إهداء : الى كل المُرحلين … قسريا . الى كل من ذاق مرارة “المسيرة الكحلاء”. اليكم جميعا وأنتم تحتضنون اليوم عذابات الأمس وتتنفسونها أحرفاً خرساء. مابين الذكرى والذكرى تمر الأيام … يُطل الفرح تارة ويتغلغل الجرح تارة أخرى . نراهم يتصفحون دفاتر ذكرياتهم فلا يجدون سوى حكاياتهم ، وبعضا من أحلامهم في شمس فرحٍ لا تشرق . اليوم يوم عيد أو يوم فرح ، لا فرق . فما بين اللحظة واللحظة تمر الأيام ، تكشف عن فرحة تتلبسها قلوب تُحيي الذكرى كفرح وأخرى تصرخ عندما ترى قلوب تستعد للفرح. فكيف هو طعم الفرح حين يكون ممزوجا بحزن القلوب … ألابد لدمعة الألم أن تستيقظ ، كلما حل العيد ؟. بداية الحكاية. لا أدري لماذا تذكرت وأنا أتابع على شاشات التلفاز وعبر اثير الاذاعات المغربية يوم السادس من نونبرالجاري ، المصادف للاحتفال بذكرى المسيرة الخضراء ، بعضا من فواجع أمسٍ تأبى ان ترحل .. فواجع مؤلمة لترحيل قسري .. لازلنا نقاسي وَقعه ، نرتعش من هوله ، ونتأوه بذكره. وصمة عار-كحلاء- على جبين جارة – شرقية- شقيقة وقريبة جدا…جدا. بين “الخضراء” و”الكحلاء” ذكرى ألم … ذكرى ترحيل تعسفي ، ستظل شاهدة على جريمة إنسانية بشعة غير قابلة للنسيان ولا للتصرف ولا للمحو ، ارتكبت في حق أناس أبرياء ، ذنبهم الوحيد أنهم “مغاربة” ، ساهموا في يوم ما في حرب تحريرية ، ودافعوا وضحوا بأنفسهم وأموالهم وارواحهم عن ارض تنكرت لهم و بصقتهم أبوابها بعد أن ضاق من بداخلها من الجيران ذرعاً بهم . إنها فعلا وصمة عار في جبين “نظامك” يا جارة . وسيظل الشهر شاهدًا على حجم المأساة التي عاشها هؤلاء. “ساحة الشبيبة ” ألف حكاية وحكاية لا زلت أتذكر المكان . أتذكر أطفالا كانوا هناك .. داخل خيام لم يكونوا يسكنوها بارادتهم .سكنوها لأن منازلَ لهم سُلبت منهم “هنالك” في بلد غير بعيد .. بلد الجارة ، بلد “المليون شهيد”. كنا صغارا .. نسكن حي “لعري الشيخ” .. وكانت ” الساحة ” هي المكان الوحيد الذي كان يجمعنا ، نلتقي فيه ونلعب . لم نكن نعرف هموما و لا مواجع ، كانت على شفاهنا بسمة تسع الكل. كنا أطفال صغار، وكنا حين كانت تبصقنا الأبواب الحديدية بعد أن يضيق من بداخلها ذرعاً بنا .لم نكن نجد غير تلك الساحة ملجأً لنا… ساحةً عُرفت قديما (ولا زالت) ب: “ساحة الشبيبة والرياضة ” . فيها كنا نلعب ونمرح ، نلاحق الفراشات ، نلعب ألعاباً جميلةً لم تكن تكلفنا شيئاً. لم نكن نشعر بالملل والسأم. كان يكفينا أحيانا كرة بلاستيكية (بل أنها كانت كل ما نملك من ألعاب) نضع تشكيلة لفريقين وتنطلق المباراة من دون حتى صافرة ، ولا حكم . ذات مساء – وكعادتنا حين تضيق بنا المدرسة والدنيا وبيوت كانت تطردنا كل لحظة – أخذنا أشيائنا وكرتنا البلاستيكية واتجهنا الى ” ساحتنا” ساحة الشبيبة والرياضة . لم نلعب يومها مباراتنا ، ولم نصنع تشكيلة جديدة للفريقين ولا للمباراة . بقينا طوال اليوم فاتحين أفواهنا ، ننظر الى الجموع الكثيرة كبارا وصغارا رجالا ونساءا وقد ملأت المكان . أجيال أخرى جديدة من الأطفال اتتنا…أطفال صغار، متوترين تائهين وكانهم فقدوا لون الفرح والمرح . كانوا يحملون أمتعتهم الصغيرة ، يجلسون على بعضها في غيرانتظام ، يحاولون إخفاء ضعفهم .يصرون على أن يكونوا أقوى من العذاب والألم . حاصرتنا أسئلة كثيرة ونحن نعيد صياغة الصورأمامنا ونحاول استيعاب ما يحدث .أمضينا اليوم بكامله “نتفرج” على مباراة غيرالتي كنا سنلعبها. ظلت الأسئلة تحاصرنا طيلة داك اليوم .. وفي صباح اليوم التالي سمعنا في الشارع كما في المدرسة أن الأمر يتعلق “بعملية تهجير قسري شملت 75.000 مغربي ذوي أصول مغربية مقيمون بالجزائر…( = هي عملية تمت صبيحة عيد الأضحى في 18 دجنبر 1975 في ظل نظام حكم الراحل هواري بومدين ومساعده الأيمن الرئيس الحالي للجزائر عبد العزيز بوتفليقة ). لم يعد في “ساحة الشبيبة” متسع للعب ولا لمباريات الكرة. حتى الكرة البلاستيكية إياها ، فقدناها ونحن نلعب خارج الساحة .. كانت ضربة غير محكمة استقرت بعدها الكرة فوق سطح أحد المنازل .. خرج صاحب المنزل .. وبيده – طبعا- الكرة البلاستيكية .. فظلت عيوننا المفتوحة في ذهول تشهد اغتيال كرتنا الوحيدة بالسكين ذي الحلقة المعدنية . لتنتهي المباراة قبل الوقت الأصلي والى الأبد … لا مباراة ، لا كرة ، ولا ساحة الشبيبة. صورة المكان لا زالت راسخة في ذهني . حين تتوغل داخل ساحة الشبيبة ، يفتح لك هذا المكان مآسيه ، تعود بك الذاكرة الى الوراء ، يمر أمامك شريط من خلال صور شكلتها حالات العشرات ومئات العائلات التي سكنت المكان في يوما ما . ساحة ، تشكل علامة على ترحيل قسري لأناس أبرياء ذنبهم الوحيد أنهم “مغاربة” .علامة على واقع ملأه الفقر والضيق والحرج الاجتماعي ، لأناس عاشوا هنا في صراع قاتل بين ثقل الماضي وتناقضات الحاضر وضباب المستقبل. عاشوا هنا كما هناك في خوف دائم ورعب مستمر. هي قصص لأطفال ونساء وعجزة ، تحت ركام الخيام تجترها ذاكرة تأبى النسيان. عاشوا بيننا .. تقاسمنا معهم أوجه مختلفة من “فواجع” حياتهم. فواجع لا زالت مكتوبة من خلال أطلال المكان ، منتشرة في كل درب وفي كل زاوية . زوايا كان يحتمي بها المئات من العائلات ، تعودت النطق بالشهادتين كلما ذهبت لتنام . خيام شبيهة بقبورصامتة ، تتزاحم فيها أسرا بكاملها .. لأنها ببساطة لم تكن تملك مكانا آخر تذهب إليه . فقال البعض أن الأمر قضاء وقدرا، وقال الآخرون أن في الأمر كثيرا من إهمال الدولة … وكل المسؤولين هنا وهناك كما في كل مكان. خِيما متراصة كانت تملأ الساحة ( ساحة الشبيبة) ساحة امتزج فيها الحزن بالقهر والألم . حين كنا نمر عبر المعابر بين الخيم ونجوب بأعيننا في أرجائها كانت تتسابق حينذاك أسئلة كثيرة لم نكن نستوعبها. أسئلة كنا نطرحها على بعضنا البعض في محاولة لفهم وتفسير الأشياء، وكنا كلما اقتربنا من الإجابة كانت تتدفق في ذهننا أسئلة أخرى… وأخرى. كانت خياما،بعضها بيضاء اللون منصوبة هناك داخل ساحة الشبيبة والرياضة ، متآكلة تطغى عليها الأوساخ بشكل تختنق معه الأنفاس ، ممرات صغيرة ضيقة ، كثيرا ما كانت تتحول إلى “حاضنات الأطفال”. أوساخ في كل مكان ، روائح نتنة ، بفعل “خيم /مراحيض” مشتركة منصوبة ، وسط خيم صغيرة مكدسة وضيقة ك “علب السردين” أشبه بالجحور والقبور الصامتة ، تتزاحم فيها أسرا بكاملها. خلاصة الحكاية. إنها ألف حكاية وحكاية، تركت وراءها آثار حسرة لانهاية لها. تحكي زمن سُحب من تحت أقدام هؤلاء ، تحكي عن ذك اليوم الأسود في مسيرة “كحلاء” أُغتصب فيها يوم العيد كله . يوم عيد ، وجد هؤلاء أنفسهم فيه يُطردون خارج وجودهم … يحملون معاناتهم الصامتة، وكرامة تأبى أن تسمح لدموع “المرحلين” أن تسقط . اختلف المشهد يومذاك كثيرا عما كان عليه الحال وقت أن تقرر أن يكون يوم العيد عيدا للجميع .إذ هناك ، على “الحدود الشرقية ” لم يعد ثمة أجواء تستدعي تسمية العيد بالعيد ، إذ كيف يعيش ” المُرحل” عيدا وهو مرحل قسرا ومُبعد عن أهله واولاده وزوجته ومطرودا ك….. كيف يعيش عيدا و”أولي الأمر” ينظرون إليه على أنه “ضيف” غير مرغوب فيه … ضيف كان (هنا كما هناك) يتأفف الكل من وجوده . الم يحن الوقت بعد لاعادة كتابة الحكاية…قبل ان تطول وتتشعب أحداثها وتسلك مسارا تراكميا قد يؤدي إلى مآسي و فواجع أخرى الكل في غنى عنها ؟. الم يحن الوقت بعد لجلوس الجارين وبهدوء ، للتفكير في إعادة الإعتبار لشخوص الحكاية ؟. الم يحن الوقت بعد ، لتعرية ملف ظل مطمورا لسنوات وسنوات ، حتى يُسمح للإنسان أن يمارس حقه كإنسان ، باعتبار هذا الحق لصيق بشخصه ، وأن كمال إنسانيته ونقصانها مرهونتان بقدر ما يتمتع به هذا الشخص من حقوق. وما ضاع حقٌ وراءهُ مطالب…