وفد قضائي وطني رفيع يزور جماعة الطاح بطرفاية تخليداً للذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء واستحضاراً للموقع التاريخي للملك الراحل الحسن الثاني    مؤسسة طنجة الكبرى: معرض الطوابع البريدية يؤرخ لملحمة المسيرة الخضراء    هنا المغرب    ألعاب التضامن الإسلامي (الرياض 2025).. المنتخب المغربي لكرة القدم داخل القاعة إلى النهائي بعد تجاوز المنتخب السعودي في نصف النهاية    لقاء الجيش و"الماص" ينتهي بالبياض    تراجع عجز السيولة البنكية إلى 142,1 مليار درهم    تتويج المغربي بنعيسى اليحياوي بجائزة في زيورخ تقديرا لالتزامه بتعزيز الحوار بين الثقافات    نبيل باها: عزيمة اللاعبين كانت مفتاح الفوز الكبير أمام كاليدونيا الجديدة    بنكيران: "البيجيدي" هو سبب خروج احتجاجات "جيل زد" ودعم الشباب للانتخابات كمستقلين "ريع ورشوة"    الأقاليم الجنوبية، نموذج مُلهم للتنمية المستدامة في إفريقيا (محلل سياسي سنغالي)    "أونسا" ترد على الإشاعات وتؤكد سلامة زيت الزيتون العائدة من بلجيكا    ست ورشات مسرحية تبهج عشرات التلاميذ بمدارس عمالة المضيق وتصالحهم مع أبو الفنون    الدار البيضاء تحتفي بالإبداع الرقمي الفرنسي في الدورة 31 للمهرجان الدولي لفن الفيديو    كرة القدم ..المباراة الودية بين المنتخب المغربي ونظيره الموزمبيقى تجرى بشبابيك مغلقة (اللجنة المنظمة )    نصف نهائي العاب التضامن الإسلامي.. تشكيلة المنتخب الوطني لكرة القدم داخل القاعة أمام السعودية    المنتخب المغربي الرديف ..توجيه الدعوة ل29 لاعبا للدخول في تجمع مغلق استعدادا لنهائيات كأس العرب (قطر 2025)    حماس تدعو الوسطاء لإيجاد حل لمقاتليها العالقين في رفح وتؤكد أنهم "لن يستسلموا لإسرائيل"    أيت بودلال يعوض أكرد في المنتخب    أسيدون يوارى الثرى بالمقبرة اليهودية.. والعلم الفلسطيني يرافقه إلى القبر    بعد فراره… مطالب حقوقية بالتحقيق مع راهب متهم بالاعتداء الجنسي على قاصرين لاجئين بالدار البيضاء    وفاة زغلول النجار الباحث المصري في الإعجاز العلمي بالقرآن عن عمر 92 عاما    توقيف مسؤول بمجلس جهة فاس مكناس للتحقيق في قضية الاتجار الدولي بالمخدرات    بأعلام فلسطين والكوفيات.. عشرات النشطاء الحقوقيين والمناهضين للتطبيع يشيعون جنازة المناضل سيون أسيدون    بين ليلة وضحاها.. المغرب يوجه لأعدائه الضربة القاضية بلغة السلام    حصيلة ضحايا غزة تبلغ 69176 قتيلا    عمر هلال: اعتراف ترامب غيّر مسار قضية الصحراء، والمغرب يمد يده لمصالحة صادقة مع الجزائر    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الإثنين    مديرة مكتب التكوين المهني تشتكي عرقلة وزارة التشغيل لمشاريع مدن المهن والكفاءات التي أطلقها الملك محمد السادس    الكلمة التحليلية في زمن التوتر والاحتقان    الرئيس السوري أحمد الشرع يبدأ زيارة رسمية غير مسبوقة إلى الولايات المتحدة    شباب مرتيل يحتفون بالمسيرة الخضراء في نشاط وطني متميز    مقتل ثلاثة أشخاص وجرح آخرين في غارات إسرائيلية على جنوب لبنان    "حماس" تعلن العثور على جثة غولدين    دراسة أمريكية: المعرفة عبر الذكاء الاصطناعي أقل عمقًا وأضعف تأثيرًا    إنفانتينو: أداء المنتخبات الوطنية المغربية هو ثمرة عمل استثنائي    النفق البحري المغربي الإسباني.. مشروع القرن يقترب من الواقع للربط بين إفريقيا وأوروبا    درك سيدي علال التازي ينجح في حجز سيارة محملة بالمخدرات    لفتيت يشرف على تنصيب امحمد العطفاوي واليا لجهة الشرق    الأمواج العاتية تودي بحياة ثلاثة أشخاص في جزيرة تينيريفي الإسبانية    فرنسا.. فتح تحقيق في تهديد إرهابي يشمل أحد المشاركين في هجمات باريس الدامية للعام 2015    الطالبي العلمي يكشف حصيلة السنة التشريعية    ميزانية مجلس النواب لسنة 2026: كلفة النائب تتجاوز 1.59 مليون درهم سنوياً    الدار البيضاء: لقاء تواصلي لفائدة أطفال الهيموفيليا وأولياء أمورهم    "أونسا" يؤكد سلامة زيت الزيتون    "يونيسيف" ضيفا للشرف.. بنسعيد يفتتح المعرض الدولي لكتاب الطفل والشباب    بيليم.. بنعلي تقدم النسخة الثالثة للمساهمة المحددة وطنيا وتدعو إلى ميثاق جديد للثقة المناخية    تعليق الرحلات الجوية بمطار الشريف الإدريسي بالحسيمة بسبب تدريبات عسكرية    مخاوف برلمانية من شيخوخة سكانية بعد تراجع معدل الخصوبة بالمغرب    الداخلة ترسي دعائم قطب نموذجي في الصناعة التقليدية والاقتصاد الاجتماعي    مهرجان الدوحة السينمائي يعرض إبداعات المواهب المحلية في برنامج "صُنع في قطر" من خلال عشر قصص آسرة    وفاة "رائد أبحاث الحمض النووي" عن 97 عاما    سبتة تبدأ حملة تلقيح جديدة ضد فيروس "كورونا"    دراسة: المشي يعزز قدرة الدماغ على معالجة الأصوات    الوجبات السائلة .. عناصر غذائية وعيوب حاضرة    بينهم مغاربة.. منصة "نسك" تخدم 40 مليون مستخدم ومبادرة "طريق مكة" تسهّل رحلة أكثر من 300 ألف من الحجاج    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    حِينَ تُخْتَبَرُ الْفِكْرَةُ فِي مِحْرَابِ السُّلْطَةِ    أمير المؤمنين يأذن بوضع نص فتوى الزكاة رهن إشارة العموم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لورنس العرب العقل الاستشراقي الذي صدق أحلام العرب بالحرية
نشر في بيان اليوم يوم 03 - 01 - 2014

بموت الممثل بيتر أوتول قبل أيام، وبفضل الجحيم المستعر في سوريا قرابة السنوات الثلاث الماضية، ومشهد تصارع المحاور في المنطقة العربية، أعيد إلى الحياة شبحٌ لطالما هربت منه الحكومات الغربية، فقد خرج الجندي البريطاني، وعالم الآثار السابق "تي إي لورنس» عن السيطرة، حين شارك العرب ثورتهم من أجل الاستقلال عن الحكم التركي، ولكن هذا كان قد كلّفه كلّ شيء من سمعته إلى حياته. في المنزل رقم 2 في أحد شوارع أكسفورد، عاش طفل أنكليزي من مواليد صيف العام 1888 في عائلته الكبيرة، التي اتهمت بأنها خالفت تعليمات الكنيسة، حين قرّر مؤسسها والد لورنس ترك زوجته والارتباط بالخادمة لينجب منها أطفاله الجدد، وبينهم كان الطفل الذي سيعرف باسم لورنس العرب ويتحوّل إلى أسطورة في الغرب والشرق معا، صنعت خرائط القرن العشرين وما زالت تداعياتها تنزف ما بين الشعوب التي صدّقتها وتلك التي احتقرتها واعتبرتها مجرد أحلام.
لن تكفي المقالات والأبحاث والأفلام الوثائقية، لتصوير مدى حساسية اللحظة التي ظهر فيها شاب يدرس العلوم في جامعة أكسفورد وخطورتها، وهو يطأ بقدميه أرض بلاد الشام، في العام 1909 قادما بهدف دراسة تصاميم القلاع الصليبية، لتقوده تلك القدمان إلى قلعة الحصن في حمص في سوريا، ويسلك دروبه المتعرجة نحو حلب، حيث أقام في الغرفة 202 التي ما زالت تحتفظ بصورته حتى اللحظة في فندق بارون العريق، ثم ليمضي في رحلته منقادا بهوس شخصي بالعيش داخل عالم العصور الوسطى، وليتتبع مجرى نهر الفرات، مصورا بقلم الفحم كل أثر يتمكن من رؤيته، قبل أن يهبط إلى البحر الميت وشاطئ المتوسط وليستقر فترة من الزمن في كركميش التي أصبحت في تركيا الآن.
في تلك المنطقة تعرّف لورنس على شاب من البدو، ونشأت بين الاثنين صداقة حميمة، وصل بعض المؤرخين في تفسيرها إلى تحليل شخصية لورنس نفسيا ليثبتوا ميوله المثلية، وإلى هذا الشاب أهدى لورنس كتابه المثير فيما بعد عن ثورة العرب الأولى في العصر الحديث «أعمدة الحكمة السبعة» فكتب بحروف بارزة TO S.A، والتقط الصور الفوتوغرافية لصديقه العزيز، الذي ناضل في اللاحق من السنوات من أجل أن يحصل على حريته وحقّه في تقرير مصيره، عاد لورنس إلى أكسفورد عارضاً بحثه، وتخرّج من الجامعة حاملا الإجازة في العلوم في العام 1910، وحصل على وظيفته الأولى كعالم آثار في الشرق الأوسط ليتحقق حلم شبابه، بعد أن تعلّم العربية وصار يتحدث بها باللهجة الحلبية، ليعود إلى الشرق من جديد، ويتابع بحثه الذي تحوّل إلى كتاب بعنوان «القلاع الصليبية»، ثم يغادر إلى أنكلترا من جديد، ليغيّر موقع تنقيبه إلى مصر ثم يغادرها سريعاً، في العام 1911، وكان إمبراطور ألمانيا غليوم الثاني قد زار الدولة العثمانية قبل ثلاث سنوات، ووصل إلى دمشق، حيث قدّم هديته لقبر صلاح الدين الأيوبي ضريحا رخاميا مزخرفا ما يزال يستقر بجوار ضريحه القديم وإكليلا إمبراطوريا من البرونز تقديرا لدور صلاح الدين التاريخي والثقافي، الأمر الذي استفز لورنس لسبب ما، مما دفعه إلى الرحيل سريعا إلى القاهرة حيث الممثل البريطاني اللورد كتشنر، ليخبره عن اتفاقية عقدها العثمانيون مع الألمان لاستئناف مد سكة حديد قطارٍ يربط برلين بحلب وبغداد والمشرق عبر الأناضول، وهذا ما اعتبره لورنس تهديدا حقيقيا لمصالح بريطانيا في بلاد العرب.
أصبح لورنس من أشهر علماء الآثار في ذلك الوقت، رغم صغر سنّه، وتزامن هذا مع اندلاع الحرب العالمية الأولى، فلم يتردّد السير جليبرت كلايتون بالاتصال به، ودعوته للمشاركة في الأبحاث والدراسات التي كانت تخدم الجيوش البريطانية في الشرق في مقر القيادة في القاهرة، وما لبث أن انتقل إلى قسم المخابرات السرية الخاصة، حيث تنامى إلى مسامع المخابرات أنباء عن نوايا بالاستقلال والانفصال عن الحكم العثماني لوالي مكة، الشريف حسين، الذي أراد نقل الخلافة إلى العرب بدلا عن اسطنبول، وهذا ما تركّز عليه بحث لورنس، ولتبدأ سلسلة مراسلاتٍ ما بين حسين في مكة وبين الممثل الأعلى للملك البريطاني في مصر السير هنري مكماهون، فأوفد لورنس إلى الحجاز، وكان الشريف حسين قد سمع أن مجموعة من المثقفين العرب في دمشق وقعوا وثيقة للاستقلال عن الحكم التركي، فأرسل اثنين من أبنائه وهما عبدالله وفيصل للاجتماع بهؤلاء المثقفين السوريين، وهناك رأى فيصل الإعدامات التي نفذها جمال باشا بحق المطالبين بالتحرر في العام 1916، ليعود إلى والده، حاملا ما عرف بأشهر وثائق تلك المرحلة « بروتوكول دمشق» الذي نصّ على «أن تعترف بريطانيا باستقلال البلاد العربية الواقعة ضمن الحدود التي تبدأ شمالاً: بخط مرسين- أطنة، ممتدا على أورفة وماردين وجزيرة ابن عمر فحدود فارس، وشرقا: حدود إيران حتى الخليج، وجنوبا: المحيط الهندي، ما عدا عدن، وغربا: البحر الأحمر والأبيض حتى مرسين، إضافة إلى إلغاء الامتيازات الأجنبية، وعقد تحالف دفاعي بين بريطانيا والدولة العربية المستقلة، ومنح بريطانيا الأفضلية في الشؤون الاقتصادية». وهي الوثيقة التي أرسلها الشريف حسين حرفيا إلى مكماهون في القاهرة، ومن خلال المراسلات المتبادلة، تعهدت بريطانيا بالاعتراف بالاستقلال العربي وتأييده.
في دمشق دفع قادة الحركة العربية الأمير فيصل بن الحسين إلى إعلان الثورة بأسرع وقت، وقد أعلنت في 10 يونيو من العام 1916، من جدة ومكة ووصلت إلى المويلح والطائف، وبين العامين 1916-1917 انضم إلى جيش الشريف حسين عدد من الضباط العسكريين والمتطوعين من سوريا وفلسطين ممن كانوا في الجيش العثماني وتطوع كثير من عرب المشرق، كانت قيادتهم بمشورة عالم الآثار البريطاني لورنس وتدبيره.
قرّر لورنس المضي في دعم الثورة التي آمن بصدق أبنائها، وطالب حكومته بتنفيذ وعدها بالدعم العسكري والمالي للشريف حسين ومقاتليه، وأرسل المبعوثين إلى شيوخ العشائر بعد أن اتخذ لنفسه هيئة عربية، وبات لا يتحرّك إلى وهو يرتدي الثوب وغطاء الرأس والعقال، وكان من هؤلاء الذين استجابوا لدعوة لورنس « جعفر باشا العسكري» العراقي الذي شارك في العمليات قائدا للجيش الشمالي ومعه زوج أخته نوري السعيد، وكذلك الشيخ العنزي الملثّم «نوري الشعلان» شيخ مشايخ الرولة من منطقة الجوف إلى عدرا قرب دمشق والبادية السورية شرقا، وانضم إلى الجيش الشيخ «عودة أبو تايه» الذي دعم الثورة بمقاتليه الأشداء، وقرّر لورنس أنه لابد من التخلص من جيب المدينة المنورة التركي، وبدأ بنسف خط سكة حديد الحجاز الذي يربط ما بين دمشق والمدينة المنورة كي يقطع طرق الإمداد، ثم قرّر التوجّه إلى العقبة لفتح ثغرة في الشمال، واستطاع بفضل طليعة من خمسمائة مقاتل تحقيق الانتصار والسيطرة على العقبة.
دمشق.. مركز المشرق العربي
في تلك الأثناء تقدّم جيش الجنرال اللنبي نحو القدس، ورأى لورنس أنه لا يمكن السيطرة على المشرق دون احتلال دمشق، بينما اعتبر اللنبي أنه لا بد للبريطانيين من تحقيق ما يسمّى بالفتح، ودخول دمشق كما فعل القادة التاريخيون عبر العصور، ولكن لورنس أراد لجيش الأمير العربي أن يدخل المدينة أولا، واجتمع مع اللنبي في القدس وأقنعه بضرورة زيادة دعم الأمير فيصل باعتباره القائد القادم للثورة، فتعهد الجنرال بتحمل كافة نفقاته وأرسل إليه مع لورنس مبلغ ثلاثمئة ألف جنيه وجمالا محمله بالمؤن.
وحين كانت تلك الحوارات تدور، كان رجلان يجتمعان بشكل سرّي، ويضعان الخرائط ويتفقان على تسوية كبرى ستحصل في حال تحقيق انتصار في سوريا، إنهما اللورد سايكس والمسيو بيكو، ممثلين عن بريطانيا وفرنسا، في العامين 19151916 وكانت على صورة تبادل وثائق بين وزارات خارجية فرنسا وبريطانيا وروسيا القيصرية آنذاك، وتم تقسيم الهلال الخصيب بموجب الاتفاق، وحصلت فرنسا على الجزء الأكبر من الجناح الغربي من الهلال (سوريا ولبنان) ومنطقة الموصل في العراق، أما بريطانيا فامتدت مناطق سيطرتها من طرف بلاد الشام الجنوبي متوسعا بالاتجاه شرقا لتضم بغداد والبصرة وجميع المناطق الواقعة بين الخليج العربي والمنطقة الفرنسية في سوريا، كما تقرر أن تقع فلسطين تحت إدارة دولية يتم الاتفاق عليها بالتشاور بين بريطانيا وفرنسا وروسيا، ولكن الاتفاق نص على منح بريطانيا مينائي حيفا وعكا على أن يكون لفرنسا حرية استخدام ميناء حيفا، ومنحت فرنسا لبريطانيا بالمقابل استخدام ميناء الأسكندرونة الذي كان سيقع في حوزتها، وقد تسربت للورنس أخبار عن تلك الاجتماعات، ولكنه كتمها عن الأمير فيصل والجيش العربي، حتى يضمن الاستمرار في الحرب والتقدم نحو دمشق.
الضربة التالية التي تلقاها لورنس كانت الوعد البريطاني للحركة الصهيونية العالمية بمنح الجزء الغربي الجنوبي من سوريا المسمى فلسطين ليهود العالم ليقيموا عليه الوطن القومي الخاص بهم، وهو ما عرف ب"وعد بلفور" وهي رسالة أرسلها آرثر جيمس بلفور بتاريخ 2 نوفمبر تشرين الثاني من العام 1917 إلى اللورد ليونيل وولتر دي روتشيلد يشير فيها إلى تأييد الحكومة البريطانية لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، ولكنه قرّر المتابعة في طريقه إلى دمشق، ليقطع الطريق على رؤسائه من البريطانيين، الذين أدركوا أن جنديّهم قد أفلت من سيطرتهم.
استمرت الثورة العربية ثلاث سنوات حارب فيها العرب على جبهات عدّة في سبيل الحرية، وتقرير المصير، وكان جيش فيصل والحسين معسكرا في الأردن، ولكن لورنس أراد أن يذهب بعيداً في المغامرة، فكتب عن زيارته السرية إلى درعا، حين ألقى الأتراك القبض عليه، وتعرّض للاغتصاب كما ألمح، ولكن المؤرخين البريطانيين يشككون في تلك الرواية، ويقولون إن هدف لورنس من كتابتها كان وضع عقاب كبير في سرده للأحداث، على خيانته للعرب، التي يعتبر أنه قام بها، بدفعهم إلى الثورة، بينما تعقد خلف ظهورهم الصفقات، وعاد لورنس من درعا، كما يقول، ونسف الجسر الواصل بين حوران ودمشق مما عزل درعا تماما استعدادا للهجوم الكبير بقيادة اللنبي، ثم تقدّم جيش فيصل وجيش اللنبي وفرقة أسترالية تتبع للجيش البريطاني نحو دمشق، وفي 27 أيلول من العام 1918، رفع العلم العربي في دمشق وتشكلت الحكومة العربية الأولى برئاسة الأمير محمد سعيد الجزائري، بعد انسحاب الحامية التركية التي قرّرت مغادرة المدينة دون أن تراق فيها الدماء، وقد شكّل تلك الحكومة وجهاء دمشق وأعيانها بانتظار وصول جيش الأمير فيصل، ولم تستمر حكومة الجزائري أكثر من ثلاثة أيام، إذ دخل لورنس مع قوات الشريف ناصر وقوات من الجيش العربي دمشق في 1 تشرين الأول نوفمبر من العام 1918، قبل أن تصلها الفرقة الأستراليّة بقيادة "شوفيل" التي دخلت دمشق في 10 تشرين الأول، ثم دخل الجنرال إدموند اللنبي القائد العام لقوات الحلفاء في الشرق، ومعه الجنرال كلايتون والجنرال كونواليس، وعندما وصل فيصل إلى دمشق استقبل استقبالا شعبيا وعسكريا منقطع النظير، بترتيب من شخص كان بين المحتفلين ولم يكن يبدو عليه الفرح، إنه لورنس.. الذي طلب من الجنرال اللنبي أن يوافق على إعادته على الفور إلى بريطانيا لأن مهمته قد انتهت، فترك دمشق لفيصل الذي أدار البلاد كأمير في الفترة ما بين 1918 – 1920 ثم كملك بعد إعلان الاستقلال في 8 آذار 1920حين تم إعلان المملكة السورية العربية أول دولة عربية مستقلة في التاريخ الحديث.
آثار الحرب
قبل ذلك كان لورنس قد عرف أنه تم استخدامه، مثلما تم استخدام العرب في المشروع الاستعماري المباشر، الذي هدف إلى احتلال تركة الدولة العثمانية وإخضاع شعوبها، وأن وعد بريطانيا للعرب بالحرية كان مجرد خداع، فغادر دمشق إلى بريطانيا ولكنه لم ينس أن يأخذ معه الإكليل البرونزي الذي أهداه الإمبراطور غليوم الثاني لصلاح الدين الأيوبي معتبرا إياه من غنائم الحرب، وتابع من لندن محاولة التّكفير عن ذنبه بدعوة فيصل الذي أصبح ملكا على سوريا، لمؤتمر لندن الذي أرادت بريطانيا أن تجمع فيه ما بين وجهتي النظر العربية والصهيونية، فغادر فيصل على ظهر بارجة بريطانية من حيفا إلى مرسيليا ومنها إلى لندن، واستطاع لورنس ترتيب دعوة لفيصل إلى باريس حيث وقّع فيصل على ما عرف في وثائق الأمم المتحدة فيما بعد ب "اتفاقية فيصل – وايزمان" ،التي أبرمها مع حاييم وايزمان رئيس المنظمة الصهيونية العالمية في مؤتمر باريس للسلام 1919 ويعطي بها لليهود تسهيلات في إنشاء وطن في فلسطين والإقرار بوعد بلفور، وقد أبرمت في "لندن، إنجلترا في اليوم الثالث من شهر جانفي سنة 1919 «.
حلم لورنس والحلم العربي
عاد فيصل إلى سوريا، وتقدّم الفرنسيون بجيوشهم وخلعوه، بينما ضاع لورنس في كتابه «أعمدة الحكمة السبعة» الذي كتبه على مدى سنوات تلت الثورة العربية، مؤرخا أحداثها ويومياته فيها، وذاعت شهرته بعد الفيلم الأميركي الذي أنتجه مخرج رافق العمليات العسكرية في حينها، ولكنه كان يهرب من الشهرة، وينكفئ إلى البحث، يكاد يحرقه شعوره بالذنب كما كان يقول، ولذلك فقد رفض وسام الشرف من ملك بريطانيا، مما أثار الصحافة ضدّه، فقرّر الاختباء في شخصية أخرى، وقام بتغيير اسمه وتطوّع كجندي في سلاح الجو البريطاني، ولكن سرعان ما افتضح أمره وتم فصله من الجيش، وعرض عليه ونستون تشرشل أن يكون مستشاره الخاص بالشرق الأوسط، ولكنه اعتذر ورفض عروضا أخرى، وعاش معتزلا في كوخ في منطقة "بوفينجتون" حيث شهد أحد مواطنيه ، بعد ثلاثين سنة من موته، بأن لورنس كان يدفع له الأموال كي يقوم بجلده يوميا، ومات بحادثة بسيطة بعد أن انقلبت دراجته النارية في العام 1935، وعمره ستة وأربعون عاما، و قال عنه ونستون تشرشل "إنه لن يظهر له مثيل مهما كانت الحاجة ماسّة إليه.. وكان وعداً أكثر من كونه شهادة تقدير"، فلم تسمح الحكومات الغربية لأحد موظفيها بقيادة العرب وأحلامهم بالحرية والاستقلال بعد لورنس، و يمكن للمرء أن يتساءل اليوم، ترى كيف فكّر الشاب الأشقر البريطاني، هو يزرع أصابع الديناميت تحت خطوط سكة الحديد التي تربط دمشق بمكّة والجزيرة العربية؟ ناسفا أقوى طريق للإمداد العسكري والتمويني بين جانبي فضاء حيوي لطالما كان واحدا عبر العصور، وهو بعبقريّته ودهائه كان يعرف أن الأمر ليس مجرّد تدمير لطريق قطار، بل إنه فصم وتهشيم كامل لما تبقى من رابطة جمعت ما بين الحرم الشريف وشام شريف.. تمزيق نرى آثاره اليوم واضحة ناصعة جارحة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.