قمنا في الجزء الأول من هذا المقال بمقارنة مشروع القانون 59.24 بالقانون الإطار 51.17، وخلصنا إلى أن المشروع يمثل محاولة طموحة لتجسيد التوجهات الاستراتيجية للقانون الإطار لكن دون تحقيق الأهداف الأساسية المرجوة. يُظهر المشروع امتثالاً نسبيا وإضافات قليلة في مجالات الحكامة الإدارية مع هيكلة مطلوبة للبحث العلمي والابتكار، لكنه يعاني من قصور جوهري في المجالات الأساسية التالية: النموذج البيداغوجي، وتدبير الموارد البشرية، والحكامة الترابية، والمقاربة التشاركية. هذه الثغرات قد تحول المشروع إلى إصلاح شكلي يغير الهياكل دون أن يمس جوهر الإشكالات، مهدداً بذلك تحقيق الأهداف الاستراتيجية للقانون الإطار. في هذا الجزء الثاني من المقال سنقوم بمقارنة المشروع مع القانون 01.00 الذي ينظم التعليم العالي منذ 25 سنة وإلى غاية اليوم في محاولة للإجابة على سؤال جوهري: هل يشكل مشروع القانون 59.24 استمرارية للمقتضيات المتضمنة في القانون 01.00 أم قطيعة معها؟ سؤال يلامس الجوهر الاستراتيجي للتغيير، ويساعدنا على تحديد ما إذا كان المشروع الجديد مجرد ترميم للنظام القديم أم أنه يشكل ثورة حقيقية تنسجم مع سياق الإصلاح وفق الرؤية الاستراتيجية 2015-2030 وتستجيب للتحولات الكبرى التي عرفها مجال التعليم العالي طيلة فترة ربع قرن تم تدبيرها بأحكام القانون 01.00. على مستوى النموذج البيداغوجي يمكن القول بأن المشروع يحافظ على الاستمرارية في مجال كان يفترض أن يكون موضوع قطيعة جذرية مع القانون 01.00 لكونه يشكل القلب النابض لكل إصلاح للتعليم. عكس ذلك، كلا النصين يعتبران القضية البيداغوجية ثانوية ويغرقانها في مقتضيات مسطرية لا تنفذ إلى عمق الإشكالات البيداغوجية التي تعيق تطور التعليم العالي في بلادنا. فالقانون 01.00 يستند إلى نموذج تقليدي ومركزي يركز على مسارات التكوين والشهادات التي تتوج بها دون أي حديث عن إصلاح المناهج، والتقييم، أو التوجيه كرافعة للتغيير. ومن مظاهر الاستمرارية الواضحة أن مشروع القانون الجديد لا يميل عن هذا التوجه ولا يقدم رؤية بيداغوجية جديدة، بل يغفل كما ذكرنا في الجزء الأول من المقال الآليات الأساسية التي ذكرها القانون الإطار مثل اللجنة الدائمة للبرامج، والإطار الوطني للإشهاد. منحى الاستمرارية نفسه اتخذه المشروع فيما يتعلق بتدبير الموارد البشرية، بل يمكن اعتبار تبني هذا التوجه أحد المظاهر الكبرى لفشل المشروع في تحقيق أحد القطائع الضرورية التي من دونها لا يمكن إحداث أي تحول في منظومة التعليم العالي والبحث العلمي ببلادنا. خاصة عندما نكتشف بأن المشروع تراجع عما اعتمده القانون 01.00 نظريا دون أن يطبق عمليا عندما نص في مادته رقم 17 على استقلالية الجامعة في تدبير الأطر التي تشتغل بها بما في ذلك الأستاذ الباحث، وهو ما جعل ترقية هذا الأخير تدبر بشكل مركزي بمعزل عن أداء الجامعة أو جودة التدريس. بعدما عرفه قطاع التربية الوطنية من تحول على مستوى تدبير المسار المهني للمدرسين تجلى أساسا في تبني مقاربة لامتمركزة للملف، كان منتظرا إحداث قطيعة جوهرية على هذا المستوى تتلاءم على الأقل مع ما نص عليه القانون الإطار من ربط للترقية بالأداء المؤسسي وجودة التدريس، ومن تكريس لاستقلالية فعلية للجامعة، لكن شيئا من هذا لم يحدث. وعلى الرغم من الجهود التي بذلت في تطوير نظام الحكامة في الجامعة العمومية، فإن الأثر على استقلالية هذه الأخيرة لم يصل إلى المستوى المؤمل لأن التغيير الذي طال المواد ذات الصلة في القانون 01.00 كان في الشكل وليس في الجوهر، الذي يعبر في حقيقته عن استمرارية في تقييد استقلالية الجامعة العمومية لا يكاد يخفيها الانتقال من وصاية مركزية مباشرة لا تلغيها الصلاحيات التداولية والتقريرية التي كانت لمجلس الجامعة، إلى وصاية مؤسساتية أكثر تطوراً يجسدها مجلس الأمناء. فالقانون 01.00 كان يتبنى منطق الوصاية العمودية المتمثلة في الوزارة التي تتحكم بشكل مباشر في الشؤون الاستراتيجية للجامعات، أما المشروع الجديد فيتبنى منطق الوصاية الأفقية الذكية، بحيث يستبدل الوصاية المباشرة بنموذج مجلس الأمناء الذي تهيمن عليه الأطراف الخارجية ويحتفظ بصلاحيات استراتيجية جوهرية. أما على مستوى العلاقة مع المحيط الاجتماعي والاقتصادي فيمكن الحديث عن التأسيس لقطيعة نسبية وإضافة نوعية تنتظر التفعيل لتصل إلى مداها، خاصة إذا علمنا بأن القانون 01.00 رغم تنصيصه على آليات لتقوية هذه العلاقة فإنها ظلت ضعيفة وغير مهيكلة مما جعل الجامعة منعزلة نسبياً عن محيطها. فهل يستطيع المشروع الجديد تجاوز العوائق التي حالت دون تفعيل المادة السابعة من القانون 01.00 التي نصت مثل المشروع الحالي على تخويل الجامعة الحق في إحداث شركات تابعة، والمساهمة في مقاولات عمومية وخاصة؟ علما أن العمومية أقصيت من المشروع الجديد، قد يساهم في ذلك إدخال مفاهيم الأقطاب الجامعية، ومدن الابتكار، والشراكة مع القطاع الخاص في المشروع الجديد، والتنصيص صراحة في مادته 41 على اسم الشركة المساهمة التي يمكن للجامعة إحداثها أي مؤسسة تنمية التكوين والبحث والابتكار، مع إدراج المداخيل المتأتية من أنشطتها ضمن موارد الجامعة كما تنص على ذلك المادة 39 من المشروع. أما القطيعة الحقيقية، والوجه الأكثر إشراقاً في المشروع فيتجليان في مجال البحث العلمي الذي أفرد له المشروع بابا خاصا تضمن 14 مادة، ليتم بذلك رفع التهميش الذي طال هذا الموضوع في القانون 01.00. ورغم بعض النواقص الإجرائية التي أشار إليها المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي في الرأي الذي أصدره حول مشروع قانون التعليم العالي الذي أحالته عليه الحكومة في يناير 2025، فإن إدراج باب خاص بالبحث العلمي في مشروع القانون الجديد يعد مكسبا مهما يحتاج بطبيعة الحال إلى تطوير. وتتجلى السمة الأساسية لمشروع القانون 59.24 في حرصه على تقنين واقع التعليم العالي الذي تميز في الخمس عشرة سنة الأخيرة ببروز أصناف جديدة من المؤسسات لم يكن لها سند تشريعي واضح في القانون 01.00، وخاصة ما درج على تسميتها بالمؤسسات الشريكة، والتي تطورت عمليا على المستوى القانوني بوصفها مؤسسات للتعليم الخاص. التمايز الموجود بينها وبين هذه الأخيرة على مستوى النموذج الاستثماري وعلى مستوى العلاقة مع الدولة فرض إيجاد سند تشريعي لها على مستوى المشروع الجديد، الذي صنفها على أنها مؤسسات غير ربحية ذات النفع العام، مما سيساعد على توضيح الرؤية بخصوص هذا النوع من المؤسسات. أما فيما يتعلق بالتعليم الخاص فيحافظ المشروع على منطق الاستمرارية مع بروز نوع من التساهل بخصوص جودة مؤسساته تجلى أساسا، كما أشرنا في الجزء الأول من المقال، في حذف مرحلة الاعتراف بها الذي كان يعتمد على معايير صارمة، واعتبار الترخيص والاعتماد كافيين لتصبح الشهادات المسلمة من طرف المؤسسات المعنية شهادات وطنية معترف بها من طرف الدولة. ويبقى المثير للانتباه بشكل واضح عند المقارنة بين مشروع القانون 59.24 والقانون 01.00 هو حذف المادة 100 التي تنص على تجميع مكونات التعليم العالي رغم التنصيص على هذا المقتضى في القانون الإطار. بدلا من ذلك تم تكريس تشتت منظومة التعليم العالي بتبني تسمية المؤسسات القطاعية التي تعني أن كل قطاع حكومي يمكنه إحداث مؤسسة للتعليم العالي خاصة به. بهذا المنطق لن يتبقى للتعليم العالي أي مؤسسة، فمدارس المهندسين ينبغي أن تتبع للقطاع الذي يتوافق مع التخصص الذي تؤهل له، وكليات الطب والصيدلة ينبغي أن تتبع لقطاع الصحة، وكليات الحقوق ينبغي أن تتبع لوزارة العدل، وهكذا دواليك. بل داخل مؤسسة لتكوين المهندسين متعددة التخصصات يمكن أن تكون لدينا شعبة تابعة لقطاع وشعبة تابعة لقطاع آخر، وهكذا نسقط في تجزيء المجزأ بدل التوق نحو تأسيس منظومة واحدة للتعليم العالي والبحث العلمي والابتكار. فضلا عن ذلك كله فإن القراءة المتمعنة في المشروع تبين غياب البعد الديني الذي كان بعدا أصيلا في القانون 01.00 لا فيما يتعلق بمهام التعليم العالي ولا فيما يتعلق بالتمثيلية في أجهزة الحكامة من خلال المجلس العلمي الأعلى. فهل يتعلق الأمر بتوجه نحو علمنة الجامعة المغربية وإقصاء كل ما هو ديني منها، تمهيدا لتمييزها عن الجامعات الدينية مثل جامعة القرويين، أم أن الأمر يتعلق بمجرد سهو سيتم تداركه عند المناقشة في البرلمان؟ نستنتج بعد هذه المقارنة بين النصين القديم والجديد بأننا أمام مشروع ترميمي يحمل جينات القانون القديم، بحيث يراهن على الاستمرارية على مستوى الجوهر، وعلى القطيعة على مستوى الشكل لكن فقط في بعض مواده. إنه يشبه عملية تجميل للمنظومة الحالية للتعليم العالي والبحث العلمي أكثر منه عملية جراحية شاملة لإصلاحه. فهو يضيف طابقاً جديداً يتجلى في باب البحث العلمي على أساسات قديمة ومتصدعة تحتاج إلى الكثير من التغيير، وخاصة النموذج البيداغوجي وتدبير الكفاءات. وبدون معالجة هذه الأساسات، فإن خطر عدم استقرار المبنى الجديد يبقى قائماً. في الجزء الثالث والأخير من هذا المقال سنحاول القيام بمقارنة لنموذج التعليم العالي والبحث العلمي الذي بني عليه مشروع القانون 59.24 والنماذج الدولية المعروفة.