إعلام فرنسي: أشرف حكيمي قدم موسما استثنائيا ويستحق الكرة الذهبية    عكس باقي مدن الشمال .. حملات محتشمة بإقليم الحسيمة لتحرير الشواطئ    نزاع حول حقوق هولوغرام عبد الحليم حافظ يشعل مواجهة قانونية بين XtendVision ومهرجان موازين    رئيس الحكومة يترأس اجتماع مجلس الرقابة للقرض الفلاحي للمغرب    توقعات طقس الأربعاء في المغرب    ولد الرشيد يجري مباحثات مع نائب رئيس جمهورية السلفادور حول سبل تعزيز التعاون الثنائي    لجنة مركزية من وزارة الصحة والحماية الاجتماعية تحل بشفشاون لمواكبة التلقيح ضد الحصبة    "الفناير".. الفن الجاد والتطور المتواصل أساس الاستمرارية في زمن التحديات الرقمية    أول مصنع من نوعه خارج القارة الآسيوية .. المغرب يدخل عصر البطاريات الخضراء باستثمار 20 مليار درهم        انقلاب شاحنة على الطريق الوطنية رقم 2 باقليم الحسيمة يخلف اصابات    أسبوع دامٍ في المدن المغربية.. مصرع 23 شخصًا وإصابة أزيد من 2800 في حوادث سير    تطورات مأساة طنجة.. وفاة الشخص الذي أضرم النار في جسده بعد خلاف تجاري    بعد وفاة مؤسسه بنعيسى... موسم أصيلة الثقافي الدولي يواصل مسيرته بصيغة صيفية حافلة بالفنون    ابتلاع كيس يحتوي على مخدرات يودي بحياة موقوف بطنجة خلال تدخل أمني    مبادرة مدنية ترفض حرمان الجمعيات من التبليغ عن الفساد وتعتبره دوسا على الدستور والالتزامات الدولية للمغرب    السياحة المغربية تحقق أداء قويا في 2025 بارتفاع العائدات وعدد السياح    انطلاق أول عملية توريق للديون المتعثرة وأخرى قيد الإعداد    ارتفاع حصيلة شهداء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة إلى 56 ألفا و156 منذ بدء الحرب    إيران تؤكد أن منشآتها النووية "تضررت بشدة" جراء الهجمات الأميركية    الملك محمد السادس يهنئ أمير قطر بذكرى توليه الحكم    نشرة إنذارية: موجة حر مع الشركي من الأربعاء إلى الاثنين بعدد من مناطق المملكة    اجتماع بوزارة الداخلية لتحديد معايير استخراج أسماء المدعوين لأداء الخدمة العسكرية برسم الفوج المقبل للمجندين    دراسة تحذر: انتكاسات كبيرة في برامج التلقيح تعرض الأطفال لخطر الأمراض القاتلة        طنجة.. كلب يهاجم فتاة وسائق يدهس شابا ويلوذ بالفرار        الرباط.. انعقاد الاجتماع ال74 للمكتب التنفيذي لمجلس وزراء العدل العرب    مع استمرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل وإيران جيش الاحتلال يواصل استهداف غزة واتصالات لوقف الحرب وسط وعود جديدة لترامب    بنكراد: معظم المحتجين في 20 فبراير بمجرد ما عرضت عليهم المناصب ذهبوا لها وانفضوا    بكين.. مؤتمر يستكشف أوجه التعاون الصيني – المغربي في قطاع السياحة        كأس العالم للأندية.. طاقم تحكيم كندي بقيادة درو فيشر يدير مباراة العين الإماراتي والوداد الرياضي    المنتخب المغربي النسوي يبدأ تحضيراته استعدادا لكأس أمم إفريقيا    عودة الدواجن البرازيلية إلى الأسواق المغربية بعد زوال المخاطر الصحية    بسبب أزمة مالية خانقة.. معاقبة نادي أولمبيك ليون الفرنسي بالهبوط للدرجة الثانية    مقتل 6 من جنود اسرائيليين في قطاع غزة    إيران تنظم السبت جنازة قادة وعلماء    استقالة "قاضية الفضيحة" تُعيد محاكمة مارادونا إلى نقطة الصفر    أكاديمية المملكة تنظم تظاهرة دولية    الجواهري: الإبقاء على سعر الفائدة الرئيسي بسبب تصاعد حالة اللايقين العالمية    مجلس النواب الأميركي يرفض مبادرة لعزل ترامب    كأس العالم للأندية 2025.. تعادل بوكا جونيورز الأرجنتيني وأوكلاند سيتي النيوزلندي (1-1)    ترامب يؤكد مجددا أن المواقع النووية في إيران "دمرت بالكامل"    كأس العالم للأندية لكرة القدم.. فلامنجو البرازيلي يتعادل مع لوس أنجلوس الأمريكي (1-1)    أموال الناظور تمول مدنا أخرى.. أين الأبناك من تنمية المنطقة ودعم الرياضة والثقافة كما أرادها جلالة الملك؟    مجموعة بريكس تدعو إلى "كسر حلقة العنف" في الشرق الأوسط    الرجاء ينال المركز الثالث بكأس التميز    والي بنك المغرب يدعو الحكومة إلى إنجاح برامج تمويل المقاولات الصغرى    "ملعب عشوائي" يثير الجدل بالدروة    مؤسسة أحمد الوكيلي تطمح إلى إخراج "الآلة" من النخبوية الموسيقية    بعد غياب طويل.. عودة الإعلامية لمياء بحرالدين للساحة الإعلامية بشكل جديد    قهوة بالأعشاب الطبية تثير فضول زوار معرض الصين – جنوب آسيا في كونمينغ    التوفيق : تكلفة الحج تشمل خدمات متعددة .. وسعر صرف الريال عنصر حاسم    وزير الأوقاف: خدمات واضحة تحدد تكلفة الحج الرسمي وتنسيق مسبق لضبط سعر الصرف    وزارة الاوقاف تصدر إعلانا هاما للراغبين في أداء مناسك الحج    وزارة الأوقاف تحدد موعد قرعة الحج        







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"العروس باللون الأحمر"دلالة اللون في الأدب والحياة!
نشر في بيان اليوم يوم 26 - 11 - 2020

ها أنت، الآن، تمتطي سفينةً، تعبُر بك البحرَ الهادئَ، فعن يمينك ترى إيطاليا، وعن يسارك ألبانيا. لكنك عندما تدنو من الميناء، ستقابلك مدينةُ (دوريسْ) الألبانيةُ، وتشاهد سربا من الدلافين يحييك من بعيدٍ!
ولك أنْ تسألَ مستغربًا: ما الذي يجعلنا نقرنُ، في بدايةِ قراءتِنا، ألبانيا بالبحر؟!
لقد قيل منذ القديم، وما زال هذا القولُ جاريا: إنَّ العقليةَ الألبانيةَ تتغير بين الفينةِ والأخرى، مثل البحر في المد والجزر؛ فهي تارة تميل إلى الغرب، وتارة إلى الشرق، لا تدري أيَّهُما تُفَضِّل، أو على الأقل، مع مَنْ تبني علاقاتٍ متوازنةً!
ولفَكِّ هذا اللغز، تحاول الكاتبةُ الألبانيةُ (أنيلدا الإبراهيمي) في العديد من رواياتها أنْ تغوصَ بك في بحر مجتمع هذا البلد القديم الجديد، لتُشَرِّحَ أوضاعَهُ الاجتماعيةَ والسياسيةَ والثقافيةَ، وبالتالي، عقليةَ أهْلِهِ المتقلِّبةَ!
رُبَّما يعود هذا النَّهجُ إلى ما عرفتْهُ ألبانيا من حروبٍ طاحنةٍ، رومانية وبيزنطية وعثمانية وأوروبية، كما ظلتْ أرضًا للصراعاتِ والتجاذلاتِ بين الدول، والنزاعاتِ المُحتدمةِ بين القرى، التي تتقاذفها القومياتُ يمينا وشمالا إلى سنة 1989.. كل ذلك، جعل الإنسانَ الألباني يجنحُ إلى القوي، في لحظةِ ضعفِهِ، كي يظلَّ على قَيْدِ الحياةِ، ويُحافظَ على ذُرِّيتِهِ وثروتِهِ، فلم يجدْ أمامَهُ إلا هذا الأسلوبَ الواقعي (في رأيِه)!
سنلجُ عالمَ المجتمع الألباني، عبر رواية (العروس باللون الأحمر) للكاتبة أنيلدا الإبراهيمي، التي اعترفتْ مرارًا بأنَّها لا تكتبُ إلا ما تلتقطُهُ عيناها من بلدِها، أي تنقلُ بصدقٍ وتلقائيةٍ ما عاشته، وتُعيدُ تجميعَ ذكرياتِها، التي راكَمَتْها خلفَ الستائر المُسْدَلَةِ، قبل أنْ ترحلَ للدراسة في سويسرا، ثم تشتغلَ صحافيةً في إيطاليا، فتعودَّتْ أنْ تكونَ أمينةً في نقل الواقع، وصادقةً في وصفِهِ، بعيدًا عن الخيال الجامِح، وفي نفس الوقت، دقيقة في السرد، ساخرة من الوضع !
وبالمناسبة، فإنَّ عنوانَ ولوحةَ الغلاف، يرمزان إلى الأحمر، وهو أعلى درجة من الخوف . هذا اللون الذي يطغى على غالبيةِ النصوصِ الأدبيةِ لآخرين من كُتابٍ وكاتباتٍ، كأنه يُجَسِّد (شلالَ الدم) الذي شهدته ألبانيا في معاركِها عبر قرونٍ، لونُ علمِها الوطني، ولونُ التغيير الذي أحدثه النظامُ الستاليني . فتوظيف الأحمر في الأدب والحياة، له دلالالته التَّرميزية، اجتماعيا وسياسيا وتاريخيا . إنه لون يرتبط بالدم والنار، وبمعاني الجنس، والإرادة، والخطر، والحقد، والتوتر، والكراهية والفوضى. لون مليء بالعواطف الجياشةِ، التي تمتد من الحب إلى العنف، لتوتر المزاج وفقدانِهِ، والإثارة، والسلوكيات الخاطئة والمتعجرفة..كل ذلك، تعكسُهُ الرواية في صراعاتِ شخصياتِها : (يصل صباحَ يومٍ من شهرِ سبتمبر، في موسمٍ جافٍّ، حيث ينزلُ المطرُ ببطء . كانتْ ترتدي كلَّ شيء باللون الأحمر، كالدم تمامًا، مثلَ ذبيحةٍ بشريةٍ، تُقدَّمُ هديةً للآلهةِ، اِستجداءً واسترضاءً للمطر، كعروس) ! بهذا المقطعِ، تستهِلُّ الكاتبةُ أنيلدا روايتَها، التي تقتفي أثرَ تاريخ عائلةٍ،
من الحرب العالمية الثانية إلى سقوط جدار برلين، مع خلفيةِ بلدٍ أوروبي صغيرٍ، تخترقه تناقضاتٌ وثنائياتٌ شتى، حفرتْ فيه شروخا اجتماعيةً عميقةً، لم يندَمِلْ أثرُها على مَرِّ السنين !
وإذا كانتِ المرأةُ في ألبانيا، هي عجلةُ الحياةِ النشيطةِ، في العصر الحاضر، بدل الرجل، كما تؤكد الكاتبةُ، فإنَّ ذلك لم يأتِ بسهولةٍ بين عشيةٍ وضُحاها، كان فيها الرجلُ (سيدًا).. إنَّما بعد عناءٍ وشقاءٍ قاسيين، عانتهما في الماضي !
ولكي ترسمَ لنا لوحةً لهذه المعاناةِ، تعرِض موقفا مؤثرًا في الفصل الأول من الروايةِ : في ليلةِ زفافِها، تبكي الطفلةُ الضعيفةُ البِنْيةِ (سابا) البالغةُ من العمر خمسَ عشرةَ سنةً . تنتحبُ في سَريرَتِها، وتندُبُ حظَّها التعسَ، ملفوفةً في حجابِها الأحمر، تبلله الدموعُ التي تنهمر من عينيها الضيقتين، ولا أحد يشفق عليها، أو يسألُها ماذا أصابَها، ولِمَ كلُّ هذا البكاء والحزن في لحظةِ فرحِها، التي تتمناها كلُّ فتاةٍ؟!..فيما النغماتُ الموسيقيةُ تنثالُ من المزامير والطبول في قرية (كالترا) بجنوب ألبانيا، فيتردد صداها بين الجبالِ الشاهقةِ المحيطةِ بها . أفراد عائلتها يتقبلون التهاني والهدايا بوجوهٍ باشَّةٍ، وهي في حالةِ حُزْنٍ قويةٍ. لكنْ، ما الذي يستطيعون فعلَهُ، ولا الطفلةُ معهم، لأنَّ زواجَها من رجلٍ مُسِنٍّ، كان إجباريا وضروريا ل(تسديد دَيْنٍ) وإلا سيثأر الدائنُ من أسرتِها، كما تجري عاداتُهُمْ، وتُقِرُّ أعرافُهُمْ، منذ آلافِ السنين ؟!
فلكي تتفادى عائلتُها سلسلةً لا نهايَة لها من الثأر والثأر المضادِّ، تزوَّجتْ سابا بالدائنِ الكبيرِ السِّنِّ، حَقْنا للدماء . فلا جَدوى من العِنادِ والتحدِّي، ومقاومةِ نظامٍ اجتماعي تقليدي أقوى من طاقتها، ولا ننسى أنه صِهْرُ عائلتها، كان متزوجا بشقيقتها الكبرى (سلطانة) المتوفاة!
ستظل الطفلةُ تنتظر طوالَ الليلُ، حتى تُخْرَسَ الموسيقى، ويصْمُتَ المدعوون عن الغناء والرقص، فيحضر العريسُ ليرفعَ عنها حجابَها الأحمرَ!..لقدِ انتظرتْ وانتظرتْ بفارغ الصبر، حتى طلع الفجرُ، فأتى ذائخا مُعَرْبِدا، تتقاذفُهُ الجدرانُ، ثم انتصب واقفًا أمامَها . وبِما أنَّها لم تُعَبِّرْهُ، وظهر له من انحناءةِ رأسِها وبُكائِها أنَّها تَمْقُتُهُ، فقد شعر برجولتِهِ تنهارُ، فرفعَ كفَّهُ إلى أعلى، وانهال على خدِّها بصفعةٍ، ثم دفعها بغلظةٍ وشراسةٍ، فسقطتْ على الفراشِ، وألقى بجسمِهِ المترهِّلِ فوقها، يستعرض فُحولتَهُ، ويُبْرِز رُجولتَهُ، ثم يغتصبها، دون رغبتِها، تاركا سيلا من الدم، يلون الفراشَ واللباسَ بالأحمر ! وأما دورُ النساءِ، فتجلى في التَّلويحِ بالمَلاءةِ، التي لطَّخَها الدم . وتتعالى الزَّغاريدُ مُلَعْلِعةً، إيذانا ب(صلاحيةِ البضاعةِ) وأنَّها في مستوى الدَّيْن الذي على العائلة، أو تزيد عنه!..وأما سابا الطفلةُ النحيلةُ، فستستسلم للأمر الواقع، وتقبل بالوضْع مُرْغَمةً، مثلَ والديها (مليحة) و(حبيب) اللذين تزوجَّا، فأنجبا أربعةَ أولادٍ وخمسَ بناتٍ، جميعهم فتحوا أعينَهم، ونشأوا في منزلهم ذي (السقف الأحمر) !
كانتْ سابا الأخيرةَ، ابنةَ (النخالة) لكنها، أيضًا، الطفلةُ الوحيدةُ التي التحقتْ بالمدرسة، غير أنَّ عائلتَها أوقفتْها عن الدراسةِ، فمكانُها (الطبيعي) هو البيتُ و(تفريخ الأولاد أكثرَ من البناتِ) لأنَّ الأنثى (وصْمةُ عارٍ) تُربِّي الأطفالَ، وتطْهو الطعامَ فقط، ولا حاجةَ لها بالعلم والثقافة والأدب، وحتى اسمَها يختارُهُ كاتبُ الحالةِ المدنيةِ، لا الآباء، عكس الذكور..و(إذا بُشِّر أحدُهُمْ بالأنثى ظلَّ وجْهُهُ مُسْوَدًّا وهو كظيمٌ…)..لكنَّها لمْ ترفع الرايةَ البيضاءَ، صارتْ تنتقم بطريقتها الخاصةِ، إذ كانتْ، كلَّ يومٍ، تُهينُ شخصيةَ هذا الشيخ، فتجلبُ النوادرَ اللاسعةَ لكرامتِهِ، والحكاياتِ الحاطَّةَ من قَدْر رجولتِهِ، تجلُبُها من زوجةِ أبيها لتقصَّها عليهِ . وتبقى على هذا الحال، إلى أنْ تصبح أُمًّا، ذاتَ تجربةٍ حياتيةٍ طويلةٍ، فجدةً تحكي لأحفادِها أحاجِيَ وحكاياتٍ، لتستمرَّ الحياةُ، دون أدنى تغيير، وليستمر عذابُ المرأةِ الألبانيةِ، وهي ترزحُ من ثقلِ تقاليدَ وقوانينَ تسُنُّها العشائرُ…!
إن سابا شخصيةٌ رمزيةٌ في السرد الروائي، ومركزُ جاذبيتِهِ، تُبلور الماضي الأنثوي الذي ينتقل من الأم إلى الابنة إلى الحفيدة . وكل القصص الفرعيةِ تدور حولَها، بعضُها يبعثُ على السخرية، وبعضها الآخر يعكِسُ مآسي وآلاما مُمِضَّةً . وهما معا، أي (السخرية والمأساة) تُشَكِّلان قطعةً أساسيةً في فُسَيْفِساء ألبانيا . مثلا، تحكي قصةَ الشابةِ البيضاءِ، التي عشقتْ شابا سنغاليا، فترفض السلطةُ علاقتَهما، وإنْ كانتْ تتبجَّح بالمساواةِ بين الجنسين . إلا أنَّ القضيةَ، ستأخذ أبعادا، عندما يُنجبان طفلا مزيجًا بين اللونين، والعرقين الألباني والسنغالي . وبالرغم من مرور عقود، تظل القريةُ على حالِها، حاضنةً عاداتِها وتقاليدَها الاجتماعيةَ…إلى أنْ يأتي العهدُ الستاليني بزعامةِ (أنور خليل خوجة) فتواصل (دورا) حفيدةُ سابا السَّرْدَ . لكنها تشهد عصرا آخرَ، غيرَ عصرِ جدتِها، لأنَّ الأيديولوجيةَ الشيوعيةَ الحمراءَ، ظهرتْ لتخلصَ المجتمعَ المُغْلَقَ، فترسَّخَتْ قيمُ ورؤى أخرى في الحياةِ اليوميةِ للألبانيين . ولم تحققْ هذا التطور، إلا بفوضى (جرى فيها الدم) ذهب ضحيتَها العديدُ من الْحَرَسِ القديمِ !
النساءُ شرعْنَ في تحرير أنفسِهِنَّ من رِبْقةِ الأفكارِ والطقوسِ الباليةِ، يتمثَّلْن في الحفيدةِ، التي تولد بعد سبعين سنةً، لتهاجرَ من القريةِ إلى (تيرانا) العاصمةِ، فتحلم بالرحيلِ إلى دولةٍ أوروبيةٍ، كي تعيشَ حياتَها كما تريدُ، وتبني مستقبلَها بإرادتِها ورغبتِها، لا يتحكَّمُ فيها الآخر، ولو كان أباها أو أمَّها !
في الفصل الثاني، ستصمتُ الجدةُ سابا، وستودِّعُ عهدًا أليمًا عاشتْهُ، لتتركَ الفرصةَ لحفيدتِها (دورا) تعيش عهدَها الجديدَ، وتروي ما شاهدتْهُ في بلدِها، من سقوط الشيوعيةِ، وبروز مستقبلٍ غامضٍ لجيلٍ يطمحُ للتغيير والتطوير . فهل كانتِ الكاتبةُ، هي الحفيدةُ، التي رحلتْ إلى سويسرا فإيطاليا، هروبا من الاضطراباتِ التي عرفتْها الساحةُ الألبانيةُ، والعالمُ الذاتيةَ، دون أنْ تدري؟!
هذا ما يبدو للمتلقي من ثنايا الأحداث والوقائع التي تسردُها . لقد كان القلقُ سائدًا، ينخُر جسدَ البلدِ، سواء في مرحلةِ سفر الكاتبةِ، أو مرحلةِ بطلتِها دورا، لهذا تقول: (بدا أنَّ السنواتِ الأولى التي أعقبتِ التغييرَ، تفلتُ من أيدينا دون الالتفاتِ إلى الماضي . لكنْ، لا أعلمُ ما إذا كنا نتقدم حقًّا. مَنْ مِنَّا كان يستطيعُ أنْ يفهَمَ شيئا؟!).
تحرَّرَ الألبانُ اليومَ، فأداروا ظهورَهُمْ للطقوس المُحْبِطةِ لحركة التطور والرقي . بل أصبحوا يتعاملون مع كل العادات القديمة والحديثة، بصدورٍ رحبةٍ . لا يتقيدون بها، ولا تُلْزِمُهُمْ بشيءٍ . بل حتى في الدِّين، أصبحوا يوفقون بين المعتقداتِ الصحيحةِ السليمةِ، المستوحاةِ من الأديان والعقائد والمذاهب . فحين يُساورُ أحدَهُمُ الشَّكُّ، يراعي كلَّ المعتقداتِ الدينيةِ، وينتقي منها ما يُلائمُهُ، ولا يُضِر بقناعاتِهِ نفسَهُ أو سِواهُ . أستحضر، نموذجا، مشهدا غيرَ عاديٍّ، حكته سابا لحفيدتِها دورا : جاؤوا بجثةِ مسلم ليدفنوها . لكن، أين الإمام؟!..في لحظةٍ، ظهر كاهِنٌ أرثوذكسي، وهو يتلو بصوته العذبِ آياتٍ قرآنيةً كريمةً، يتلوها بثقةٍ وطيبةٍ على الجثة في قريةٍ منعزلةٍ، لأنَّ الإمامَ لم يستطعْ أنْ يؤدي صلاةَ الجنازةِ، نظرًا لتراكُمِ الثلجِ على الطريقِ . ولم يعارِضْ أحدٌ هذا الموقفَ ((قصة حقيقية روتْها لي جدتي)) : تقول سابا لحفيدتِها، التي تحيا في أوروبا!..وهذا المشهد، يدل على ملاحظتنا الآنفةِ، المتعلقةِ بالعقليةِ الألبانيةِ، التي تُطْلِقُ العِنانَ للتفكير والحركةِ في أي اتِّجاهٍ، ما دامتْ هناك فوائدُ تُجْتنى!
ومشهد آخر، أكثرُ غرابةً من الأول، تروي الجدةُ لحفيدتِها بعضَ خصائص الشخصيةِ الألبانيةِ، فتذكر: (في البداية، تحولنا من وثنيين إلى مسيحيين، وكان لدينا حتى البابا الخاص بنا : العالم كليمنت الحادي عشر. ثم أتى دور المسلمين السنة ودراويش بكتاشي . لا يبدو أن هذا يثير قلقَ أيِّ شخصٍ ، يمكنك تغيير دينك في أي وقتٍ تشائين)!
رواية (العروس باللون الأحمر) وإنْ كانتْ تُباشرُ وضعيةَ العائلةِ الألبانيةِ وطقوسَها، خصوصا المرأةَ، فإنَّ فصليْها عالمان مختلفان . ففي الأول، نلحظ صوتَ الراوي قصصيا وشعريا، مجهولَ الهويةِ، أي يُروى بضمير الغائب، فيركزُ على المعنى، ويوجِزُ في التعبير، ويختصر القولَ . بينما الفصل الثاني، يُرْوى بضمير المتكلم، بطلته دورا، وهنا سيختفي فيه النَّفَسُ الشعري، كما لاحظنا في الأول، ليفتحَ المجالُ لحكي القصص والنوادر والوقائع.
نحن على يقينٍ أنَّ الكثيرين سينظرون بحزنٍ وتأسٍّ إلى موضوعةِ هذه الروايةِ، المُضَمَّخةِ باللونِ الأحمرِ، لأنَّها تحتوي على مشاهدَ مُنتقاةٍ، تُداس فيها كرامةُ المرأةِ، وهذا بالفعلِ يدعو إلى الألم الشديدِ . لكنَّ القراءةَ المتأنيةَ لها، ستُبْدي أنَّ لها سحرًا، يتجلى في سردِها الجميلِ، الذي يُبْهِر المتلقي بغنائيتِهِ أو شاعريتِهِ، ودِقَّةِ وَصْفِهِ، وروعةِ دُعاباتِهِ، الْمُضيئةِ بالاستعاراتِ القويةِ الوَقْعِ . وهذا يرجع إلى أنَّ أنيلدا، فضلا عن أنَّها قاصةٌ وروائيةٌ، هي شاعرةٌ، ما جعلها ترسمُ خلفيةً لسردِها، يتميز بالتعابير الصائبةِ، والألفاظ الدقيقةِ، والاقتصاد في اللغة، والتركيز على كثافتِها . فالقارئَ لا يَمَلُّ، ولا يشعر بالفتورِ، لأنَّ الروايةَ مليئةٌ بالقصص الممتعةِ، والنوادر الباعثةِ على السخريةِ والاستهزاء، واللقطاتِ الذكيةِ..وغالبا ما تكون هذه القصص، أو إذا شئنا أنْ نجنِّسَها تجنيسا دقيقا، نقول إنَّها أقصوصاتٌ، لا تتعدى مساحتُها فقرةً أو فقرتين، تأخذ بيد القارئ إلى الأمام، دون تيه أو تدفقٍ غامضٍ للوعي، فتشكِّل جميعُها لُحْمةَ وسَدى المضمونِ الروائي . ويمضي السرد بأسلوب لا يراعي التسلسلَ الزمني، إنما يسير طولا حينا، ينعطف حينا آخرَ، من خلال القصص والحكايات، والمصائر البشرية : ولادات، وفيات، انتقامات، أسفار، حفلات..مثل ما تكتبه أنيلدا : ((مرَّ الوقتُ في كالترا ببطء . بقيتْ أرواح بشرية بأكملها في شبكة من الصمت اللامتناهي في الجبال . لقد كسرتها، فقط، ولولةُ الأشجار المتمايلة في مهب الريح)) !
وخاصيةٌ أخرى، وهي أنَّ أسلوبَها، كي يكتسي صبغتَهُ الواقعيةَ، يستقي أحاديثَ شفهيةً وتعابيرَ متداولةً في الحوار اليومي السائر، قائمةً على الثناء والإطراء، والشتيمة والذم، ما يُشْعِر القارئَ بالمحيطِ الاجتماعي الألباني. مثلا، عندما تغضب الأختُ من سابا، تخاطبُها : (عسى أن يتحول حليبُ الثدي الذي نرضعه إلى حرام في معدتك)!.. وعندما يُقالُ إنَّ سابا وُلِدتْ كنجمة المساء، تسخر الحَماةُ : (الفتاةُ مثلَ الأرملةِ في قَعْرِ كيسٍ)!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.