كندا تختار المغرب أول بلد في العالم لتجربة التأشيرة الرقمية!    ريال مدريد يواصل هدر النقاط وبرشلونة يقتنص صدارة الليغا    إيغامان يهدي الانتصار إلى نادي ليل    مرتفعات الريف تكتسي حلة بيضاء بعد تساقطات ثلجية (صور)    استنفار أمني بعد العثور على جثث أسرة كاملة بأحد السوالم    شنوف يتباحث مع مسؤولين أردنيين    فضائح الأدوية تضع وزراء الصفقات الكبرى تحت المجهر    المنتخب المغربي النسوي U20 يهزم الأردن بثلاثية ويتأهل لنهائي اتحاد شمال إفريقيا    المهرجان الدولي للفيلم بمراكش: فيرجيني إيفيرا وكيارا ماستروياني تدعوان إلى سينما حرة ومتحررة من هاجس الربح المادي    بنكيران: حكومة العثماني كانت "معاقة" ولفتيت أصبح وزيرا لأنه "تدابز" مع "البيجيدي" وأخذوا منا حوالي 30 مقعدا    591 خرقًا إسرائيليًا لوقف النار في غزة    البواري: إصلاحات أخنوش أنقذت الفلاحة والمغرب مقبل على طفرة مائية غير مسبوقة    نتنياهو يطلب العفو رسمياً من رئيس الدولة    تحويلات الجالية المقيمة بالخارج تسجل رقما قياسيا جديدا    شوكي يهاجم : فوبيا اسمها التجمع الوطني للأحرار... والحزب يسير ولا يزحزحه أحد    أخنوش: الحكومة لم تعد تكتفي بتدبير نقص المياه ولكنها تجد حلولا جذرية وطويلة المدى لتأمين الموارد    يوسف ميهري خارج حسابات المغرب في كأس العرب واسم لامع يشارك بدلًا منه!    صاحب السمو الملكي الأمير مولاي رشيد يترأس حفل عشاء أقامه جلالة الملك بمناسبة الافتتاح الرسمي للدورة 22 للمهرجان الدولي للفيلم بمراكش    توقعات بارتفاع حجم الاستثمارات الإسبانية في طنجة خلال منتدى مدريد المرتقب    أخنوش يكشف أرقامًا مبشرة حول الزيتون والدعم للفلاحين    انتخاب خالد العلمي الهوير كاتبا عاما جديدا للكونفدرالية الديمقراطية للشغل    عبد الرحمن الصناغي يُكرَّم بالدكتوراه الفخرية تقديراً لجهوده في تطوير التعاون الرياضي والثقافي بين الصين وإفريقيا    أخنوش من تيسة: مسار الإنجازات يقترب من المواطنين... و2026 سنة الحسم في بناء الدولة الاجتماعية    توقيف المعارضة التونسية شيماء عيسى تنفيذا لحكم ضدها بالسجن 20 عاما    بركة في أسبوع التضامن: المغرب ثابت في دعم فلسطين ورسالة الملك خارطة طريق لحل عادل ودائم    أكاديمية المملكة تنصب 7 أعضاء جدد    ثورة منتظرة في بث "الكان".. وكاميرات عنكبوتية بإشراف دولي غير مسبوق    أخنوش: نجوب كل مناطق المغرب لنقترب من واقع المواطنين ونستمع لمتطلباتهم حتى نضمن لهم حياة أفضل    االجامعة الوطنية للصحة تستنكر "الأزمة الخانقة" داخل الوكالة المغربية للأدوية وتحذّر من تهديد استقرار المنظومة الصحية    اختتام مهرجان الدوحة السينمائي 2025    في جلسة نقاشية حول بناء منظومة سينمائية إقليمية مستدامة تؤكد على أهمية تعزيز التعاون:    فيلم "الخرطوم" يثير شعوراً قوياً بالوحدة بين الجمهور السوداني في مهرجان الدوحة السينمائي    الاستثمارات الأجنبية المباشرة بالمغرب تتجاوز 27 مليار درهم        النيابة العامة تُلزم بتحديد تاريخ ارتكاب الجريمة في أوامر الإيداع بالسجن    قافلة كان المغرب 2025 تنطلق في جولة من لندن في غياب تمثيلية مغربية        إدارية فاس تحدد تاريخ النطق بالحكم في طلب عزل رئيس جماعة تارجيست    ترامب يعلن إغلاق المجال الجوي الفنزويلي وكراكاس تندد: "هذا تهديد استعماري"    الصين/آسيان: إطلاق قاعدة للابتكار لتعزيز التعاون في الصناعات الناشئة    أخنوش: تأمين الماء أولوية وطنية ومشروع الربط المائي أنقذ 12 مليون مغربي من العطش    اعتماد الزاهيدي: حزب الأحرار خلق دينامية غير لا يمكن المزايدة بشأنها    الجماعة الترابية للبئر الجديد تفنّد إشاعات عزل رئيسها وتؤكد استمرار عمله بشكل طبيعي    إحباط محاولة للهجرة السرية بجماعة أولاد غانم إقليم الجديدة بتنسيق أمني محكم    لقاء يناقش كتاب "إمارة المؤمنين"    إصابة سيدة بحروق في اندلاع حريق داخل شقة سكنية بطنجة بسبب تسرب غاز    مراكش تحتفي بأيقونة السينما الأمريكية جودي فوستر    جامعة غزة تخرج من تحت الأنقاض وتعيد طلابها إلى مقاعد الدراسة بعد عامين من حرب الإبادة (صور)    تحديد فترة التسجيل الإلكتروني لموسم حج 1448ه    منظمة الصحة العالمية تدعو لتوفير علاج العقم بتكلفة معقولة ضمن أنظمة الصحة الوطنية    منظمة الصحة العالمية تنشر للمرة الأولى توجيهات لمكافحة العقم    المغرب .. 400 وفاة و990 إصابة جديدة بالسيدا سنويا    الأوقاف تكشف عن آجال التسجيل الإلكتروني لموسم الحج 1448ه    موسم حج 1448ه.. تحديد فترة التسجيل الإلكتروني من 8 إلى 19 دجنبر 2025    موسم حج 1448ه... تحديد فترة التسجيل الإلكتروني من 8 إلى 19 دجنبر 2025    بعد ‬تفشيها ‬في ‬إثيوبيا.. ‬حمى ‬ماربورغ ‬تثير ‬مخاوف ‬المغاربة..‬    علماء يكتشفون طريقة وقائية لإبطاء فقدان البصر المرتبط بالعمر    إصدار جديد من سلسلة تراث فجيج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"العروس باللون الأحمر"دلالة اللون في الأدب والحياة!
نشر في بيان اليوم يوم 26 - 11 - 2020

ها أنت، الآن، تمتطي سفينةً، تعبُر بك البحرَ الهادئَ، فعن يمينك ترى إيطاليا، وعن يسارك ألبانيا. لكنك عندما تدنو من الميناء، ستقابلك مدينةُ (دوريسْ) الألبانيةُ، وتشاهد سربا من الدلافين يحييك من بعيدٍ!
ولك أنْ تسألَ مستغربًا: ما الذي يجعلنا نقرنُ، في بدايةِ قراءتِنا، ألبانيا بالبحر؟!
لقد قيل منذ القديم، وما زال هذا القولُ جاريا: إنَّ العقليةَ الألبانيةَ تتغير بين الفينةِ والأخرى، مثل البحر في المد والجزر؛ فهي تارة تميل إلى الغرب، وتارة إلى الشرق، لا تدري أيَّهُما تُفَضِّل، أو على الأقل، مع مَنْ تبني علاقاتٍ متوازنةً!
ولفَكِّ هذا اللغز، تحاول الكاتبةُ الألبانيةُ (أنيلدا الإبراهيمي) في العديد من رواياتها أنْ تغوصَ بك في بحر مجتمع هذا البلد القديم الجديد، لتُشَرِّحَ أوضاعَهُ الاجتماعيةَ والسياسيةَ والثقافيةَ، وبالتالي، عقليةَ أهْلِهِ المتقلِّبةَ!
رُبَّما يعود هذا النَّهجُ إلى ما عرفتْهُ ألبانيا من حروبٍ طاحنةٍ، رومانية وبيزنطية وعثمانية وأوروبية، كما ظلتْ أرضًا للصراعاتِ والتجاذلاتِ بين الدول، والنزاعاتِ المُحتدمةِ بين القرى، التي تتقاذفها القومياتُ يمينا وشمالا إلى سنة 1989.. كل ذلك، جعل الإنسانَ الألباني يجنحُ إلى القوي، في لحظةِ ضعفِهِ، كي يظلَّ على قَيْدِ الحياةِ، ويُحافظَ على ذُرِّيتِهِ وثروتِهِ، فلم يجدْ أمامَهُ إلا هذا الأسلوبَ الواقعي (في رأيِه)!
سنلجُ عالمَ المجتمع الألباني، عبر رواية (العروس باللون الأحمر) للكاتبة أنيلدا الإبراهيمي، التي اعترفتْ مرارًا بأنَّها لا تكتبُ إلا ما تلتقطُهُ عيناها من بلدِها، أي تنقلُ بصدقٍ وتلقائيةٍ ما عاشته، وتُعيدُ تجميعَ ذكرياتِها، التي راكَمَتْها خلفَ الستائر المُسْدَلَةِ، قبل أنْ ترحلَ للدراسة في سويسرا، ثم تشتغلَ صحافيةً في إيطاليا، فتعودَّتْ أنْ تكونَ أمينةً في نقل الواقع، وصادقةً في وصفِهِ، بعيدًا عن الخيال الجامِح، وفي نفس الوقت، دقيقة في السرد، ساخرة من الوضع !
وبالمناسبة، فإنَّ عنوانَ ولوحةَ الغلاف، يرمزان إلى الأحمر، وهو أعلى درجة من الخوف . هذا اللون الذي يطغى على غالبيةِ النصوصِ الأدبيةِ لآخرين من كُتابٍ وكاتباتٍ، كأنه يُجَسِّد (شلالَ الدم) الذي شهدته ألبانيا في معاركِها عبر قرونٍ، لونُ علمِها الوطني، ولونُ التغيير الذي أحدثه النظامُ الستاليني . فتوظيف الأحمر في الأدب والحياة، له دلالالته التَّرميزية، اجتماعيا وسياسيا وتاريخيا . إنه لون يرتبط بالدم والنار، وبمعاني الجنس، والإرادة، والخطر، والحقد، والتوتر، والكراهية والفوضى. لون مليء بالعواطف الجياشةِ، التي تمتد من الحب إلى العنف، لتوتر المزاج وفقدانِهِ، والإثارة، والسلوكيات الخاطئة والمتعجرفة..كل ذلك، تعكسُهُ الرواية في صراعاتِ شخصياتِها : (يصل صباحَ يومٍ من شهرِ سبتمبر، في موسمٍ جافٍّ، حيث ينزلُ المطرُ ببطء . كانتْ ترتدي كلَّ شيء باللون الأحمر، كالدم تمامًا، مثلَ ذبيحةٍ بشريةٍ، تُقدَّمُ هديةً للآلهةِ، اِستجداءً واسترضاءً للمطر، كعروس) ! بهذا المقطعِ، تستهِلُّ الكاتبةُ أنيلدا روايتَها، التي تقتفي أثرَ تاريخ عائلةٍ،
من الحرب العالمية الثانية إلى سقوط جدار برلين، مع خلفيةِ بلدٍ أوروبي صغيرٍ، تخترقه تناقضاتٌ وثنائياتٌ شتى، حفرتْ فيه شروخا اجتماعيةً عميقةً، لم يندَمِلْ أثرُها على مَرِّ السنين !
وإذا كانتِ المرأةُ في ألبانيا، هي عجلةُ الحياةِ النشيطةِ، في العصر الحاضر، بدل الرجل، كما تؤكد الكاتبةُ، فإنَّ ذلك لم يأتِ بسهولةٍ بين عشيةٍ وضُحاها، كان فيها الرجلُ (سيدًا).. إنَّما بعد عناءٍ وشقاءٍ قاسيين، عانتهما في الماضي !
ولكي ترسمَ لنا لوحةً لهذه المعاناةِ، تعرِض موقفا مؤثرًا في الفصل الأول من الروايةِ : في ليلةِ زفافِها، تبكي الطفلةُ الضعيفةُ البِنْيةِ (سابا) البالغةُ من العمر خمسَ عشرةَ سنةً . تنتحبُ في سَريرَتِها، وتندُبُ حظَّها التعسَ، ملفوفةً في حجابِها الأحمر، تبلله الدموعُ التي تنهمر من عينيها الضيقتين، ولا أحد يشفق عليها، أو يسألُها ماذا أصابَها، ولِمَ كلُّ هذا البكاء والحزن في لحظةِ فرحِها، التي تتمناها كلُّ فتاةٍ؟!..فيما النغماتُ الموسيقيةُ تنثالُ من المزامير والطبول في قرية (كالترا) بجنوب ألبانيا، فيتردد صداها بين الجبالِ الشاهقةِ المحيطةِ بها . أفراد عائلتها يتقبلون التهاني والهدايا بوجوهٍ باشَّةٍ، وهي في حالةِ حُزْنٍ قويةٍ. لكنْ، ما الذي يستطيعون فعلَهُ، ولا الطفلةُ معهم، لأنَّ زواجَها من رجلٍ مُسِنٍّ، كان إجباريا وضروريا ل(تسديد دَيْنٍ) وإلا سيثأر الدائنُ من أسرتِها، كما تجري عاداتُهُمْ، وتُقِرُّ أعرافُهُمْ، منذ آلافِ السنين ؟!
فلكي تتفادى عائلتُها سلسلةً لا نهايَة لها من الثأر والثأر المضادِّ، تزوَّجتْ سابا بالدائنِ الكبيرِ السِّنِّ، حَقْنا للدماء . فلا جَدوى من العِنادِ والتحدِّي، ومقاومةِ نظامٍ اجتماعي تقليدي أقوى من طاقتها، ولا ننسى أنه صِهْرُ عائلتها، كان متزوجا بشقيقتها الكبرى (سلطانة) المتوفاة!
ستظل الطفلةُ تنتظر طوالَ الليلُ، حتى تُخْرَسَ الموسيقى، ويصْمُتَ المدعوون عن الغناء والرقص، فيحضر العريسُ ليرفعَ عنها حجابَها الأحمرَ!..لقدِ انتظرتْ وانتظرتْ بفارغ الصبر، حتى طلع الفجرُ، فأتى ذائخا مُعَرْبِدا، تتقاذفُهُ الجدرانُ، ثم انتصب واقفًا أمامَها . وبِما أنَّها لم تُعَبِّرْهُ، وظهر له من انحناءةِ رأسِها وبُكائِها أنَّها تَمْقُتُهُ، فقد شعر برجولتِهِ تنهارُ، فرفعَ كفَّهُ إلى أعلى، وانهال على خدِّها بصفعةٍ، ثم دفعها بغلظةٍ وشراسةٍ، فسقطتْ على الفراشِ، وألقى بجسمِهِ المترهِّلِ فوقها، يستعرض فُحولتَهُ، ويُبْرِز رُجولتَهُ، ثم يغتصبها، دون رغبتِها، تاركا سيلا من الدم، يلون الفراشَ واللباسَ بالأحمر ! وأما دورُ النساءِ، فتجلى في التَّلويحِ بالمَلاءةِ، التي لطَّخَها الدم . وتتعالى الزَّغاريدُ مُلَعْلِعةً، إيذانا ب(صلاحيةِ البضاعةِ) وأنَّها في مستوى الدَّيْن الذي على العائلة، أو تزيد عنه!..وأما سابا الطفلةُ النحيلةُ، فستستسلم للأمر الواقع، وتقبل بالوضْع مُرْغَمةً، مثلَ والديها (مليحة) و(حبيب) اللذين تزوجَّا، فأنجبا أربعةَ أولادٍ وخمسَ بناتٍ، جميعهم فتحوا أعينَهم، ونشأوا في منزلهم ذي (السقف الأحمر) !
كانتْ سابا الأخيرةَ، ابنةَ (النخالة) لكنها، أيضًا، الطفلةُ الوحيدةُ التي التحقتْ بالمدرسة، غير أنَّ عائلتَها أوقفتْها عن الدراسةِ، فمكانُها (الطبيعي) هو البيتُ و(تفريخ الأولاد أكثرَ من البناتِ) لأنَّ الأنثى (وصْمةُ عارٍ) تُربِّي الأطفالَ، وتطْهو الطعامَ فقط، ولا حاجةَ لها بالعلم والثقافة والأدب، وحتى اسمَها يختارُهُ كاتبُ الحالةِ المدنيةِ، لا الآباء، عكس الذكور..و(إذا بُشِّر أحدُهُمْ بالأنثى ظلَّ وجْهُهُ مُسْوَدًّا وهو كظيمٌ…)..لكنَّها لمْ ترفع الرايةَ البيضاءَ، صارتْ تنتقم بطريقتها الخاصةِ، إذ كانتْ، كلَّ يومٍ، تُهينُ شخصيةَ هذا الشيخ، فتجلبُ النوادرَ اللاسعةَ لكرامتِهِ، والحكاياتِ الحاطَّةَ من قَدْر رجولتِهِ، تجلُبُها من زوجةِ أبيها لتقصَّها عليهِ . وتبقى على هذا الحال، إلى أنْ تصبح أُمًّا، ذاتَ تجربةٍ حياتيةٍ طويلةٍ، فجدةً تحكي لأحفادِها أحاجِيَ وحكاياتٍ، لتستمرَّ الحياةُ، دون أدنى تغيير، وليستمر عذابُ المرأةِ الألبانيةِ، وهي ترزحُ من ثقلِ تقاليدَ وقوانينَ تسُنُّها العشائرُ…!
إن سابا شخصيةٌ رمزيةٌ في السرد الروائي، ومركزُ جاذبيتِهِ، تُبلور الماضي الأنثوي الذي ينتقل من الأم إلى الابنة إلى الحفيدة . وكل القصص الفرعيةِ تدور حولَها، بعضُها يبعثُ على السخرية، وبعضها الآخر يعكِسُ مآسي وآلاما مُمِضَّةً . وهما معا، أي (السخرية والمأساة) تُشَكِّلان قطعةً أساسيةً في فُسَيْفِساء ألبانيا . مثلا، تحكي قصةَ الشابةِ البيضاءِ، التي عشقتْ شابا سنغاليا، فترفض السلطةُ علاقتَهما، وإنْ كانتْ تتبجَّح بالمساواةِ بين الجنسين . إلا أنَّ القضيةَ، ستأخذ أبعادا، عندما يُنجبان طفلا مزيجًا بين اللونين، والعرقين الألباني والسنغالي . وبالرغم من مرور عقود، تظل القريةُ على حالِها، حاضنةً عاداتِها وتقاليدَها الاجتماعيةَ…إلى أنْ يأتي العهدُ الستاليني بزعامةِ (أنور خليل خوجة) فتواصل (دورا) حفيدةُ سابا السَّرْدَ . لكنها تشهد عصرا آخرَ، غيرَ عصرِ جدتِها، لأنَّ الأيديولوجيةَ الشيوعيةَ الحمراءَ، ظهرتْ لتخلصَ المجتمعَ المُغْلَقَ، فترسَّخَتْ قيمُ ورؤى أخرى في الحياةِ اليوميةِ للألبانيين . ولم تحققْ هذا التطور، إلا بفوضى (جرى فيها الدم) ذهب ضحيتَها العديدُ من الْحَرَسِ القديمِ !
النساءُ شرعْنَ في تحرير أنفسِهِنَّ من رِبْقةِ الأفكارِ والطقوسِ الباليةِ، يتمثَّلْن في الحفيدةِ، التي تولد بعد سبعين سنةً، لتهاجرَ من القريةِ إلى (تيرانا) العاصمةِ، فتحلم بالرحيلِ إلى دولةٍ أوروبيةٍ، كي تعيشَ حياتَها كما تريدُ، وتبني مستقبلَها بإرادتِها ورغبتِها، لا يتحكَّمُ فيها الآخر، ولو كان أباها أو أمَّها !
في الفصل الثاني، ستصمتُ الجدةُ سابا، وستودِّعُ عهدًا أليمًا عاشتْهُ، لتتركَ الفرصةَ لحفيدتِها (دورا) تعيش عهدَها الجديدَ، وتروي ما شاهدتْهُ في بلدِها، من سقوط الشيوعيةِ، وبروز مستقبلٍ غامضٍ لجيلٍ يطمحُ للتغيير والتطوير . فهل كانتِ الكاتبةُ، هي الحفيدةُ، التي رحلتْ إلى سويسرا فإيطاليا، هروبا من الاضطراباتِ التي عرفتْها الساحةُ الألبانيةُ، والعالمُ الذاتيةَ، دون أنْ تدري؟!
هذا ما يبدو للمتلقي من ثنايا الأحداث والوقائع التي تسردُها . لقد كان القلقُ سائدًا، ينخُر جسدَ البلدِ، سواء في مرحلةِ سفر الكاتبةِ، أو مرحلةِ بطلتِها دورا، لهذا تقول: (بدا أنَّ السنواتِ الأولى التي أعقبتِ التغييرَ، تفلتُ من أيدينا دون الالتفاتِ إلى الماضي . لكنْ، لا أعلمُ ما إذا كنا نتقدم حقًّا. مَنْ مِنَّا كان يستطيعُ أنْ يفهَمَ شيئا؟!).
تحرَّرَ الألبانُ اليومَ، فأداروا ظهورَهُمْ للطقوس المُحْبِطةِ لحركة التطور والرقي . بل أصبحوا يتعاملون مع كل العادات القديمة والحديثة، بصدورٍ رحبةٍ . لا يتقيدون بها، ولا تُلْزِمُهُمْ بشيءٍ . بل حتى في الدِّين، أصبحوا يوفقون بين المعتقداتِ الصحيحةِ السليمةِ، المستوحاةِ من الأديان والعقائد والمذاهب . فحين يُساورُ أحدَهُمُ الشَّكُّ، يراعي كلَّ المعتقداتِ الدينيةِ، وينتقي منها ما يُلائمُهُ، ولا يُضِر بقناعاتِهِ نفسَهُ أو سِواهُ . أستحضر، نموذجا، مشهدا غيرَ عاديٍّ، حكته سابا لحفيدتِها دورا : جاؤوا بجثةِ مسلم ليدفنوها . لكن، أين الإمام؟!..في لحظةٍ، ظهر كاهِنٌ أرثوذكسي، وهو يتلو بصوته العذبِ آياتٍ قرآنيةً كريمةً، يتلوها بثقةٍ وطيبةٍ على الجثة في قريةٍ منعزلةٍ، لأنَّ الإمامَ لم يستطعْ أنْ يؤدي صلاةَ الجنازةِ، نظرًا لتراكُمِ الثلجِ على الطريقِ . ولم يعارِضْ أحدٌ هذا الموقفَ ((قصة حقيقية روتْها لي جدتي)) : تقول سابا لحفيدتِها، التي تحيا في أوروبا!..وهذا المشهد، يدل على ملاحظتنا الآنفةِ، المتعلقةِ بالعقليةِ الألبانيةِ، التي تُطْلِقُ العِنانَ للتفكير والحركةِ في أي اتِّجاهٍ، ما دامتْ هناك فوائدُ تُجْتنى!
ومشهد آخر، أكثرُ غرابةً من الأول، تروي الجدةُ لحفيدتِها بعضَ خصائص الشخصيةِ الألبانيةِ، فتذكر: (في البداية، تحولنا من وثنيين إلى مسيحيين، وكان لدينا حتى البابا الخاص بنا : العالم كليمنت الحادي عشر. ثم أتى دور المسلمين السنة ودراويش بكتاشي . لا يبدو أن هذا يثير قلقَ أيِّ شخصٍ ، يمكنك تغيير دينك في أي وقتٍ تشائين)!
رواية (العروس باللون الأحمر) وإنْ كانتْ تُباشرُ وضعيةَ العائلةِ الألبانيةِ وطقوسَها، خصوصا المرأةَ، فإنَّ فصليْها عالمان مختلفان . ففي الأول، نلحظ صوتَ الراوي قصصيا وشعريا، مجهولَ الهويةِ، أي يُروى بضمير الغائب، فيركزُ على المعنى، ويوجِزُ في التعبير، ويختصر القولَ . بينما الفصل الثاني، يُرْوى بضمير المتكلم، بطلته دورا، وهنا سيختفي فيه النَّفَسُ الشعري، كما لاحظنا في الأول، ليفتحَ المجالُ لحكي القصص والنوادر والوقائع.
نحن على يقينٍ أنَّ الكثيرين سينظرون بحزنٍ وتأسٍّ إلى موضوعةِ هذه الروايةِ، المُضَمَّخةِ باللونِ الأحمرِ، لأنَّها تحتوي على مشاهدَ مُنتقاةٍ، تُداس فيها كرامةُ المرأةِ، وهذا بالفعلِ يدعو إلى الألم الشديدِ . لكنَّ القراءةَ المتأنيةَ لها، ستُبْدي أنَّ لها سحرًا، يتجلى في سردِها الجميلِ، الذي يُبْهِر المتلقي بغنائيتِهِ أو شاعريتِهِ، ودِقَّةِ وَصْفِهِ، وروعةِ دُعاباتِهِ، الْمُضيئةِ بالاستعاراتِ القويةِ الوَقْعِ . وهذا يرجع إلى أنَّ أنيلدا، فضلا عن أنَّها قاصةٌ وروائيةٌ، هي شاعرةٌ، ما جعلها ترسمُ خلفيةً لسردِها، يتميز بالتعابير الصائبةِ، والألفاظ الدقيقةِ، والاقتصاد في اللغة، والتركيز على كثافتِها . فالقارئَ لا يَمَلُّ، ولا يشعر بالفتورِ، لأنَّ الروايةَ مليئةٌ بالقصص الممتعةِ، والنوادر الباعثةِ على السخريةِ والاستهزاء، واللقطاتِ الذكيةِ..وغالبا ما تكون هذه القصص، أو إذا شئنا أنْ نجنِّسَها تجنيسا دقيقا، نقول إنَّها أقصوصاتٌ، لا تتعدى مساحتُها فقرةً أو فقرتين، تأخذ بيد القارئ إلى الأمام، دون تيه أو تدفقٍ غامضٍ للوعي، فتشكِّل جميعُها لُحْمةَ وسَدى المضمونِ الروائي . ويمضي السرد بأسلوب لا يراعي التسلسلَ الزمني، إنما يسير طولا حينا، ينعطف حينا آخرَ، من خلال القصص والحكايات، والمصائر البشرية : ولادات، وفيات، انتقامات، أسفار، حفلات..مثل ما تكتبه أنيلدا : ((مرَّ الوقتُ في كالترا ببطء . بقيتْ أرواح بشرية بأكملها في شبكة من الصمت اللامتناهي في الجبال . لقد كسرتها، فقط، ولولةُ الأشجار المتمايلة في مهب الريح)) !
وخاصيةٌ أخرى، وهي أنَّ أسلوبَها، كي يكتسي صبغتَهُ الواقعيةَ، يستقي أحاديثَ شفهيةً وتعابيرَ متداولةً في الحوار اليومي السائر، قائمةً على الثناء والإطراء، والشتيمة والذم، ما يُشْعِر القارئَ بالمحيطِ الاجتماعي الألباني. مثلا، عندما تغضب الأختُ من سابا، تخاطبُها : (عسى أن يتحول حليبُ الثدي الذي نرضعه إلى حرام في معدتك)!.. وعندما يُقالُ إنَّ سابا وُلِدتْ كنجمة المساء، تسخر الحَماةُ : (الفتاةُ مثلَ الأرملةِ في قَعْرِ كيسٍ)!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.