قبل سبع سنوات بالتمام والكمال، في 20 فبراير 2011، مات المغرب القديم إلى الأبد. في الوقت الذي كان فيه رجال السلطة يمارسون هواية التماطل في تسليم شهادة السكنى وشهادة الضعف وشهادة الولادة، كان مئات الآلاف من المتظاهرين يسلمون "شهادة الوفاة" لنظام بأكمله، من طنجة إلى لكويرة. في ذلك الأحد المجيد، بدّل الخوف معسكره: بعد أن كان الشارع يخاف من المخزن، أصبح المخزن مرعوبا من الشارع. صحيح أن الإصلاح الدستوري كبح جموح المتظاهرين، ومصير الثورات العربية أضعف زخم الاحتجاج، لكن قواعد اللعبة تغيرت، ومخطئ من يعتقد أن الرجوع إلى الوراء ممكن. التاريخ رجل صارم، له أجندة مليئة بالمواعيد، ولا ينتظر من يأتي متأخرا ولو بدقيقة. ومعظم القادة العرب تأخروا عن موعدهم معه، قبل سبع سنوات، إذا كان قد أعطاهم موعدا أصلا. الخطب التي ألقاها الزعماء، حين اهتزت الأرض تحت عروشهم، جاءت بعد فوات الأوان، لذلك لم تنفع التنازلات «التاريخية» التي قدموها إلى شعوبهم في تهدئة الشارع، ولم تجد أي صدى وسط الحشود الغاضبة، بل جاءت أشبه بسكرات الموت والرقصة الأخيرة قبل الرحيل، ولو خطبوا على ذلك النحو، قبل اشتعال الشارع، لما سقطوا بتلك الطريقة المهينة أو جروا الخراب على بلدانهم الآمنة. أخطر شيء يمكن أن يحدث للحاكم هو أن يخطب ولا يصدقه أحد. بعد عقود من الإذلال والقمع والوعود الكاذبة، تصاب الشعوب بمرض يسميه المغاربة «التناوي»، ولا يمكن أن تصدق الوعود والعهود، عندما تصدر من الحاكم الذي تعود على الرجوع في كلامه، وجعل من احتقار الشعب طريقة في الحكم، لذلك يعتبر المتظاهرون خطب رؤسائهم محاولة للالتفاف على احتجاجاتهم ويرفعون سقف المطالب أعلى. في المغرب، كان التفاعل مثاليا مع الاحتجاجات. العالم كله صفق لحكمة الملك والشعب. في الوقت الذي كانت فيه دول الجوار تحترق، وقادتها يهددون بسحق المتظاهرين، أخذ الملك الكلمة في التاسع من مارس و"أسقط النظام" كما عنونت "أخبار اليوم" وقتها بكثير من الحماس، في عدد استثنائي. اليوم، بعد أن جرت مياه كثيرة تحت الجسر، يتبين أن النظام لم يسقط ولا هم يحزنون. بل كانت مجرد انحناءة ذكية أمام العاصفة، في انتظار أن تتوفر الشروط مجددا كي "تعود حليمة إلى عادتها القديمة". السلطة طوت صفحة العشرين من فبراير، وضيقت الخناق على الأصوات المعارضة، وأحكمت قبضتها الأمنية، وصار شعار المرحلة: "العصا لمن عصى!" المشكلة أن السيارة عندما تدخل إلى "الأوتوروت" يستحيل أن ترجع "مارشاريير". العودة إلى الوراء تكون مكلفة، وقد تعني موتا محققا. هذا ما لا يفهمه من يريدون إحياء ممارسات سلطوية بائدة، والتحكم في المشهد السياسي كما كان الأمر عليه قبل أن تخرج الحشود إلى الشارع للمطالبة بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، ويستجيب لها الملك في خطابه التاريخي. إذا كنا لا نسبح في النهر مرتين، فإننا نسبح في المستنقع عشرات المرات. حركة 20 فبراير انسحبت من الشارع ودخلت إلى التاريخ، لكن روحها مازالت معلقة فوقنا، تنظر لما يحدث بغضب، وتلهم الساخطين في مختلف المدن والقرى المنسية. ويكفي أن نرى كيف أصبحت الجماهير تخرج تلقائيا للاحتجاج كلما سنحت لها الفرصة، رغم القمع والاعتقال، من الحسيمة إلى جرادة، مرورا بأوطاط الحاج، ناهيك عن التظاهرات الشعبية التي هزت شوارع المملكة احتجاجا على إطلاق سراح مغتصب الأطفال دانيال گالفان… يكفي أن نتأمل ذلك كي نعرف أن روح عشرين فبراير لم تمت، وأن الشارع أخذ الكلمة ولن يسكت إلا إذا أنصتنا إليه.