أخرباش تشيد بوجاهة القرار الأممي بشأن الذكاء الاصطناعي الذي جاء بمبادرة من المغرب والولايات المتحدة    تعزيز التعاون الفلاحي محور مباحثات صديقي مع نائبة رئيسة مجلس النواب التشيكي    اتفاقية الصيد البحري..حجر ثقيل في حذاء علاقات إسبانيا والمغرب!    ما هو سيناريو رون آراد الذي حذر منه أبو عبيدة؟    الرئيس الموريتاني يترشح لولاية ثانية    نور الدين مفتاح يكتب: العمائم الإيرانية والغمائم العربية    كأس إيطاليا لكرة القدم.. أتالانتا يبلغ النهائي بفوزه على ضيفه فيورنتينا (4-1)    المنتخب المغربي لأقل من 18 سنة يفوز على غواتيمالا بالضربات الترجيحية    المنتخب المغربي ينهزم أمام مصر – بطولة اتحاد شمال إفريقيا    دراجي يهاجم "الكاف" بعد قراره الذي أنصف نهضة بركان    رابطة للطفولة تعرب عن قلقها من التركيز المبالغ فيه على محور التربية الجنسية والصحة الإنجابية للمراهق في دورة تكوين الأطر    لا تيتي لا حب لملوك: اتحاد العاصمة دارو ريوسهم فالكابرانات وتقصاو حتى من كأس الجزائر    عاجل.. كأس إفريقيا 2025 بالمغرب سيتم تأجيلها    أخنوش يرد على خصومه: الدولة الاجتماعية ليست مشروعا ل"البوليميك" والحكومة أحسنت تنزيله    جنايات أكادير تصدر حكمها في ملف "تصفية أمين تشاريز"    الشاطئ البلدي لطنجة يلفظ جثة شاب فقد الأسبوع الماضي    سانشيز: أفكر في إمكانية تقديم الاستقالة بعد الإعلان عن فتح تحقيق ضد زوجتي بتهمة استغلال النفوذ والفساد    بالأرقام .. أخنوش يكشف تدابير حكومته لمساندة المقاولات المتضررة جراء الأزمة الصحية    مكافأة مليون سنتيم لمن يعثر عليه.. هذه معطيات جديدة عن حيوان غريب ظهر في غابة    هادي خبار زينة.. أسماء المدير مخرجة "كذب أبيض" فلجنة تحكيم مهرجان كان العالمي    قميصُ بركان    مطار مراكش المنارة الدولي: ارتفاع بنسبة 22 في المائة في حركة النقل الجوي خلال الربع الأول من 2024    طقس الخميس.. أجواء حارة وقطرات مطرية بهذه المناطق    المغرب ومنظمة "الفاو" يوقعان على وثيقة "مستقبل مرن للماء" بميزانية 31.5 مليون دولار    رئيس وزراء اسبانيا يفكر في الاستقالة بعد فتح تحقيق ضد زوجته في قضية فساد    تسريب فيديوهات لتصفية حسابات بين بارونات بتطوان    اللجنة الجهوية للتنمية البشرية بالشمال تصادق على برنامج عمل يضم 394 مشروعا برسم سنة 2024    العدو الجزائري يقحم الرياضة من جديد في حربه على المغرب    النصب على حالمين بالهجرة يقود سيدتين الى سجن الحسيمة    الجامعة الملكية لكرة القدم تتوصل بقرار ال"كاف" بشأن مباراة نهضة بركان واتحاد العاصمة الجزائري    الجزائر تتوصل رسميا بقرار خسارة مباراة بركان و"الكاف" يهدد بعقوبات إضافية    بنكيران يهاجم أخنوش ويقول: الأموال حسمت الانتخابات الجزئية    لأول مرة في التاريخ سيرى ساكنة الناظور ومليلية هذا الحدث أوضح من العالم    أخنوش مقدما الحصيلة المرحلية: إجراءات الحكومة هدفها مناعة الأسرة التي هي "النواة الصلبة لكل التدخلات"    خارجية أمريكا: التقارير عن مقابر جماعية في غزة مقلقة    إستعدادُ إسرائيل لهجوم "قريب جداً" على رفح    سنطرال دانون تسلط الضوء على التقدم المحقق في برنامج "حليب بلادي" لفلاحة مستدامة ومتجددة    أيام قليلة على انتهاء إحصاء الأشخاص الذين يمكن استدعاؤهم لتشكيل فوج المجندين .. شباب أمام فرصة جديدة للاستفادة من تكوين متميز يفتح لهم آفاقا مهنية واعدة    الولايات المتحدة تنذر "تيك توك": إما قطع العلاقات مع بكين أو الحظر    برنامج دعم السكن.. معطيات رسمية: 8500 استفدو وشراو ديور وكثر من 65 ألف طلب للدعم منهم 38 فالمائة عيالات    الفوائد الصحية للبروكلي .. كنز من المعادن والفيتامينات    دراسة: النظام الغذائي المتوازن قد يساهم في تحسين صحة الدماغ    ارتفاع حصيلة العدوان الإسرائيلي على غزة إلى 34 ألفا و262 شهيدا منذ بدء الحرب    مدير المنظمة العالمية للملكية الفكرية : الملكية الفكرية تدعم جميع جوانب الحياة في المغرب، بما في ذلك الزليج    دراسة: تناول الأسبرين بشكل يومي يحد من خطر الإصابة بسرطان القولون        كلمة : الأغلبية والمناصب أولا !    اختتام فعاليات الويكاند المسرحي الثالث بآيت ورير    دراسة تبيّن وجود صلة بين بعض المستحلبات وخطر الإصابة بمرض السكري    في شأن الجدل القائم حول مدونة الأسرة بالمغرب: الجزء الأول    الموت يفجع شيماء عبد العزيز    جلسة قرائية تحتفي ب"ثربانتس" باليوم العالمي للكتاب    أسعار الذهب تواصل الانخفاض    صدور رواية "أحاسيس وصور" للكاتب المغربي مصطفى إسماعيلي    "الراصد الوطني للنشر والقراءة" في ضيافة ثانوية الشريف الرضي الإعدادية بعرباوة    "نسب الطفل بين أسباب التخلي وهشاشة التبني"    لقاء يستحضر مسار السوسيولوجي محمد جسوس من القرويين إلى "برينستون"    الإيمان القوي بعودة بودريقة! يجب على الرجاء البيضاوي ومقاطعة مرس السلطان والبرلمان أن يذهبوا إليه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كريم مروة: خطوة إلى الأمام... خطوتان إلى اليسار
نشر في بيان اليوم يوم 13 - 06 - 2010

إذا ما اتفقنا على أنّ وجود اليسار هو ضرورة موضوعية وحاجة وطنية قومية وعالمية، جاز الحديث والبحث عندئذٍ عن نهضة جديدة أو عن مفهومٍ جديدٍ لليسار. ولأنّ شبح السقوط المدوّي لما كان يسمى إصطلاحاً بالتجربة الاشتراكية المنجزة، ما زال وسيظلّ يُخيّم على العالم إلى أمدٍ غير منظور، سيبقى هاجس الخروج من المأزق نحو أفقٍ يساريّ ما، يكتسب مشروعية راهنة ومستقبلية.
------------------------------------------------------------------------
كريم مروّة، ذاك المفكر الشيوعي الذي يهجس دائماً بالجديد ويواكب حركته، الذي عارك وجادل في شأن اليسار وناضل في سبيله، يقدّم مساهمة في هذا المجال من خلال كتابه الجديد «نحو نهضة جديدة لليسار في العالم العربي» الصادر عن دار الساقي 2010، والذي يضم بين دفتيه قسمين. يتناول القسم الأول عدة مواضيع نذكر منها: اليسار في العالم العربي وتحولات العصر، الأزمة المالية العالمية الجديدة، نحو نظام عالمي جديد، المرتكزات الأساسية في مشروع التغيير باسم اليسار. ويضم القسم الثاني نصوصاً منتقاة من ماركس وإنجلز ولينين وبليخانوف وروزا لوكسمبورغ وغرامشي.
وقبل الولوج في مناقشة الكتاب، أظنّ بأنّ هذه العجالة لن تفي القسم الثاني منه حقّه من البحث النظريّ المعمّق للماركسية عبر ممثليها الكلاسيكيين، فهو قد يشكل مادةً لمقالٍ ثانٍ في المستقبل من الأيام. مع التشديد على العروة الوثقى بين جزأيْ الكتاب: «إنّ ثمة تواصلاً دائماً بين أحداث التاريخ الكبرى، والأفكار التي تولد في رحمها أو تُسهم في صنعها، وأنّ الجديد من الأحداث الكبرى ومن الأفكار المتصلة بها إنّما يولد من ذلك القديم، ويتخذ له بعد الولادة كياناً مستقلاً وسمات خاصة في شروط عصره...» (المقدمة، صفحة 9).
وبقدر ما يبتعد المرء عن إطلاق أحكام حتمية وعن استخدام عباراتٍ حاسمة، بقدر ما يقترب من العلمية أكثر. وبقدر ما يتحرّر اليساريّ الشيوعيّ من ثقل التجربة الماضية مع عدم القطع معها نهائيّاً، بقدر ما تنضج يساريّته وتتفتّح. وفي هذا الصدد – وعبر اللغة غير القطعية - أزعم بأنّ الكاتب عمد ونجح في استدراج المتلقي اليساري تحديداً إلى ملعبه، وتواطأ معه إيجابياً وضمنيّاً على بلورة مشروع يساريّ مستقبليّ من خلال اختبار مادة الكتاب ومناقشتها. أما الشرطان الضروريان لتحقيق هذا الهدف فمتوفران:
1- هاجس الكاتب وقلقه على مشروع اليسار.
2- توخي الدقة والموضوعية في طرح المشكلة/ الأزمة.
ويبدو أنّ الكاتب قد أفاد من خبرة الأيام وتجارب التاريخ، فجاءت أفكاره الأساسية نهضويّة أي منسجمة مع عنوان كتابه وهي تتلخص بالتالي:
أولاً: تجنّب الصيغة التقريرية وهذا ما ظهر في السطر الأول من الكتاب: «هذا الكتاب هو محاولة مجرد محاولة... وهي أفكار أحاول فيها وباسمها الإسهام في تقديم تصوّر جديد لليسار...». ويضيف مروه: «أما الهدف الثاني فهو استكمال معرفة أو محاولة معرفة ما توصل إليه ماركس...» (صفحة 8). وفي موقع آخر، ينبّه القارئ «الى أنّني لا أدّعي في هذا التقديم للكتاب، وفي الكتاب ذاته، أنني سأقدّم إجاباتٍ عن الأسئلة الكبرى التي تطرحها الأزمة الراهنة لليسار. كلا قطعاً» (صفحة 10).
ثانياً: التحرّر من عبء الأيديولوجيا في قراءة التجربة الفاشلة، وهذه خطوة جدُّ جدّية في الاتجاه الصحيح: «أما الشرط الثاني فهو أن تقوم هذه القوى الجديدة لليسار خصوصاً بقراءة غير أيديولوجية، أي من دون أفكار مسبقة، قراءة تتميّز بقدرٍ عالٍ من الدقة والعمق والموضوعية... والوظيفة الأساسية لهذه القراءة هي تقديم العناصر التي يمكن هذا اليسار الجديد أن يستند اليها في تحديد أهدافه الملموسة بواقعية، وفي تحديد وسائط نضاله بواقعية أيضاً، من أجل تحقيق هذه الأهداف» (صفحة 9). وللتدليل على صحة هذا الزعم أحيل القارئ الكريم إلى ما قاله يوماً لويس ألتوسير بأنّ أدلجة ماركس أماتته كفيلسوف وكاقتصادي فذّ.
ثالثاً: الالتفات إلى الجوهر الفعلي لنضال اليسار، إلى النواة الاجتماعية، أي إلى الإنسان الذي ظُلم وغُيّب في التجارب التاريخية السابقة؛ يقول كريم مروة: «... إلا أنّ لنضالنا الجديد... أشكالاً جديدة علينا أن نحددها بدقة وبواقعية آخذين في الاعتبار مبدأً أساسيّاً يتصل بالإنسان وبحريّته وبحقه الأساسي في الحياة، أي أنّ علينا أن نتجنّب في نضالنا الصعب القادم... الاستهانة بحقوق الإنسان والاستهانة بحياته...» (صفحة 19).
ولأن مشروع اليسار لا يتحقق بإيعاز من قوى ما فوق طبيعية، أو من خلال أحلام طفوليّة ورغبات بشرية مشروعة، ولاستكمال حلم ماركس في التغيير، فإنّ على اليسار أن يعي بأنّه لا يتحرّك في الفراغ، بل أنّ نضاله سيكون بالغ التعقيد والصعوبة» (صفحة 27) .
ومع اقتراب الكاتب من ملامسة لبّ القضية، أي نهضة اليسار، نراه ينفض عن كاهله ما عَلِق به من تعميمات وإسقاطات ويقينيّات لطالما كبّلت اليسار الماركسي وجعلته أسير قراءة صنميّة للماركسية أفرغتها من روحها أي من جدليّتها «التي تحترم اختلاف المراحل واختلاف الشروط التاريخية بين مرحلة وأخرى واختلاف المهمّات» (صفحة 56). أعتقد أنّ الكاتب هنا يلهج بلسان حاليّ وحال الكثيرين الحريصين على نهضة اليسار من كبوته لا بل سباته: «مهمّة اليسار الجديد في هذا الظرف التاريخي بالتحديد هي العمل على تحديد دقيق وواقعي للأهذاف ممكنة التحقيق، الأهداف التي تتصل بنقل بلداننا من حالتي التخلّف والاستبداد ووضعها على طريق الحرية والتقدّم واحترام حقوق الإنسان وإدخال القوانين الديمقراطية إلى مؤسسات دولها التي تجعلها جزءا من العصر ومن تحوّلاته...» (صفحة 54).
«لكنّني وأنا أتحدّث هنا كاشتراكي بحكم انتمائي التاريخي إلى الاشتراكية، بتّ أختلف في أمورٍ جوهريّة مع عدد غير قليل من مفاهيم ماركس التي شاخت وصارت جزءا من الماضي وتغيّرت علاقتها بالعصر، إلا أنّ اختلافي هذا مع تلك المفاهيم لا يُلغي ارتباطي الأساسي بما حلم به ماركس... على امتداد حياته، من تأكيدٍ على أنّ الإنسان الفرد والإنسان الجماعة، هو جوهر الحياة وهدف التقدّم في كل ميادينه».
وحسناً فعل الكاتب – قبل تقديم مقترحاته لنهضة اليسار – عندما حدّد مفهومه لليساريّ اليوم: «اليساريّ، إذن، يمكن أن يكون متأثراً بأفكار الاشتراكية منذ ماركس حتى اليوم، ويمكن أن يكون عضواً في حزب اشتراكي، أو شيوعي، أو في حزب قومي متأثر بالاشتراكية. ويمكن أن يكون ديمقراطيّاً بالمعنى الواسع للمفهوم. لذلك فاليساري الذي أتوجّه إليه في هذا البحث... هو... الذي يريد لبلده الحرية والتقدم اللذين لا يمكن تحقيقهما إلاّ بالنضال لإحداث تغيير جوهريّ في الوضع القائم» (صفحة 66). ويعتقد الكاتب «بأنّ الوظيفة الأساسية في تقديم القضايا الآتية الذكر كبرنامج لليسار الجديد هي تسليط الضوء على الواقع القائم، وإثارة النقاش حوله من أجل خلق وعي جديد يمهّد لنهضة جديدة لليسار في العالم العربي» (صفحة 77).
ونذكر بعض من هذه القضايا مثل: بناء الدولة الديمقراطية الحديثة. تحقيق التقدّم الإقتصادي. التنمية الاجتماعية والبشرية. الاهتمام بالشباب تنشئةُ وتعليماً. حقوق المرأة. الاهتمام بالبيئة. القضية الفلسطينية. حماية الأقلّيّات في العالم العربي. التعاون بين قوى التغيير في العالم العربي.
ومع تقديري الكبير لكل ما تمّ استعراضه من قضايا مقترحة لبرنامج اليسار الجديد، أعتقد بانّ ثمّة قضيّتين لم يُؤت على ذكرهما: قضية النضال من أجل عالمٍ خالٍ من السلاح النوويّ؛ وقضية إعادة التفكير في الهيكلية التنظيمية المركزية والمقفلة لأحزاب اليسار باتجاه اعتماد النسبية في التمثيل لمختلف الآراء والاجتهادات.
وسأسمح لنفسي في الختام، أن ألخّص كل ما ورد من قضايا في كلمة واحدة هي أنّ على قوى اليسار أن تلج الحداثة من بابها العريض. وعليها بعد التصالح مع ذاتها وواقعها، أن تعترف – إن أرادت ألاّ تتخلّف عن حركة الحياة – بأنّ العولمة هي ظاهرة موضوعية ذات اتجاه تقدّمي وبأن الوقوف في وجهها يعتبر موقفاً رجعيّاً.
وعليه، فهذه القوى منوطٌ بها أن تنخرط بقوّة في هذه العولمة، وتناضل بكل الأشكال وفي كل الساحات لأنسنتها كما ورد في متن الصفحات الأخيرة من القسم الأول من الكتاب.
***
وأقام المجلس الثقافي للبنان الجنوبي احتفالاً بمناسبة صدور كتاب كريم مروة «نحو نهضة جديدة لليسار في العالم العربي». وقد تُليت في الاحتفال كلمات عدة. في ما يلي كلمتي الناقد والباحث الفلسطيني فيصل دراج، والاستاذ الجامعي والكاتب اللبناني سناء أبو شقرا.
الكاتب فيصل دراج: القلق والهوية
الحديث عن كريم مروة حديث عن القلق والإقلاق الفكريين، وحديث عن هوية، لا تستمر في الحياة إلا إذا تجدد، فكرياً، المنتمون إليها. منذ منتصف السبعينات الماضية، وما تلاها، كتب كريم في مجلة «الطريق» الراحلة عن أزمة حركة التحرر العربي. وكتب، بعد سقوط التجربة الاشتراكية، عن التجدد الفكري وحوار الأيديولجيات، والحوار المحتمل بين العلمانيين وغيرهم، ووصل إلى اجتهاد مضطرب، قصّر المسافة بين الاشتراكية والليبرالية. كان يقول في مسعاه: أنا أفكر إذن فأنا موجود، وأنا أقترح فأنا موجود، وأنا أفكر وأقترح من وجهة نظر هويتي، هوية اليسار.
يستأنف في كتابه الجديد «نحو نهضة جديدة لليسار في العالم العربي» ما بدأ به منذ عقود. ويستأنف إقلاقنا، متفائلاً، في زمن عربي تخفف من الحركة والتنفس. ربما هذا دوره، فقد كان حزبياً لعهد طويل، والحزبيون متفائلون بطبعهم. غير أنه وهو يطرح، متفائلاً، ما يقترحه لا تغيب عنه صعوبة الطريق. ولهذا قال: «نحو»، مشيراً إلى بداية مقترحة، لايعلم نهايتها إلا الله. ولهذا أيضاً عهد، في كتابه، إلى اليسار المبشر به بمهمة «بناء الدولة»، التي تحتاج إلى يسار بصيغة الجمع، وإلى يمين ويسار، وإلى يمين بصيغة الجمع أيضاً.
ومع أنه يدعو إلى نهضة اليسار فهو يدعو، ضمنياً، إلى نهضة اليمين، إذ لا يسار بلا يمين، ولا يسار ولا يمين، وهما فكرتان سياسيتان، إلا بفضاء سياسي ديمقراطي لا وجود له في العالم العربي. وقد يقال إن اليمين موجود. وهذا القول، بالمعنى السياسي، ليس صحيحاً. فالسلطات العربية لا تقبل بالسياسة ولا تمارسها، منذ أن طردت مبدأ الهيمنة بمبدأ القمع، والجماعات المتعصبة، التي «تحتكر الإيمان»، ترمي بالسياسة خارجاً، منذ أن قرر المؤمن، وهو فكرة مجردة، أن يطرد فكرة «المواطن» والمجتمع.
يبدأ مروة من نهضة اليسار التي تتضمن، منطقياً، نهضة اليمين، ويعطف عليهما فكرة بناء الدولة، داعياً إلى الحداثة الاجتماعية، التي تتضمن الديمقراطية والسياسة والمواطنة ودولة القانون والإلتزام بقضية فلسطين، التي تعبّر عن العجز العربي قبل أن تحيل على الضياع الفلسطيني. وإذا كان في الدعوة إلى نهوض اليسار وضوح مجزوء، فإن الربط بين توليد اليسار المنشود وبناء الدولة العربية المنشودة فيه من الألغاز شيء كثير.
هنا يبدو كريم مروة قلقاً ومقلقاً، وهنا يلتحف بفضيلتين كريمتين، ويتطلع إلى حلول، ممكنة ربما، ومؤجلة كثيراً على الأرجح. فهو قلق يتحدث عما يجب أن يكون، وهو مقلق في طرح الأسئلة: كيف نستولد السياسة من مجتمع عربي أبوي طارد للسياسة، وكيف يخلق يسار في مجتمع ما قبل- حداثي، وكيف تنجو فلسطين من «سطوة» العجز العربي وبربرية الاحتلال الصهيوني؟ تحيل هذه الأسئلة على رهان ما، وعلى إرادات ما، وعلى مستقبل ما قد يأتي وقد لا يأتي.
لازمت فكرة الرهان الإيطالي ميكيافيللي حين سأل: كيف يمكن توليد إمارة جديدة من إمارة غائبة؟ ولازمت طه حسين حين سأل كيف يمكن توليد مجتمع تظلله المعرفة من مجتمع تكتسحه الأمية وتسوسه سياسة فاسدة؟ نجح الأول وأخفق الثاني وبقيت فكرة الرهان، التي تمسك بها رمانسيون قدامى وجدد، اعتقدوا أن «مبدأ الأمل» يروض الحاضر والمستقبل معاً. ولهذا لا يزال كريم مروة، كما غيره من النهضويين العرب، يقتفي آثار طه حسين، وإن أخذت الخطى المتعبة، هذه المرة، صيغة اليسار، لا صيغة النهضة، وهما متماثلتان على أية حال.
وسؤال مروة هو: هوية اليسار، التي تختلف فيها الفكرة عن التطبيق. فللأفكار الممتدة من عبد الرحمن الكواكبي إلى غرامشي، ومن فرح أنطون إلى مهدي عامل، فضاؤها المجرد الخاص، وللتطبيق حيز آخر يتضمن الشرف والمعاناة والانحراف والانحدار أيضاًً.
قد يكون في حديث مروة ما يدفع إلى طرح أسئلة ثلاث: متى كان اليسار العربي، في عمله السياسي، يسارياً، ومتى كان هذا اليسار نفسه، في العمل السياسي، يمينياً. ما الذي يمكن استئنافه من تاريخ اليسار الذي وقع في أكثر من خطأ، وقدم مساهمة واسعة في الثقافة وتحديث الثقافة العربية؟ وثالث الأسئلة هو: ما هو شكل اليسار المقترح اليوم، في سياق عربي قطع كلياً مع السياق السابق الذي أعطى مظاهر حداثية منها ولادة اليسار العربي؟
مهما تكن الإجابة فإن وجود اليسار العربي كان ضرورة في الماضي، ولا يزال ضرورياً لمستقبل العالم العربي، رغم دعاة الاستثنائية العربية، الذين يضعون المجتمعات العربية خارج التاريخ. اليسار، في التحديد الأخير، هو النقد الوطني البناء من وجهة نظر الحداثة الكونية والتحرر الوطني، والدفاع عن فلسطين من دون أوهام، وهوية اليسار من تنظيم النقد الجماعي، الذي يعثر، بعد زمن، على أشكال الحزبية الملائمة.
كريم مروة إنسان موقف، ومثقف قضية، يدافع عن أفكاره الثابتة بأشكال متغيرة، ويسأل ويسائل غيره، مدفوعاً بصدى من الماضي يقول: ما العمل؟
الكاتب سناء أبو شقرا: التجديد والبناء والأمل
في ليل الأزمات ينحت كريم مروة مسارب للأمل وكوى للحلم. إنها لقدرة مذهلة على التفاؤل، يدفعها اجتهاد لا يتعب، وهمة شابة، مجنحة تتوسل حدود المعجزة – أقول المعجزة لأنني لا أؤمن بحدود للوهم.
لم يفارق مشروع تجديد اليسار، فكرا» وممارسة وتنظيما»، عقل كريم منذ كان أحد قادة هذا اليسار البارزين. كتب، وناضل، وثابر، محاولا «تقصي أسباب الفشل في مواجهة التحديات الجديدة دائما». وها هو اليوم يضيء، مع شمعة الثمانين، نجمة جديدة يضيفها إلى كوكبة أعماله الفكرية.
لن أناقش في هذا التقديم السريع مضمون الكتاب وقضاياه. سيكون نقاش، ونأمل أن يساهم فيه كثيرون. هنا أكتفي فقط بإشارتين :
الأولى هي أن تجديد اليسار أو بناء يسار جديد هما، بالنسبة لكريم، تعبيران عن معنى واحد في نهاية المطاف، حتى لو كان التعبير موضع جدل، وحتى لو كان الاختلاف يذهب أبعد من اللغة الأبجدية إلى لغة الترميز الواسع. هو لا يحب أن يقطع بل أن يتجاوز، بالمعنى الجدلي الإيجابي لفكرة التجاوز. ثم هناك امتلاء الذاكرة، وهناك الحنين الإنساني، وهناك الأهم : التواضع. فتوليد الجديد أبوة تحمل تعسفا وادعاء بعيدين تماما عن بنية كريم النفسية والذهنية. همه أن يحفز اليسار، قائما أو آتيا من الغد، لأن يكتشف في نفسه عناصر الحياة، والقدرة على إبداع نماذج اجتماعية وفكرية تستجيب لضرورات المواجهة في المرحلة الراهنة من تطور العالم والرأسمالية.
الثانية إشارة من بنية البحث: عندما يثقل المؤلف كتابه بنصوص مختارة من كلاسيكيات الفكر الماركسي – وهي بالمناسبة نصوص جميلة وحاضرة – فليس لأنه يقترحها مرجعية جديدة لمنظومة أيديولوجية ليسار ما، بل للتمثل بكون ماركس تعامل مع فكره – ودعا الآخرين لأن يفعلوا – ككتابة مفتوحة على الاحتمالات، ونقد مستمر من الفكر للفكر نفسه، حين يمتحن ذاته في تجارب الحياة. أجمل وأرقى الأفكار لا تعدو كونها تأطيرا «باهتا» للحظات عابرة من الإنساني، الحي، الباحث أبدا عن العدالة والحرية في دروب التاريخ والمستقبل.
محاولات إصلاح كثيرة فشلت عبر التاريخ، لكنها تركت، كلها، معالم وبصمات. وإذا كانت محاولات القرن العشرين التي أعلنت نفسها اشتراكية، قد قصرت عن أهدافها المعلنة، إلا أن بصماتها على التاريخ كانت أكثر عمقا وتأثيرا، لأن منظومات القيم اكتسبت هذه المرة قدرة أعلى على التحقق عبر التصاقها المباشر والواعي بالصراع الاجتماعي، من جهة، وبإرادة الناس في تقرير مصائرهم من جهة ثانية، بعيدا «عن أية قوى متعالية عن المجتمع، غامضة الأهداف، أو مجهولة الدوافع. مع ماركس الصراع بات مكشوفا والتاريخ شفافا».
ذلك هو كريم في كتابه الجديد. حامل القيم عينها التي تخاطب عقل ونضال الملايين من البشر للخروج من غابة الاستغلال، والتخلف، والجشع، وشهوات السلطة إلى مجتمع جدير باسم الإنسانية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.