال 2026 بالمغرب    النشرة الأسبوعية : 13 إصابة جديدة ب "كوفيد-19"    بعد إلغاء موريتانيا الزيادة في رسومها الجمركية.. أسعار الخضر والفواكه مرشحة للارتفاع    منيب تنعي النويضي: "رغم تقلده مناصب مهمة خلال عهد اليوسفي إلا أنه ظل مناضلا حقوقيا"    سعر الذهب يواصل الانخفاض للأسبوع الثاني على التوالي    المضيق تحتضن الدورة الثالثة لترياثلون تامودا باي بمشاركة مختلف الجنسيات    الوزير آيت الطالب يعطي انطلاقة خدمات 14 مركزا للرعاية الصحية الأولية بجهة فاس مكناس (صور)    بدعم من السفارة الهولندية.. مندوبية السجون تجدد الشراكة مع جمعية "TIBU AFRICA" (صور)    بنموسى: إصلاح المنظومة التربوية الوطنية ورش استراتيجي يتطلب انخراط جميع الفاعلين    "فاو": ارتفاع أسعار الغذاء عالميا للشهر الثاني على التوالي    دراسة تربط الغضب المتكرر بزيادة خطر الإصابة بأمراض القلب    برقية تهنئة من جلالة الملك إلى رئيس جمهورية بولندا بمناسبة العيد الوطني لبلاده    مندوبية التخطيط: ارتفاع معدل البطالة إلى 13,7 بالمائة خلال الفصل الأول من 2024    بركة يعلن عن خارطة طريق للبنيات التحتية استعدادًا لكأس العالم 2030    جدول مواعيد مباريات المنتخب المغربي في أولمبياد باريس 2024    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الجمعة    حزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية الاسلامي يعلن ترشح رئيسه للانتخابات الرئاسية في موريتانيا    تركيا توقف التبادل التجاري مع إسرائيل بسبب "المأساة الإنسانية" في غزة    ملف "اليملاحي".. "جرائم الأموال" بالرباط تقضي بعدم الاختصاص وتعيده إلى ابتدائية تطوان    مراسلون بلا حدود عن 2024.. ضغوط سياسية على الاعلام والشرق الأوسط "الأخطر"        توقعات أحوال الطقس ليوم غد السبت    في الذكرى 42 لتأسيسها.. الإيسيسكو تواصل النهوض برسالتها الحضارية وتلبية تطلعات دولها الأعضاء بمجالات اختصاصها    احتجاجات أمام القنصلية الأمريكية بالدار البيضاء تضامنا مع طلاب الجامعات الداعمين لغزة    المكتب المركزي للأبحاث القضائية يعلن تفكيك خلية إرهابية من 5 عناصر    موزمبيق.. انسحاب قوات مجموعة تنمية افريقيا الجنوبية يفتح الطريق أمام حالة من عدم اليقين    اختتام الدورة الثانية لملتقى المعتمد الدولي للشعر    عدلي يشيد بتألق "ليفركوزن" في روما    الكعبي يسجل "هاتريك" ويقود أولمبياكوس للفوز أمام أستون فيلا في دوري المؤتمر الأوروبي    حركة حماس تقول إنها تدرس "بروح إيجابية" مقترح الهدنة في قطاع غزة    شمس الضحى أطاع الله الفني والإنساني في مسارها التشكيلي    إيقاعات الجاز تصدح بطنجة بحضور مشاهير العازفين من العالم    غامبيا.. بوريطة يتباحث مع نظيره الغابوني    بنك المغرب…66 في المائة من أرباب المقاولات الصناعية المغاربة يعتبرون الولوج إلى التمويل "عاديا"    أوريد: العالم لن يعود كما كان قبل "طوفان الأقصى"    تكريم حار للفنان نعمان لحلو في وزان    "تقدم إيجابي" فمفاوضات الهدنة.. محادثات غزة غتستمر وحماس راجعة للقاهرة    ريم فكري تفاجئ الجمهور بأغنية "تنتقد" عائلة زوجها "المغدور"    الدوري الأوربي: ليفركوزن يعود بالفوز من ميدان روما وتعادل مرسيليا واتالانتا    انهيار طريق سريع جنوب الصين: ارتفاع حصيلة الضحايا إلى 48 شخصا    بلاغ هام من وزارة الداخلية بخصوص الشباب المدعوين للخدمة العسكرية    هل ما يزال مكيافيلي ملهما بالنسبة للسياسيين؟    مناهل العتيبي: ما تفاصيل الحكم على الناشطة الحقوقية السعودية بالسجن 11 عاماً؟    إقليم الصويرة: تسليط الضوء على التدابير الهادفة لضمان تنمية مستدامة لسلسلة شجر الأركان    مهرجان أيت عتاب يروج للثقافة المحلية    تطوان: إحالة "أبو المهالك" عل سجن الصومال    العقائد النصرانية    الأمثال العامية بتطوان... (588)    جامعيون ومتخصصون يحتفون بشخصية أبي يعزى في ملتقى علمي بمولاي بوعزة        الطيب حمضي ل"رسالة24″: ليست هناك أي علاقة سببية بين لقاح أسترازينيكا والأعراض الجانبية    دراسة: مجموع السجائر المستهلكة "يلتزم بالثبات" في إنجلترا    أثر جانبي خطير لأدوية حرقة المعدة    الأمثال العامية بتطوان... (586)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المؤرخون المحليون.. منسيون وأرزاقهم على التاريخ
في ظاهرة المؤرخين المحليين وعلاقاتهم غير المشروطة بمدنهم
نشر في المساء يوم 28 - 01 - 2015


يحيى بن الوليد
في هذا الملف نرغب في فتح موضوع لا يظهر أنه فُتح من قبل؛ مع أنه قابل لأن يقرأ، وقابل لأن يتدبّر في أمره، اعتمادا على تصوّرات ومقاربات تفيد من «التحليل الثقافي» بمعناه المرن والعريض بالنظر إلى الانفجار الثقافي والتحوّل الهوياتي وتجدّد سؤال عمل الذاكرة... وغير ذلك من المتغيّرات، الثقافية، التي كانت في أساس الظاهرة شأن ظواهر أخرى شبيهة. والمقصود، هنا، ما يمكن نعته ب»المؤرخين المحليين» في علاقاتهم المفتوحة، وغير المشروطة، بمدنهم... على النحو الذي يجعل منها موضوعا وعشيقة في الوقت ذاته. والظاهر أن كل مدينة من مغربنا، في مفترق جغرافياته وثقافاته وتأثيراته، تُعرف بمؤرخها المحلي أو بأكثر من واحد من هؤلاء، على النحو الذي يجعل من هؤلاء «علامات وقرائن» على مدنهم، بالرغم من النظرة المائلة أو الهابطة تجاه هؤلاء ب«حجة» ميلهم إلى التأريخ بدلا من التاريخ، وبحجة عدم اكتراثهم ب«النصوص الكبرى»، إضافة إلى خلطهم بين التاريخ باعتباره ذاكرة، والتاريخ باعتباره علما، وعدم تمييزهم بين الحدث والمعرفة في التعاطي للحظات والفترات التاريخية. والأكيد أنه لا ينبغي أن نسوّي بين هؤلاء بالنظر إلى الفروق التي تمايز بينهم، لا سيما من ناحية العدة المنهجية وطبيعة الأفكار والوثائق في حال «استعمالها»، إضافة إلى حجم «المسافة» مع المدينة أو الأحداث التي يتم التعاطي لها.
وإجمالا، يميل أغلب هؤلاء إلى التحرّر من «الصنمية المنهجية» والعكازات النظرية والمفاهيم القاعدية وتفكيك البنيات ومراعاة السياقات... مقابل الأخذ بأسلوب الكتابة المفتوحة، والسخية، بدون توقف وفي جميع الاتجاهات، إلى الحد الذي يصل ما بين العيطة واليهود والمساجد والأعلام والاستعمار والخونة... وغير ذلك من المواضيع المتباعدة تبعا لتباعد الأقاليم الثقافية. ويبقى السؤال الأساس: هل الكتابة التاريخية وقف على المؤرخين المحترفين فقط؟ وكيف يمكن التعامل مع المؤرخين المحليين؟ وهل من أبعاد لنوع من «المعرفة المحلية» في كتابات هؤلاء، بالرغم من محدوديتها، مقارنة ب»المعرفة الاحترافية»؟ وأليس هؤلاء، بدورهم، «جديرين بأن يؤرخ لهم»، وبأن يحظوا بهامش ضمن الأبحاث ذات الصلة ب»حصيلة البحث التاريخي بالمغرب» على النحو الذي يكشف عن جوانب من آليات اشتغال المؤرخ المحلي وطرائق تفكيره ونهج الكتابة لديه والصعاب التي تصادفه؟ هذا ما يطمع هذا الملف في «إثارته».
محمد العربي العسري.. مؤرخ مدينة القصر الكبير
عبد السلام الجباري
في ستينيات القرن المنصرم كانت مدينة القصر الكبير تحبل بالعديد من المشاريع كباقي المدن الشمالية الأخرى: تطوان، العرائش، شفشاون، أصيلة، وطنجة. وتعد مدينة القصر الكبير من المدن التاريخية العريقة. إذ يكفي أن تقول إنها «مدينة معركة وادي المخازن». ولا أدري لماذا نتحدث عن معركة وادي المخازن ولا نتحدث عن مدينة القصر الكبير وكأن المعركة كانت في الفراغ. إنه السؤال الذي كنت أطرحه باستمرار.
ومن الجمعيات التي ساهمت في خلق أسئلة حداثية في تلك المرحلة «جمعية أصدقاء ابن حزم»، ولاحقا «جمعية مواقف»، إلى أن ظهرت جمعيات أخرى كان لها الفضل الكبير في إظهار الوجه الثقافي لهذه المدينة، التي سكنها التهميش وأصبحت من المدن الغارقة في الظلام وفي اليومي المبتذل.
وإذا عدنا إلى «لحظات التأسيس» نجد أن الباحث محمد العربي العسري من المساهمين في تلك المعركة، التي هي «معركة الثقافة» ومعركة إظهار الوجه المشرق لهذه المدينة. ومن خلال سيرته يتبين أن محمد العربي العسري كان يحمل مشروعا ثقافيا إلى جانب حضوره الإشعاعي باعتباره أستاذا للغة العربية والأدب العربي إلى جانب مساهمته البيداغوجية التي أثمرت خلق وإنضاج وعي بديل بثانوية المحمدي في القصر الكبير.
وتتوفر مدينة القصر الكبير على «أقلام وأعلام»، وهو ما دفعه إلى إبرازها والكتابة عنها، من خلال الاعتكاف المستمر في مكتبته الفريدة بالمدينة التي تحّولت إلى صالون ثقافي بامتياز. وقد ركّز على ثلاثة أعلام: عبد القادر الساحلي، عبد السلام الطريبق، محمد بوخلفة. وهؤلاء كلهم رحلوا إلى دار البقاء.
ومن خلال هؤلاء الأعلام الثلاثة ينبغي التأكيد على أن المدينة عرفت «تنوعا ثقافيا» من خلال هذه النماذج: عبد القادر الساحلي «شكيب أرسلان القصر الكبير»، وعبد السلام الطريبق الرجل الذي اهتم بكتاب «طوق الحمامة» لابن حزم، واعتبره المؤسِّس الحقيقي لمفاهيم الحب والعشق والهيام والوجد... إلخ. ويؤكد الباحث محمد العربي العسري أن المؤرخ محمد بوخلفة أوّل القصريين الذين اهتموا بالفلسفة في وقت لم يكن فيه مألوفا الحديث عن أرسطو وكتابه «الكون والفساد»، وعن سبينوزا وكتابه «إشكالية وحدة الوجود»، وديكارت وكتابه «منهج الشك».
ويعد كتاب «الطريق لمعرفة القصر الكبير» من الكتب الرائدة في مجال التاريخ المحلي أو تاريخ المدن. ويؤكد المؤرخ بوخلفة أن ضريح ما يسمى ب»سبعة رجال» لا يوجد إلا في مدينة القصر الكبير دون غيرها من المدن الأخرى، وأن هوية هؤلاء الرجال مجهولة، «فلربما كانوا من مجاهدي معركة وادي المخازن، وأن قبور هؤلاء تحيلنا على فكرة الجندي المجهول عند الغرب». ومما يسجل لهذا الرجل أنه حافظ على أصالة المدينة وعلى وثائقها حين كان مسؤولا عن مجلسها البلدي.
وبخصوص الجزء الثاني من «أقلام وأعلام من القصر الكبير»، فهو في حقيقة الأمر مجهود كبير وذاكرة تاريخية وثقافية بامتياز، إذ ليس من السهل جمع مادة الكتاب التي وصلت إلى تسع وستين شخصية. وما تميز به الجزء الثاني هو الالتفاتة إلى فقهاء كبار ساهموا فقهيا ودينيا وأخلاقيا في نهضة المدينة، نذكر منهم الفقيه علال الزهروني وعبد السلام الخضر الجباري والعياشي بنمحمد العسري والمفضل الجباري ومحمد الدغاي وعبد الله الجباري وأحمد الدغاي. وهؤلاء فقهاء بمعنى الكلمة للفقيه، لأنهم حافظوا بكل إخلاص على الدرس الفقهي المالكي كما تعلموه في مؤسسات علمية مثل جامع القرويين.
يستدعي المقام بأن نؤكد بأن القصر الكبير ذاكرة لا تقف حدودها عند ما هو تاريخي زمني، بل تتجاوز ذلك إلى ما هو إبداعي وثقافي وسياسي ونضالي. وهكذا، يكون الصديق الأستاذ القدير محمد العربي العسري من خلال كتابيه الرائدين قد قدّم خدمة جليلة إلى مدينة القصر الكبير وإلى التاريخ الثقافي المغربي.
وفي اعتقادي أن الباحث لن يتوقف عند حدود هذين العملين، بل سيغني الذاكرة، ذاكرة الشمال وذاكرة القصر الكبير بالمزيد.
إبراهيم كريدية.. مؤرخ آسفي
عبد الرحمان شكيب
آسفي قلب عبدة النابض، حاضرة المحيط، كما وسمها الرحالة ابن خلدون، تشكل مجالا خصبا للبحث والتنقيب في تاريخ محلي حافل بأحداث كثيرة بَصَمت مرحلة طويلة، ترتبت عنها تبدلات وتغيرات متنوعة في بنية المجتمع الآسفي. تاريخ شهد محطات عميقة، أسهمت في الكثير من القضايا التي ما كان لها أن تتحقق لولا رجالات صنعوا المجد لشعورهم المائز بالانتماء إلى هذه المنطقة، وراكموا تجارب في غاية الأهمية. وقد آن الأوان لتصبح منطلقا أساسيا للمضي قدما نحو المستقبل، في أفق ربط التاريخ المحلي بتاريخ المغرب العام. وهي المادة التي شكلت للباحث والمؤرخ إبراهيم كريدية مدخلا للاشتغال عليها من خلال فتح نوافذ كثيرة على المجال التاريخي الآسفي والظروف التي أحاطت به عبر العصور.. وعوامل تشكل الوعي به.
وإذا كان لا بد من التعرف على مسارات مؤرخين، ممن لهم خبرة عميقة ومكينة بخبايا مكونات التاريخ المحلي في شموليته والكثير من أبعاده، فإن إبراهيم كريدية يقدم اليوم كنموذج بطعم خاص، يمكن الكشف عن شخصيته الفريدة الماتعة والجذابة من خلال مساره الحياتي، الذي بدأه بتجربة اليتم الذي عاشه في يفاعته، ورغم ذلك استطاع أن يدخل معترك الحياة لإعالة والدته وإخوته دون التفريط في الدراسة، التي شكلت آنذاك حلمه، الذي اعتبره جسرا موصلا إلى بر الأمان والاستقرار، فزاوج في تعليمه بين «المسيد» لحفظ القرآن ومدرسة التعليم النظامي، ليحصل على شهادة البكالوريا ثم بعدها الإجازة، ويلج المدرسة العليا للأساتذة، ويعين بعد تخرجه أستاذا للتاريخ والجغرافيا في مدن كثيرة، آخرها مسقط رأسه آسفي، التي عشقها حتى الثمالة. وبموازاة التدريس انهمك في تفاصيل دقيقة تخص البحث التربوي والتاريخي كما انخرط في فعاليات العمل الجمعوي.
يمتلك إبراهيم كريدية أدوات وآليات الغوص في خفايا تاريخ بلدته، هذا «الإقليم الثقافي» بامتياز على حد وصف يحيى بن الوليد ليقف على كل ما يسعف بضبط وإجلاء تاريخ منطقة «عبدة»، غير آبه بما يعيق تجربته في استقراء الوثائق وكشف مكنوناتها والإنصات بشغف إلى الشهادات الحية لذاكرات من الرجال والنساء، وهي مصادر يصعب الجود بها على أي كان، لولا كاريزمية الرجل وتقدير الناس لشخصه، خاصة أنه ينتصر لآسفي في عشق صوفي، يتجلى في منهجية علمية واضحة، وفي لغة جذابة تستمد عمقها من أصالته، لغة معجونة باليومي والاجتماعي.
وبالرجوع إلى بعض المحطات الأساسية في حياة كريدية، نجده يدخل بكليته عالم التأليف، مغامرا في مجال صعب ودقيق، وفي مجتمع منغلق كآسفي، ببنية تفكير محافظة وحذرة، وينجح بصبره ومثابرته في الحصول على المعلومة التاريخية المطلوبة، مما أسعفه في تسليط الضوء الساطع على جوانب متعددة ومهمة وشاملة من تاريخ هذا الإقليم، عزّ أن تجد لها نظيرا في باقي المغرب، بحيث همت العلم والصلاح والجهاد والوطنية والمقاومة زمن الحماية والقضاء والدبلوماسية والإدارة المخزنية والأعمال والموسيقى الأندلسية والعيطة الشعبية والخزف والآثار التاريخية ودروب المدينة العتيقة، من خلال إنجاز ونشر تراجم ودراسات صدرت في كتب وأطالس وسلسلات تاريخية وأفلام وثائقية، قاربت في عددها التسعين دراسة، قدم لها عدد من أهرامات البحث ببلادنا، نذكر من هؤلاء الباحثين الكبار: عبد الهادي التازي وعبد اللطيف الشاذلي ومصطفى محسن ومحمد بنشريفة وإدموند عمران المالح وحسن نجمي. وبهذه البحوث الغزيرة والمستمرة حتى الآن، أغنى إبراهيم كريدية الخزانة المغربية، في بعديها المحلي والوطني، ووفر مراجع للباحثين والطلبة. ويرى الباحثون في اشتغاله واهتماماته بهذا الإقليم ما يجعله ينتصر لهوية مسفيوية عالمة تحددت ملامحها بانتمائه إلى آسفي، ومكنته من امتلاك مسلكية بجهاز مفاهيمي خاص، يصل من خلالها إلى المعلومة بدقة ليقدمها للقارئ ضمن قالب أدبي سردي مشوق يفتح أفقا جماليا يشد انتباه القارئ.
ميغالوبول المغرب.. والتاريخ، المصغَّر، المفتقد
يحيى بن الوليد
كنّا، في هذا الملف («المؤرخون المحليون في علاقاتهم غير المشروطة مع مدنهم»)، والذي هو من إعدادنا، حريصين، بأكثر من معنى، ولغاية «التمثيلية المحمودة»، على أن تكون «ميغالوبول المغرب» (Mégalopole) حاضرة بين المدن المغربية المعروفة بمؤرخيها المحليين. ولعل هذا الإحساس ما قادنا إلى توجيه السؤال إلى أربعة باحثين جامعيين، من غير المنتمين للبحث التاريخي بالضرورة، بحثا عن المؤرخ المحلي الذي يليق بالدار البيضاء مثلما تليق به هذه الأخيرة في إطار مقولة: «إن من يدرس التاريخ يضيف أعماراً إلى عمره» كما في القول العربي المأثور. غير أن أحدا من هؤلاء الباحثين، الأجلاء، تمكّن من الكتابة في الموضوع ولا حتى إبداء قدر من «التحمُّس المعرفي» له، ابتداءً. وحصل ذلك ليس لعجز على مستوى الدافعية للكتابة، وإنما لضبابية الموضوع وعدم وضوحه؛ كما يظهر لنا.
وتلك هي حال الدار البيضاء، تعيينا، التي لا تسعف على هذا النوع من الكتابة، كما يتوجّب التنصيص على ذلك. وقد تشكّل لديّنا هذا الإحساس من أوّل وهلة بالنظر إلى البيبليوغرافيا المتينة، والمفيدة، التي أعدتها الباحثة سميرة رفاعي حول الدار البيضاء. وقد أعفتنا هذه البيبليوغرافيا، الموسومة ب»الدار البيضاء في ألف عنوان وعنوان» (2014)، على النحو الذي يستحضر لغات العالم التي كتب بها عن الدار البيضاء مع هيمنة الفرنسية طبعا، من تحريك أدوات البحث أو التردّد على مكتبة مؤسسة الملك عبد العزيز بالدار البيضاء نفسها حيث توجد تقريبا أهم الكتب والمونوغرافيات والدراسات حول الدار البيضاء.
وللمناسبة، لا تزال، حتى الآن، أهم الكتب حول الدار البيضاء، في المدار ذاته الذي يستحضر «الجدّة المعرفية»، من نصيب لغة موليير وليس من نصيب اللغة العربية، بما في ذلك العربية المكسَّرة والهجينة. كتب كثيرة، ومن مناظير مختلفة، وفي الأغلب الأعم حول معمار الدار البيضاء الكولونيالي وحول أحيائها ومقاهيها ومطاعمها... وصولا إلى صالونات الحلاقة فيها؛ وكأن الدار البيضاء أعدّت للنخبة، المفرنسة، بمفردها لولا أسماء تخصّصت وكتبت عن الدار البيضاء في مجالات مختلفة مثل المجال والنقل والمرأة... وسائر مواضيع أو ألغام «الزفت الاجتماعي».
كان سؤالنا، الوجيه، على النحو التالي: هل من مؤرخ محلي غير مكرّس وغير متداول وصاحب كتب كثيرة حول الدار البيضاء أو حتى عن جهة من جهاتها أو حي من أحيائها؟ الأكيد أنه ليس بإمكان أحد ادعاء معرفة جميع ما كتب عن مدينة في حجم الدار البيضاء. غير أن ما سلف لا يحول دون التأكيد، من ناحية مقابلة، على أننا لا نظفر، هنا، بمؤرخ شبيه على سبيل المثال الجامع بإبراهيم كريدية صاحب ما يزيد عن 80 عملا حول آسفي (والمجال العبدي بصفة عامة) أو محمد العسري صاحب أكثر من كتاب حول القصر الكبير شأنه في ذلك شأن مجايله وابن المدينة نفسها محمد أخريف الذي حاورناه في مناسبة سابقة، وغير بعيد عن هؤلاء المفتوحي بوقرب الذي كتب حول الحسيمة أو ابن غازي المكناسي الذي كتب عن مكناس... وغير هؤلاء من المؤرخين المحليين الموزعين على مدن المغرب ممن لم يشملهم الملف مثل محمد العلوي الباهي مؤرخ تازة، وعبد الرحيم الجباري مؤرخ أصيلا، وقدور الورطاسي المرتبط بالمغرب الشرقي.
ويمكن أن نبرّر عدم اكتمال صورة المؤرخ المحلي، في حال الدار البيضاء، بتشعب هذه الأخيرة وترامي أطرافها، على النحو الذي يجعل من مركزها لا يمثل إلا 5 بالمائة؛ مما لا يسمح بنوع من الإقامة الممتدة ولا حتى المتنقلة فيها. الدار البيضاء مثل سائر المدن الكبيرة، والعملاقة، و»الخيطية» كما نعتها المعماري ميشال إيكوشار، والتي لا تسمح للمرء إلا بأن يتكوَّر مثل قنفذ (غير ماكر، طبعا). فالدار البيضاء، استطرادا، جهات وليست جهة واحدة، وهي مجالات وليست مجالا واحدا. وكما أنها مجال للهجرة المتواصلة، إضافة إلى أن كل من يدخلها بإمكانه التأقلم داخلها في ظرف 48 ساعة كما قال أندري آدم دارس «ميلاد البروليتاريا» بها منذ زمان. وبإمكان هذا الذي يدخلها النجاح فيها دون أن يكون متحدرا من أسرة معروفة أو من أسرة تتحدر من الأعيان. النجاح فيها لا يرتبط، بالضرورة، بالتخرّج من كليات الهندسة أو معاهد التسيير... وإنما يرتبط بالذكاء اليومي أيضا. لا مجال فيها ل»الثبات» وللعلاقات المكرورة والنمطية والعناوين العريضة... وغير ذلك من الأشكال التي تغري المؤرخ المحلي بالغطس في التاريخ المصغَّر.
في حال المدن الصغرى، أو المدن التي يمكن التحكم في مجالها، يختلف الأمر كثيرا. عكس الدار البيضاء التي تعقّد من حال الارتباط بها، وقبل ذلك تشتّت من حال الزاوية التي يمكن الاستناد إليها في التعاطي لها. ومن هنا أهمية الرواية التي تجيد لعبة الزوايا هاته، والمقصود زوايا النظر وتبئير السرد، على النحو الذي يجعل من الحديث عن «دار بيضاء محمد زفزاف» و»دار بيضاء محمد صوف» أو نور الدين محقق أو الزهرة رميج أو فتيحة مرشيد... حديثا مبررا نقديا وثقافيا في الوقت نفسه. الدار البيضاء تذيب سطح الثقافة، والصور الإجمالية، وعلى ما يخفيه هذا السطح، من تواريخ صغرى وحكايات موجزة وعلامات مقصودة وأيقونات بارقة ومعالم ووجوه... وغير ذلك من المجالات التي تضمن للمؤرخ المحلي مجالا للانغراس والتحرّك بسلاسة وثقة زائدة. هي تربك الآلة الأكاديمية قبل عدسة الكتابة المفتوحة.
إلا أن ما سلف لا يفيد، سواء على سبيل التضمن أو اللزوم، أي نوع من التنكّر لدراسات أكاديمية بعضها في غاية من الإحكام المنهجي والتصوّري. ويكفي أن أشير، هنا، إلى المونوغرافيا التاريخية التي أنجزها الباحث نجيب تقي حول «ذاكرة كاريان سرطان» في طبعتها الثانية الموسّعة والمزيدة؛ وهي آخر ما أستمتع بقراءته. وكذلك، توجّبت الإشارة إلى الذاكرة الشفوية، والحية، للدار البيضاء على نحو ما يمثلها البعض كما في حال سعيد بشري، الذي هو الآن في التسعين من عمره وأمدّ الله له فيه. لقد أكّد لنا البعض على أهمية الالتفات لهذا الاسم وتدوين ما يحكيه عن ميغالوبول المغرب. وهو أمر ملقى على عاتق جمعية «كازا ميموار» وعلى الأكاديميين أيضا.
يقول ناصر السوسي في معرض حديثه: «إن عمل إبراهيم كريدية يحركه أيضا طموح علمي، مؤداه فتح جبهات لاستقصاء معالم تاريخية بآسفي وعبدة، بقصد تحويلها من آثار إلى وثائق، بتعبير الفيلسوف ميشال فوكو. أما المؤرخ كريدية فيقول: تأكد لي من خلال الممارسة والاحتكاك... أن شبابنا يجهل كثيرا تاريخ وطنه، حديثه وقديمه، فهو لا يعرف سوى نتف مهترئة، أقل ما يقال فيها إنها أضاليل يستقيها من أبواق مختلفة».
ابن غازي المكناسي.. رجل له أسماء
سعيد الشقروني
من صميم واجبات المثقف المؤمن بقيمة العلم وأهله تجاه المجتمع أن يسلط الضوء على إنجازات أبنائه، ليس فقط عرفاناً بفضلهم على الناس وإنما تشجيعاً لغيرهم على الاقتداء بمسيرتهم ومناقبهم.
مسلسل الحياة الأدبية بمكناس، غني وزاهر، وتأمل أوراق الزيتون فيها لا يخلو من ذكر أسماء لامعة في الأدب والفقه والحساب والشعر وغيره. بهذا المعنى، شاءت الأقدار أن تُنْجِب مكناسة الزيتون علما من أعلام المغرب: محمد بن أحمد بن محمد بن محمد بن علي بن غازي(ولد في841 ه - توفي في 910 ه) المكناسي ثم الفاسي، الذي تفنن في عدد من ضروب العلم والمعرفة، كالقراءات، والتفسير، والحديث، الرياضيات عند المسلمين في العصور الوسطى»والحساب، والنحو، واللغة، والتاريخ، مع شهرة وباع طويل في التعليم والتأليف والفقه والفتوى، وعشق لتراب الوطن بلغ مداه انضمام عالمنا إلى صفوف المجاهدين لحماية الثغور المغربية من الغزاة الأوروبيين، وقد استمر في عشقه الوطني هذا حتى آخر حياته عندما قرر الانخراط في جيش السلطان الشيخ المهدي، الذي كان يريد استرجاع مدينة أصيلا من أيدي البرتغاليين.
يعتبر ابن غازي معلم عدد من طلبة العلم، الذين حجوا إلى مجالسه في مكناس أو في القرويين بفاس، ليَقُودَ بذلك نهضة علمية، سطع نورها على بَلْدات مغربية عديدة مِنْ بعده، فتفرد برئاسة الهيئة العلمية في عصره، ولم ينازعه أحد في ذلك.
وتُجْمِع كتب التاريخ الفكري للمغرب على قيمة محمد بن غازي العلمية في عصره، ودوره الكبير في نشر العلم والمعرفة بين طلبة قَدِمُوا من كل أرجاء المغرب، ولعل هذا ما تشهد به مُصَنَفاته العديدة ك»شفاء الغليل في حل مقفل خليل»، و»تكميل التقييد وتحليل التعقيد»، و»حاشية لطيفة على الألفية» و»مُنية الحساب» التي اشتملت على ما جاء في «تلخيص أعمال الحساب» لابن البنّا المراكشي، وشرحها ابن غازي في وقت لاحق في كتاب سماه «بُغية الطُّلاب في شرح مُنية الحُسّاب». وتكمن أهمية الكتاب في استخدام ابن غازي بعض الرموز الجبرية، التي كانت سائدة في القرن التاسع الهجري، مما جعلها خطوة متميزة في تطوير علم الرياضيات؛ حُقق هذا الكتاب ونُشر في معهد التراث العلمي العربي بجامعة حلب سنة 1403ه/ 1983م؛ ناهيك عن «تقييد على صحيح البخاري»، و»الروض الهتون في أخبار مكناسة الزيتون»، و»إنشاد الشريد في ضوال القصيد»، و»التعلل برسوم الإسناد بعد انتقال أهل المنزل والناد»، هذا المؤلف الذي يُعد من أهم فهارس المتأخرين، كَوْنُه كان آخر صدى للتجاوب العلمي بين العُدوتين المغرب والأندلس؛ وقد وضعه ابن غازي استجابة لطلب ورد عليه من أحمد بن علي البلوي الوادياشي، بعد خروج هذا الأخير مع أبيه وأخويه من غرناطة قبيل سقوطها، قاصدين الحج وملاقاة شيوخ الإسلام في الأقطار التي يمرون بها. ومن تلمسان كتب أحمد الوادياشي إلى ابن غازي يَسْتَجِيزُه، فَشَق عليه وهو في طريقه الساحلي القاصد إلى الشرق أن يعرج على فاس لملاقاة الشيخ.
كل مؤلفات علامتنا تكشف بعض الجوانب من شخصيته الفكرية والأدبية، حيث يتجلى الصدق في القول، والهمة في الأخلاق، والوضوح في التعبير، والشفافية في إبراز المعاني، والحرص على التلقين السليم، مع الاعتماد على المصادر فيما يتعلق بالمنقولات، وعلى السند فيما يتعلق بالمسموعات، وعلى الإشارة إلى مَالَهُ بالمشاهدة، وغيرها من سمات التحري والنزاهة.
أما عن شيوخ ابن غازي فقد ذكر في «التعلل برسوم الإسناد» ثمانية عشر شيخا، لكنه اتصل بشيوخ آخرين لم يضمنهم فهرسته أخذ عنهم الفقه والعربية والآداب والحساب والفرائض والعروض والمنطق والتصوف وبعض الطلب.
وكان ابنه أبو العباس أحمد من أشهر تلاميذه (ت 943 ه)، بالإضافة إلى صفوة من العلماء أمثال محمد شقرون بن أحمد بن بوجمعة المغراوي (ت 929 ه)، والحسن بن عثمان الثملي (ت 932 ه)، ومخلوف بن صالح المخلوفي البلبالي (ت حوالي 950 ه)، وعلي بن موسى بن هارون المطغري (ت951 ه) الذي لازمه كثيرا، وعبد الواحد بن أحمد الونشريسي (ت 955 ه)، وقد أجازه بإجازة شهيرة، والعالم عبد الرحمن بن علي سُقّين (ت 956 ه)، وأحمد بن عبد الرحمن المسجددي التزركيني (ت 958 ه)، وأحمد بن عبد الله المدني البتوعي (ت حوالي 960 ه)، ومحمد بن محمد بن العباس التلمساني، والعالم محمد بن أحمد بن مجبر المساري، وإبراهيم بن عبد الجبار الفجيجي (ت حوالي 945 ه)..
لقد شكلت فهرسة ابن غازي معينا جادا ومفيدا للمؤرخين الذين جَايَلُوه والذين جاؤوا بعده، حيث اغترفوا منها الكثير من المعلومات والتراجم والإضافات العلمية والمعرفية والثقافية، إذ تكفي نظرة عالمة إلى ما خلفه القرافي في توشيحه، وما خطه أحمد بابا التنبوكتي في «نيل الابتهاج»، والوزير السراج في حلله، والمقري في «نفح الطيب في غصن الأندلس الرطيب» لتتأكد قيمة فقيهنا عند العلماء.
توفي ابن غازي يوم الأربعاء 9 جمادى الأولى 910 ه، وحضر جنازته العلماء والسلطان والأعيان، وقبره مزارة مشهورة بعدوة الأندلس بفاس.
إن القصد في هذا المقام هو الاعتراف والاحتفاء والتكريم، ليس بشهادات تقدير أو دروع أو نياشين، لكن بما نكتبه عنهم على الورق، على صفحات التاريخ المشرق بخفق الامتنان والاعتزاز. المقام مقام عرفان بلغة الوجد، بلغة التذكر، كي تعرف أجيال اليوم ابن غازي العالم الفاضل، الذي أحب العلم والبلاد بشكل منقطع النظير، وهذه شيمة من صَدَقَ النية وأخلص العمل والعلم، لأنه يعرف أن العلماء ورثة الأنبياء، والمؤتمنون على دعوة السماء بعد الرسل الكرام وأهل الخشية.
المفتوحي بوقرب مؤرّخاً لمنطقة الحسيمة
فريد أمعضشو
إن التاريخ مقوِّم أساسٌ لوجود أي أمة (أو شعب) واستمرارها. فهو الذي يمدّها بنُسْغ الحياة، ويغذي شرايينها، ويوفّر لها قاعدة راسخة تبني عليها حاضرها ومستقبلها. ولذا توصَف الأمة التي لا ذاكرةَ ولا تاريخ لها بالضياع واليُتْم! وعادة ما يعْمِد المتغلِّبون العازمون على إضعاف أمة (أو شعب) إلى التشكيك في ماضيها، وزعزعة ثقتها في ثوابته وأسسه الحضارية والثقافية والدينية وغيرها، حتى إذا ما استطاعوا تحقيق مرادهم، سارع المغلوبون إلى تبني ثقافة وتاريخ آخَرَيْن (المؤرخ البريطاني هوبل)؛ ممّا يقود إلى حصول شرْخ في علاقتهم بتراثهم، وإلى الابتعاد عن أصالتهم وهويتهم الحقة.
ورغم أهمية هذه الذاكرة التاريخية، فإن الدارسين يسجّلون عدم تكافؤ الأمم والشعوب في الاهتمام بهذه الذاكرة، سواء من قبل مؤرّخِيها أو من قبل غيرهم؛ ذلك بأنّ أمَماً وكِياناتٍ حضاريةً قد لاقى تراثها عناية بَحْثية، وإنْ كان عمر تراث بعضها قصيراً مقارنة بأخرى تضرب بجذورها في أعماق الماضي، ومع ذلك لم تنلْ ذاكرتها ما تستحقّ من اهتمام؛ لعدة أسباب، يَرين عليها الاعتبار الإيديولوجي والسياسي.
وفي السياق العربي الإسلامي، نقف على مكوّنات لم تَحْظَ ذاكراتها التاريخية، ولاسيما القديمة، بما يكفي من العناية من لدن أبنائها وغير أبنائها، انطلاقاً ممّا بلغنا – على الأقلّ – من دلائل شاهدة على هذه العناية. فإذا أخذنا – على سبيل التمثيل – منطقة الريف بالمغرب، نعثر على نزر يسير من الكتابات عنها منذ القدم، لاسيما من مؤرِّخِي شعوب أخرى كانت لها علاقات بأرض تمازغا عموماً؛ مثل اللاّتين والأغارقة والرومان والفينيقيين وقدماء المصريين، وبعدهم العرب الذين توجّهوا شطر الغرب فاتحين منذ القرن الهجري الأول. وإذا كانت الكتابات التي بلغتنا من هؤلاء من القلة بمكان، علاوة على أنه قد يصعب الاطمئنان إليها أحياناً كثيرة؛ لصُدورها عن أجانب دوّنوا ما دَوَّنوه استناداً إلى نظرتهم السطحية الخارجية التي يعْوزها الاحتكاك بساكنة المنطقة المكتوب عنها، وفقه حياتها في شتى جوانبها، كما أنها جانَبَت الموضوعية والصدق التاريخي لدى نقل كثير من الأحداث والوقائع... فإنّ القرن 19 شهد طفرة كَمّية ونوعية على مستوى الكتابة الأجنبية عن الريف، يستوي في ذلك الريف بأقسامه الثلاثة الكبرى، وهي: الريف الغربي، والريف الشرقي، والريف الأوسط؛ وهو الذي يَعْنينا ها هنا، ويشمل قبائل بني ورياغل، وبني بوفراح، وبني يطفت، وبني گميل، وترجيست، وبقيوة التي عَدّها إبراهيم حركات أقدم قبيلة في المغرب الأقصى. فالمكتبة التاريخية، في الغرب خصوصاً، تحتفظ بكَمٍّ مهمّ من الدراسات عن الريف، تحكّمت فيها النظرة الاستشراقية والكولونيالية غالباً، مما يُلْزم بالحذر لدى التعامل معها، وإنْ كانت قد أثرت في جملة من باحثينا على امتداد زمن ليس بالقصير، مستغلةً الفراغ المُهول في هذا الجانب، وعدم اهتمام الأهالي بتوثيق تاريخهم وتدوينه، مكتفين بنقل جملة من وقائعه من جيل إلى جيل عبر الرواية الشفوية، إلى وقت متأخر! على أنّ مِنْ تلك الكتابات الاستعمارية ما ركّز على جانبٍ بعينه من حياة الريف والريفيين؛ كالعادات والمعتقدات والعمران، ومنها ما تَخصَّص في دراسة قبائل محددة؛ إذ كرس الأنثروبولوجي الأمريكي دافيد هارت– مثلا – معظم أبحاثه للحديث عن قبيلة أيت ورياغل، وتخصص كيريلي في قبيلة بقيوة، وصرف السوسيولوجي بول باسكون جزءاً كبيرا من مجهوده البَحْثيّ لدراسة قبيلة بني بوفراح. أضف إلى ذلك دراسات عربية حديثة عن المنطقة، تناولتها بالاستناد إلى جهود دارسين سابقين، أو باعتماد الروايات والكتابات الرسمية.
ولا شكّ في أن هذه الكتابات كلها، منذ ما قبل إسلام المنطقة إلى الفترة الحديثة، بصرف النظر عن قيمتها التاريخية، وعن صدقها وأمانتها في النقل والتسجيل، تشكل وثائق ومستندات مرجعية، يلزم، طبعاً، قبل اعتماد ما يمكن اعتمادُه منها، إخضاعها للفحص والتدقيق العلمي والنقد الخارجي والداخلي، علماً بأنّ الوثائق – كما قال بعضُهم – عنصر أساس في كل تاريخ (Pas de documents, pas d'histoire). ولكن لا مناص من أن نستحضر معطىً ذا أهمية قصوى في هذا الصدد، وهو أنّ كثيراً ممّا يُمتّ بصلة إلى تاريخ الريف لم يُدوّن، بل ظلّ يُنقل، عبر التاريخ، شفويا، ولاسيما ما يتعلق من ذلك بالتاريخ الاجتماعي والثقافي. ومن هنا، يغدو ضروريا أخذ هذا المصدر بعين الاعتبار لدى الإقدام على ركوب مغامرة التأريخ للريف عامة، وللريف الأوسط خاصة (منطقة الحسيمة أنموذجاً).
إن أنجع طريق لكتابة تاريخ دقيق لأي أمة، أو أقرب إلى الدقة والموضوعية بالأحْرى، تحاشي توثيقه وتدوينه من قبل مؤرّخ بعينه، كيفما كانت قدراته ومؤهلاته، وتفادي الاعتماد المطلق على الوثائق، مقابل إغفال الروايات الشفوية والمصادر غير الأدبية، وتجنب قبول الكتابات والمرويات كما هي من غير تمحيص وتثبُّت. وتكون فرص النجاح والتوفُّق في هذا المسعى التأريخي وافرة، وثمارُ العمل أكيدةً ومرشّحة للبناء عليها، حين يتولى عملية التأريخ للمنطقة أبناؤها الباحثون، سواء في إطار أبحاث أكاديمية أو دراسات علمية منهجية جادّة... ومِنْ شأن عملٍ كهذا أن يُفضي إلى إنجاز دراسات تأريخية لكل منطقة، بوصفها – في المآل – أبحاثاً تتضافر وتتكامل لتقديم صورة دقيقة ومفصلة ومستوعبة عن تاريخ الأمة أو البلد الذي تنتمي إليه كل تلك المناطق.
ومن أمثلة ذلك أبحاثُ الحسن شوقي عن قبيلة السراغنة، وبحْثٌ مُستفيض أنجزه المفتوحي أحمد بوقرب عن منطقة الحسيمة عبر تاريخها المديد، ويقع في جزأين، مجموعُ صفحاتهما حوالي 730 صفحة من القِطْع المتوسط، صدر بتطوان سنة 2013، وقد توزعت صفحاته على سبعة فصول تتفاوت فيما بينها كَمّيا، وتطرقت إلى التأريخ لمنطقة الحسيمة منذ ما قبل الإسلام إلى أوائل استقلال المغرب، في كافة المجالات، وعلى شتى المستويات، وإنْ كان قد خَصَّ تاريخها الاجتماعي والثقافي بحيّز مهمّ أتاح له الإفاضة في الحديث عن طبقات المجتمع الريفي القديم، وعن تنظيمه الداخلي والعلاقات بين مكوناته الأمازيغية وغير الأمازيغية، وعن مكانة المرأة في كنفه، وعن عوائده ومعتقداته وأنماط عيش ناسِه وأشكال احتفالاتهم الشعبية ونحوها. كما وقف، في الفصل الثالث، مطوّلاً، عند مظاهر الحياة الاجتماعية للريفيين، منذ أقدم العصور، في مجالات التعليم، والصحة، والسكن، والتغذية، واللباس، والزينة، والألعاب. وعلى هذا الأساس، فالكتابُ وثيقة تاريخية تصف حياة أبناء المنطقة، وتجليات معيشهم، وأنماط العلاقات بينهم، معتمدةً في ذلك كله على مادة مصدرية لا بأس بها، وعلى روايات وصور توثيقية. ولم يكتفِ الكتاب بالنقل وقبول المعلومة كما هي، بل نلْمَس روحا نقدية يَقظة متثبّتة لدى صاحبها في كثير من المواطن، تَحْذوه الرغبة في أن يكتب تاريخاً محليا لمنطقته تتوافر فيه صفات الصدق والوثوق والأمانة، لتجاوز كتابات أخرى أجنبية عن الريف الأوسط تسلل إليها النقص والتزييف من كل جانب؛ كتلك التي دَبَّجها الإسبانيّ خوان رومان عن الحسيمة ونواحيها.
مجمل القول أنّ دراسة أحمد بوقرب ذات قيمة علمية وتاريخية واضحة، وتقدّم أنموذجاً للكتابات التأريخية المحلية المعمّقة والمستفيضة، التي تروم سدّ الفراغ في مثل هذا الضرب من الكتابة، وإتحاف المكتبة العربية، في هذا الفرع من الإنسانيات، بأبحاث مائزة تصحّح أحكاما جاهزة ترسخت لدى كثيرين، وإنْ جانبت الصواب والحقيقة التاريخية، وتوضح نقطاً عدة ظلت شبه مجهولة، وتبيّن – بالدليل – الإسهام الكبير الذي كان للمنطقة المدروسة في بناء صرْح الحضارة المغربية الشامخ في شتى الميادين. كما تكشف الدراسة أيضاً أهمية مثل هذه الكتابات المنجزة من قبل مؤرخين ودارسين محليّين، بعيداً عن تلك الرسمية، أو تلك التي تصدر عن أسماء مكرّسة، في الخروج بكتابة تواريخ جزئية، بمنهج قائم على التقصي والتعمق والتحري والنقد العلمي البنّاء، تمهيداً لتدوين تاريخ الأمة الكبرى الحاوية لهذه المناطق ذات التواريخ الجزئية جميعها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.